مقالات

نُبذةٌ عن حديث الغدير

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريَّا بركات
١ أكتوبر ٢٠١٥


أوَّلاً ـ فكرةٌ عن ألفاظ الحديث:

المقصود بحديث الغدير هو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : “من كنتُ مَولاهُ فعليٌّ مَولاهُ، اللهمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ”. أورده بهذا اللفظ الألباني في “السلسلة الصحيحة” برقم (1750) .

وله ألفاظٌ أخرى مُقارِبة، منها المختصر كلفظ: “من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه”، ومنها الوسط كالذي ابتدأنا به، ومنها المطوَّل كلفظ: “مَن كنتُ مولاه فهذا مولاه، اللهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وأحبَّ مَن أحبَّه، وأبغِضْ مَن يُبغضُه، وانصرْ مَن نَصَرَهُ، واخذلْ من خذلَه”، وهو لفظ رواية البزار في “مسنده” برقم (786) .

ثانياً ـ سبب الحديث والمناسبة:

يُعرف هذا الحديث الشريف بـ “حديث الغدير”؛ لأنه قيل في منطقة بين مكَّة والمدينة تُعرف بـ “غدير خُم”، وذلك حين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعاً من حِجَّة الوداع، فقام في الناس خطيباً، وقال: “ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟”، فقالوا: بلى، فقال لهم: “من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه…” إلخ الحديث.

وقد اكتنفت الحديثَ قرائنُ وشواهدُ سنتعرَّض لذكر بعضها عند الحديث عن دلالة الحديث الشريف.

وقد روى أئمَّةُ علم التفسير عن عدَّة من الصحابة والتابعين ما يُفيد أنَّ النبيَّ أُمر بتبليغ ولاية الإمام علي (حديث الغدير) بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67] ، فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُم فبلَّغهم ما أُمر به. ومن مصادر نزول الآية الكريمة بهذه المناسبة: تفسير ابن أبي حاتم (4/1172) ، وأسـباب النزول للواحدي (ص135) ، وتفسير الثعلبي (4/92) ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي (2/298) ، وفتح القدير للشوكاني (2/60) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر (42/237) ، والأمالي للمرشد بالله (1/145) .. وغيرها.

وقد ثبت أيضاً أنَّه بعد أن بلَّغ النبيُّ ولايةَ عليٍّ، نزل قولُهُ تعالى: (اليومَ أكملتُ لكُمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نعمتي ورضِيتُ لكُمُ الإسْلام ديناً) [المائدة: 3] ، روى ذلك جماعةٌ من أهل العلم وأئمة الدين، منهم الخطيب في “تاريخ بغداد” (8/289) .

فقام الصحابة يُهنِّئون عليًّا بالولاية، فقال عمر بن الخطاب: “هنيئاً لك، أصبحتَ وأمسيت مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة”، وفي لفظ آخر: “بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب؛ أصبحتَ مَولاي ومَوْلَى كلِّ مُسلم”، انظُر: مُسند “أحمد بن حنبل” (4/ 218) ، و”المصنَّف” لابن أبي شيبة (7/ 503) ، و”شواهد التنزيل” للحاكم الحسكاني برقم (216) ، و”تاريخ بغداد” للخطيب (8/284) ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (42/221) ، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/632 – 633) ، والبداية والنهاية لابن كثير (5/229) .. وغيرها.

ثالثاً ـ مصادر الحديث السنِّية:

لكون الحديث معروفاً مشهوراً عند أتباع أهل البيت؛ نقتصر على ذكر جُملة من المصادر السُّنِّية للحديث:

1 ـ “مُصنَّف ابن أبي شيبة” مراراً في الجزء السادس.
2 ـ “سُنن الترمذي” (5/633) .
3 ـ “مسند البزار” (2/133) .
4 ـ “الخصائص” للنسائي مراراً.
5 ـ صحيح ابن حبان (15/376) .
6 ـ تفسـير الثعلبي (4/92) .
7 ـ “حليـة الأولياء” لأبي نعيم (4/23) .
8 ـ “تاريخ بغداد” للخطيب (8/289) .

رابعاً ـ صحة الحديث:

لا يخفى على أهل العلم أنَّ حديث الغدير من أصح الأحاديث، بل هو حديث مُتواتر.

وفيما يلي نذكر بعض من صحَّحه أو صرَّح بتواتره من علماء أهل السنة:

قال الترمذي في “السنن” (5/633) : “هذا حديث حسن صحيح”، وصحَّحه ابنُ حِبَّان إذْ رواه في “صحيحه” (15/376) ، وقال الذهبي في “السير” (10/10) : “ثابت بلا ريب”، وفي “السير” أيضاً (15/344) : “ومتنه فمتواتر”، وصحَّحه المنَّاوي في “تخريج أحاديث المصابيح” (5/290) ، وحسَّـنه ابنُ كثير في “البداية والنهاية” (7/341) ، وقال ابنُ حجر في “فتح البــاري” (7/74) : “كثير الطرُق جداً… وكثيرٌ من أسانيدها صحاح وحسان”، وصحَّحه الألباني مراراً في كُتبه، منها في “صحيح الجامع” برقم (6523) ، وفي “السلسلة الصحيحة” (4/331) ، وصحَّحه مُقبل الوادعي في “الصحيح المسند” برقم (381) ، وأورده السيوطي فـي “الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة” (ص76) ، وأورده الكتّاني في “نظم المتناثر من الحديث المتواتر” (ص206) ..

خامساً ـ دلالة الحديث الشريـف:

السؤال المهم في بحث الدلالة هو عن المقصود بـ “المولى” في حديث الغدير، فهل يُقصد به المحب والناصر كما توهَّم بعضُ الباحثين، أم يُقصد به الإمام والحاكم كما هو الحق؟

وهناك عدَّة قرائن تشهد بعدم صحة المعنى المتوهَّم، وتثبت أنَّ المقصود هو الإمام والحاكم، نذكر منها:

أوَّلاً: ظروفُ الخطاب والمضمون الذي اشتمل عليه؛ فإنَّ خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشتمل على شيء جديد يستوجب إيقاف القافلة في تلك البقعة من الأرض، وفي تلك الظروف المناخية القاسية، ثم الصلاة جامعة، ثم إلقاء الخطاب، فلم يكن هناك أي حكم جديد يستوجب ذلك، فلو قلنا إن معنى المولى هو المحب والناصر فإن هذا المعنى أيضاً كان بديهياً عند جميع الصحابة، فيستلزم هذا التفسير تفريغ الخطاب من الداعي الذي يستوجبه في ذلك الظرف، فلزم القول بأنَّ معنى المولى: ولي الأمر والحاكم والأولى بالمؤمنين من أنفسهم.

ثانياً: ورد في حديث الغدير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألهم أوَّلاً: “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟” فلما أجابوا بـ “بلى”، قال لهم: “من كنت مولاه فعلي مولاه”، وهذا السياق واضحٌ في أنَّ الولاية التي أثبتها لعليٍّ (عليه السلام) هي الولاية نفسها التي أخذ منهم الإقرار بها، فيكون معنى المولى: الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذه هي المنزلة الأسمى في ولاية الأمر والحكومة على المؤمنين.

ثالثاً: إنَّ حديث الغدير يُعدُّ بإجماع الأمَّة الإسلامية من خصائص الإمام علي عليه السلام، فلا بد أن يدل على فضيلة اختص بها عليٌّ، والقول بأن معنى المولى هو الناصر والمحب، هو قولٌ ينفي الاختصاص؛ لأن النصرة والمحبة من المزايا التي تعمُّ المؤمنين، ولا يختص بها الصحابة، فضلاً عن أن تكون من خصائص أحدهم.

رابعاً: قد ذكرنا آنفاً أنَّ الصحابة قاموا يُهنِّئون عليًّا (عليه السلام) بمناسبة هذه الولاية، ولو كان معنى المولى هو المحب والناصر فالتهنئة لا معنى لها؛ لأن هذا المعنى ثابت لعليٍّ بالبداهة منذ بزوغ فجر الإسلام، وقول عمر “أصبحت مولاي ومولى كل مسلم”، يدل على تجدُّد معنًى لم يكن موجوداً من قبل.

خامساً: رُوي أنَّ الصحابي سعد بن أبي وقاص تمنى فضيلة (المولى) ضمن ثلاث فضائل لعليٍّ (عليه السلام) قال عنها: “له ثلاث خصال لأن تكون لي خصلةٌ منها، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها”. رواه ابنُ أبي شيبة في “مُصنَّفه” برقم (32078) . فلو كان معنى المولى هو المحب والناصر لما ناسب أن يتكلَّم سعدٌ بهذا التعبير الدال على أنه فاقد لهذا المعنى ومُتمنٍّ له.

سادساً: رُوي أنَّ الصحابي أبا الطفيل حين سمع الحديث من الإمام علي نفسه، استنكر وأصابته حالةٌ من الدهشة، مع أنه سمعه من عليٍّ (عليه السلام) بالإضافة إلى ثلاثين صحابياً، فقال أبو الطفيل: “فخرجتُ وكأنَّ في نفسي شيئاً”، ثم قصَّ حاله على زيد بن أرقم، فأكَّد له زيدٌ صحة الحديث قائلاً: “فما تُنكر؟!”. رواه أحمد بن حنبل في “المسند” برقم (19321) ، وقال المحقق شعيب الأرنؤوط: “إسناده صحيح”. ولو كان معنى المولى هو المحب والناصر لما استوجب تعجباً واستنكاراً من أبي الطفيل.

سابعاً: روى أحمد بن حنبل في “المسند” برقم (23609) بسند صحيح أنَّ الصحابي أبا أيوب الأنصاري مع جماعة من الأنصار خاطبـوا الإمام عليًّا بقولهم: “السلام عليك يا مولانا”، فسألهم الإمامُ: “كيف أكون مولاكم وأنتم قومٌ عربٌ؟”، وهذا معناه أنَّ كلمة المولى تعني السيد، وأن ذلك يعني أنهم منه بمنزلة العبيد، وهذا ما لا ينسجم مع كونهم من العرب، فهم ليسوا من العجم الذين يمكن أن يقعوا في الأسر فيكونوا عبيداً.

فلم يقل أبو أيوب وأصحابه لم نقصد هذا المعنى من العبودية، ولكن قصدنا أنك ناصرنا ومحبُّنا فقط، بل أقروا الإمام على المعنى الذي تساءل عنه، وهو أن كلامهم يعني أنهم منه بمنزلة العبد من مولاه، ثم برروا ذلك بقولهم: “سمعنا رسولَ اللهِ يومَ غدير خُمٍّ يقول: من كنت مولاه فان هذا مولاه”.

وهذا معناه أنهم قبلوا أنهم من علي بمنزلة العبد من مولاه، ولكن ليس ذلك من منطلق الأسر والسبي ليتنافى مع كونهم من العرب، بل من منطلق حديث الغدير.. ولو كان معنى المولى هو المحب والناصر لما كان لكل هذا من مناسبة.

ثامناً: قد رُوي من طُرُق أنَّ الحارث بن نعمان الفهري اعترض على حديث الغدير، واستنكر أن يكون كلامُ رسول الله حقاً من عند الله، بالرغم من قبوله للإسلام عقيدةً وشريعةً، ثم سأل الله أن يُنزل عليه عذاباً إن كان كلام رسول الله حقاً.. فنزل به العذاب وهلك..! أورده الشبلنجي الشافعي في “نور الأبصار” (ص119) عن تفسير الثعلبي. ولو كان المقصود بالمولى هو المحب والناصر لما استدعى هذا الإنكار والجحود.

تمَّ بحمد اللّٰه تعالى.

بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم

نُبذةٌ عن حديث الغدير

بقلم: زكريَّا بركات
١ أكتوبر ٢٠١٥


أوَّلاً ـ فكرةٌ عن ألفاظ الحديث:

المقصود بحديث الغدير هو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : “من كنتُ مَولاهُ فعليٌّ مَولاهُ، اللهمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ”. أورده بهذا اللفظ الألباني في “السلسلة الصحيحة” برقم (1750) .

وله ألفاظٌ أخرى مُقارِبة، منها المختصر كلفظ: “من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه”، ومنها الوسط كالذي ابتدأنا به، ومنها المطوَّل كلفظ: “مَن كنتُ مولاه فهذا مولاه، اللهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وأحبَّ مَن أحبَّه، وأبغِضْ مَن يُبغضُه، وانصرْ مَن نَصَرَهُ، واخذلْ من خذلَه”، وهو لفظ رواية البزار في “مسنده” برقم (786) .

ثانياً ـ سبب الحديث والمناسبة:

يُعرف هذا الحديث الشريف بـ “حديث الغدير”؛ لأنه قيل في منطقة بين مكَّة والمدينة تُعرف بـ “غدير خُم”، وذلك حين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعاً من حِجَّة الوداع، فقام في الناس خطيباً، وقال: “ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟”، فقالوا: بلى، فقال لهم: “من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه…” إلخ الحديث.

وقد اكتنفت الحديثَ قرائنُ وشواهدُ سنتعرَّض لذكر بعضها عند الحديث عن دلالة الحديث الشريف.

وقد روى أئمَّةُ علم التفسير عن عدَّة من الصحابة والتابعين ما يُفيد أنَّ النبيَّ أُمر بتبليغ ولاية الإمام علي (حديث الغدير) بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67] ، فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُم فبلَّغهم ما أُمر به. ومن مصادر نزول الآية الكريمة بهذه المناسبة: تفسير ابن أبي حاتم (4/1172) ، وأسـباب النزول للواحدي (ص135) ، وتفسير الثعلبي (4/92) ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي (2/298) ، وفتح القدير للشوكاني (2/60) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر (42/237) ، والأمالي للمرشد بالله (1/145) .. وغيرها.

وقد ثبت أيضاً أنَّه بعد أن بلَّغ النبيُّ ولايةَ عليٍّ، نزل قولُهُ تعالى: (اليومَ أكملتُ لكُمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نعمتي ورضِيتُ لكُمُ الإسْلام ديناً) [المائدة: 3] ، روى ذلك جماعةٌ من أهل العلم وأئمة الدين، منهم الخطيب في “تاريخ بغداد” (8/289) .

فقام الصحابة يُهنِّئون عليًّا بالولاية، فقال عمر بن الخطاب: “هنيئاً لك، أصبحتَ وأمسيت مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة”، وفي لفظ آخر: “بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب؛ أصبحتَ مَولاي ومَوْلَى كلِّ مُسلم”، انظُر: مُسند “أحمد بن حنبل” (4/ 218) ، و”المصنَّف” لابن أبي شيبة (7/ 503) ، و”شواهد التنزيل” للحاكم الحسكاني برقم (216) ، و”تاريخ بغداد” للخطيب (8/284) ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (42/221) ، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/632 – 633) ، والبداية والنهاية لابن كثير (5/229) .. وغيرها.

ثالثاً ـ مصادر الحديث السنِّية:

لكون الحديث معروفاً مشهوراً عند أتباع أهل البيت؛ نقتصر على ذكر جُملة من المصادر السُّنِّية للحديث:

1 ـ “مُصنَّف ابن أبي شيبة” مراراً في الجزء السادس.
2 ـ “سُنن الترمذي” (5/633) .
3 ـ “مسند البزار” (2/133) .
4 ـ “الخصائص” للنسائي مراراً.
5 ـ صحيح ابن حبان (15/376) .
6 ـ تفسـير الثعلبي (4/92) .
7 ـ “حليـة الأولياء” لأبي نعيم (4/23) .
8 ـ “تاريخ بغداد” للخطيب (8/289) .

رابعاً ـ صحة الحديث:

لا يخفى على أهل العلم أنَّ حديث الغدير من أصح الأحاديث، بل هو حديث مُتواتر.

وفيما يلي نذكر بعض من صحَّحه أو صرَّح بتواتره من علماء أهل السنة:

قال الترمذي في “السنن” (5/633) : “هذا حديث حسن صحيح”، وصحَّحه ابنُ حِبَّان إذْ رواه في “صحيحه” (15/376) ، وقال الذهبي في “السير” (10/10) : “ثابت بلا ريب”، وفي “السير” أيضاً (15/344) : “ومتنه فمتواتر”، وصحَّحه المنَّاوي في “تخريج أحاديث المصابيح” (5/290) ، وحسَّـنه ابنُ كثير في “البداية والنهاية” (7/341) ، وقال ابنُ حجر في “فتح البــاري” (7/74) : “كثير الطرُق جداً… وكثيرٌ من أسانيدها صحاح وحسان”، وصحَّحه الألباني مراراً في كُتبه، منها في “صحيح الجامع” برقم (6523) ، وفي “السلسلة الصحيحة” (4/331) ، وصحَّحه مُقبل الوادعي في “الصحيح المسند” برقم (381) ، وأورده السيوطي فـي “الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة” (ص76) ، وأورده الكتّاني في “نظم المتناثر من الحديث المتواتر” (ص206) ..

خامساً ـ دلالة الحديث الشريـف:

السؤال المهم في بحث الدلالة هو عن المقصود بـ “المولى” في حديث الغدير، فهل يُقصد به المحب والناصر كما توهَّم بعضُ الباحثين، أم يُقصد به الإمام والحاكم كما هو الحق؟

وهناك عدَّة قرائن تشهد بعدم صحة المعنى المتوهَّم، وتثبت أنَّ المقصود هو الإمام والحاكم، نذكر منها:

أوَّلاً: ظروفُ الخطاب والمضمون الذي اشتمل عليه؛ فإنَّ خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشتمل على شيء جديد يستوجب إيقاف القافلة في تلك البقعة من الأرض، وفي تلك الظروف المناخية القاسية، ثم الصلاة جامعة، ثم إلقاء الخطاب، فلم يكن هناك أي حكم جديد يستوجب ذلك، فلو قلنا إن معنى المولى هو المحب والناصر فإن هذا المعنى أيضاً كان بديهياً عند جميع الصحابة، فيستلزم هذا التفسير تفريغ الخطاب من الداعي الذي يستوجبه في ذلك الظرف، فلزم القول بأنَّ معنى المولى: ولي الأمر والحاكم والأولى بالمؤمنين من أنفسهم.

ثانياً: ورد في حديث الغدير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألهم أوَّلاً: “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟” فلما أجابوا بـ “بلى”، قال لهم: “من كنت مولاه فعلي مولاه”، وهذا السياق واضحٌ في أنَّ الولاية التي أثبتها لعليٍّ (عليه السلام) هي الولاية نفسها التي أخذ منهم الإقرار بها، فيكون معنى المولى: الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذه هي المنزلة الأسمى في ولاية الأمر والحكومة على المؤمنين.

ثالثاً: إنَّ حديث الغدير يُعدُّ بإجماع الأمَّة الإسلامية من خصائص الإمام علي عليه السلام، فلا بد أن يدل على فضيلة اختص بها عليٌّ، والقول بأن معنى المولى هو الناصر والمحب، هو قولٌ ينفي الاختصاص؛ لأن النصرة والمحبة من المزايا التي تعمُّ المؤمنين، ولا يختص بها الصحابة، فضلاً عن أن تكون من خصائص أحدهم.

رابعاً: قد ذكرنا آنفاً أنَّ الصحابة قاموا يُهنِّئون عليًّا (عليه السلام) بمناسبة هذه الولاية، ولو كان معنى المولى هو المحب والناصر فالتهنئة لا معنى لها؛ لأن هذا المعنى ثابت لعليٍّ بالبداهة منذ بزوغ فجر الإسلام، وقول عمر “أصبحت مولاي ومولى كل مسلم”، يدل على تجدُّد معنًى لم يكن موجوداً من قبل.

خامساً: رُوي أنَّ الصحابي سعد بن أبي وقاص تمنى فضيلة (المولى) ضمن ثلاث فضائل لعليٍّ (عليه السلام) قال عنها: “له ثلاث خصال لأن تكون لي خصلةٌ منها، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها”. رواه ابنُ أبي شيبة في “مُصنَّفه” برقم (32078) . فلو كان معنى المولى هو المحب والناصر لما ناسب أن يتكلَّم سعدٌ بهذا التعبير الدال على أنه فاقد لهذا المعنى ومُتمنٍّ له.

سادساً: رُوي أنَّ الصحابي أبا الطفيل حين سمع الحديث من الإمام علي نفسه، استنكر وأصابته حالةٌ من الدهشة، مع أنه سمعه من عليٍّ (عليه السلام) بالإضافة إلى ثلاثين صحابياً، فقال أبو الطفيل: “فخرجتُ وكأنَّ في نفسي شيئاً”، ثم قصَّ حاله على زيد بن أرقم، فأكَّد له زيدٌ صحة الحديث قائلاً: “فما تُنكر؟!”. رواه أحمد بن حنبل في “المسند” برقم (19321) ، وقال المحقق شعيب الأرنؤوط: “إسناده صحيح”. ولو كان معنى المولى هو المحب والناصر لما استوجب تعجباً واستنكاراً من أبي الطفيل.

سابعاً: روى أحمد بن حنبل في “المسند” برقم (23609) بسند صحيح أنَّ الصحابي أبا أيوب الأنصاري مع جماعة من الأنصار خاطبـوا الإمام عليًّا بقولهم: “السلام عليك يا مولانا”، فسألهم الإمامُ: “كيف أكون مولاكم وأنتم قومٌ عربٌ؟”، وهذا معناه أنَّ كلمة المولى تعني السيد، وأن ذلك يعني أنهم منه بمنزلة العبيد، وهذا ما لا ينسجم مع كونهم من العرب، فهم ليسوا من العجم الذين يمكن أن يقعوا في الأسر فيكونوا عبيداً.

فلم يقل أبو أيوب وأصحابه لم نقصد هذا المعنى من العبودية، ولكن قصدنا أنك ناصرنا ومحبُّنا فقط، بل أقروا الإمام على المعنى الذي تساءل عنه، وهو أن كلامهم يعني أنهم منه بمنزلة العبد من مولاه، ثم برروا ذلك بقولهم: “سمعنا رسولَ اللهِ يومَ غدير خُمٍّ يقول: من كنت مولاه فان هذا مولاه”.

وهذا معناه أنهم قبلوا أنهم من علي بمنزلة العبد من مولاه، ولكن ليس ذلك من منطلق الأسر والسبي ليتنافى مع كونهم من العرب، بل من منطلق حديث الغدير.. ولو كان معنى المولى هو المحب والناصر لما كان لكل هذا من مناسبة.

ثامناً: قد رُوي من طُرُق أنَّ الحارث بن نعمان الفهري اعترض على حديث الغدير، واستنكر أن يكون كلامُ رسول الله حقاً من عند الله، بالرغم من قبوله للإسلام عقيدةً وشريعةً، ثم سأل الله أن يُنزل عليه عذاباً إن كان كلام رسول الله حقاً.. فنزل به العذاب وهلك..! أورده الشبلنجي الشافعي في “نور الأبصار” (ص119) عن تفسير الثعلبي. ولو كان المقصود بالمولى هو المحب والناصر لما استدعى هذا الإنكار والجحود.

تمَّ بحمد اللّٰه تعالى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى