الحديث عن الإمام الحجة عجل الله فرجه ، حديث عذب ذو شجون ، ولذلك سأحاول مراعاة الاختصار والإيجاز ما أمكنني ذلك ، واستلال ما أستطيع استلاله من عبر ودروس من مجمل ماله صلة بواقعنا ومواقفنا وسلوكياتنا في حياتنا المعاصرة .
علاقة الانتظار بواقعنا
وسأبدأ بحثي هذا بطرح سؤال في غاية الأهمية ، وهو : ما هي علاقة الانتظار وفكرته والعقيدة به ، وإيماننا بالإمام الحجة المنتظر بواقعنا المتدهور الذي نعيشه في عالمنا الإسلامي ، وهل باستطاعتنا الاستفادة من هذه الفكرة والعقيدة والبصيرة الإلهية لكي نغيّر بها واقعنا السيء الى واقع افضل ، وكيف السبيل إلى هذا التغيير ؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل المهم والحساس لابد ان نضرب مثلاً من واقع رجل لم يكن يمتلك بيتاً ، فسعى وجهد من اجل ان يكون له ذلك ، وجهد في توظيف كل إمكانياته وطاقاته المادية والمعنوية من اجل اقتناء البيت كأن يشتريه جاهزاً أو يبنيه ؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى الذي يريد أن يبني حياة زوجية فإننا سنجده يحاول ان يختصر الزمن والمسافة في سبيل توظيف كل ما يملك من رصيد اجتماعي واقتصادي في سبيل تحقيق طموحه في إقامة حياته الزوجية التي يطمح إليها .
وإذا كان الأمر يتطلّب كل هذا البذل والمجهود والسعي من اجل بناء بيت أو حياة زوجية ، فما بالك بمن يريد تحرير بلده أو إنقاذ أمته او خلاص شعبه ، أليست القضية اخطر واهم من ذلك ؟
ولذلك فان على مثل هذا الإنسان او الجماعة او الأمة إن أرادوا تحقيق أهداف كهذه الأهداف العظيمة ، أن يختصروا هم أيضاً كل مسافة بعيدة تحول بينهم وبين مرامهم ، وان يبذلوا كل ما يملكون ، ويجهدوا أنفسهم ما استطاعوا لكي يبلغوا تلك الأهداف المتمثلة في بناء وطن شامخ يليق بمكانتهم ومنزلتهم .
ونحن اليوم في هذا الزمن المصيري الذي نعيش فيه صراعاً مريراً ، ومعركة الموت والحياة مع الأنظمة الطاغوتية ، فإن قضيتنا عظيمة ومهمة للغاية ، وأن أولئك الذين يستهينون بها إنما يحتقرون أنفسهم ـ من حيث لا يشعرون ـ ويستهينون بكرامتهم وتاريخهم وقيمهم .
ازمة الانظمة الطاغوتية
ان قضية هذه الأنظمة الطاغوتية ليست بالقضية الهينة ، ولذلك لابد لنا في مواجهتها من استخدام كل عناصر قوتنا ، وجميع إمكانياتنا ، ولعل أبرزها جميعاً وأكثرها قوة ، تلك القوة الكامنة في عقيدة (انتظار الفرج ) التي هي إحدى ابرز عقائدنا .
فلولا هذا الأمل الذي تلوح اشراقته على آفاق الزمن ، ولولا ومضة النور التي أوجدها هذا الأمل في قلوبنا رغم ما عانيناه ونعانيه من عصور الاضطهاد والقمع والآلام وما فيها من ظلام حالك يبعث على اليأس والإحباط المحدقين ، لكان الانهيار والزوال من نصيب وجودنا وهويتنا ، ولكن الله تبارك وتعالى شاء لنا الامتداد والبقاء بنور بقيته في الأرضين كما يقول ـ عز من قائل ـ : ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ … ﴾ 1.
فالظلم والإرهاب والاضطهاد الذي لحق بنا ، لو كان نزل على الجبال لهدّها ولانصهرت منه زبر الحديد وعلينا ان لا نظن ان العالم يغفل سرّ قوتنا ، بل ان الأحداث ـ التي نعيشها اليوم وفي التاريخ ـ أضحت محور تساؤل الغرب وغيرهم عن سرّ هذه القوة .
وأنا اذكر في هذا المجال انَّ أحد الصحفيين الفرنسيين التفت إلى الظاهرة الثورية التي نمتاز بها نحن الشيعة في تحركنا وعملنا الجهادي ، فسألني عن السبب أو السر الذي جعل الشيعة مستقيمين وصامدين رغم مالاقوه من قبل الأنظمة الطاغية من قهر وقتل وتغريب ومطاردة ؟ فأجبته على سؤاله هذا قائلاً : إننا ـ نحن الشيعة ـ أهل توكل على الله تعالى ، وأمل بالمستقبل .
انتظار الفرج افضل الاعمال
أن تاريخ الشيعة هو تاريخ العطاء والتضحيات الجسام ، وتاريخ الآلام والمعاناة والمطاردة ، والسجون ، انه تاريخ الإمام الحسين والإمام موسى ابن جعفر عليهم السلام ؛ ومع ذلك كلّه لم نتحطم ، ولم نستسلم لليأس ، بل ازددنا رغم قوة الدمار تألقاً وصلابة وقوة وإظهاراً لحقّنا وحقوقنا المهدورة المغصوبة . . وكل ذلك يعود الفضل فيه إلى ذلك الأمل العظيم الذي كان الطاقة التي حركت عجلة مسيرتنا في التاريخ ؛ أنه انتظار الفرج ، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله : ” أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج ” .
ونحن كلما عمّقنا هذه الفلسفة الإيمانية الحقة في الأجيال المتلاحقة من أبنائنا وأحفادنا ، استطعنا أن نصل إلى الأهداف المرجوة ، والغايات المنشودة . والذي يذهب منّا إلى الشك في هذه العقيدة الراسخة بسبب وطأة البلاء ، والمصائب الشديدة القاسية التي تبعث على اليأس ، فان مثله كمثل الذي يجلس على غصن شجرة ثم ينشر جذعها بمنشار ، فهو سرعان ما يهوي إلى الأرض .
أن كياننا قائم على مجموعة من الركائز القوية المتينة ، من أبرزها هذه العقيدة الراسخة في قلوبنا ؛ أي فكرة ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه ، وليس هناك فوق هذا الكوكب الذي نحيا عليه ورغم ما تزدحم وتتصارع فيه آلاف الأديان والمذاهب ، بالإضافة إلى الأفكار والمبادئ والنظريات والفلسفات العديدة المنتشرة هنا وهناك ؛ أقول ليس هناك دين أو مذهب أو مبدأ واحد يقول أن العلاقة بين الأرض والسماء ، أو بعبارة أخرى ؛ بين الإنسان وخالقه هي علاقة مستمرة كما هي عقيدة الشيعة ، فنحن نؤمن باستمرار ودوام هذه العلاقة بين الإنسان وبارئه ، ولا نرى انقطاعها كما هو الحال لدى اتباع المذاهب الإسلامية الأخرى ، حيث يقولون إنها انقطعت بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وانقطاع الوحي ، ولا يعترفون بوجود إنسان يحيى على هذه الأرض ذي صلة بالله سبحانه ، إلا أنه ليس بنبيّ .
عقيدتنا بالمهدي سر قوتنا
أما الشيعة فانهم يعتقدون اعتقاداً راسخاً ، ويؤمنون تمام الإيمان بوجود هذا الإنسان الغيبي الإلهي الذي ينزل عليه الروح الأعظم في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .
والروح الأعظم هذا هو كيان أعظم من الملائكة ، ومن جبريل وميكال ، ينزل على الحجة عليه السلام ، وهذا هو فخرنا وعزنا ، وفيه تكمن قوتنا ، وصلابة عقيدتنا ، وسلاحنا الفاعل في معركتنا ، وصراعنا ضد الباطل وأهله مهما اختلفت أشكاله وألوانه ، ووقوفنا بوجه أهل الظلم والجور والفساد في الأرض . وهل من الممكن أن يتخلى المقاتل عن سلاحه في الميدان حتى نتخلى نحن الشيعة عن عقيدتنا هذه وسلاحنا وقوتنا التي لا تنضب ؟
ومن هنا أرى إننا لابد من أن نوظف ما أمكننا من إيماننا ، وعقيدتنا هذه بالإمام المهدي عليه السلام ، في مقارعتنا ، وصراعنا الطويل مع قوى الظلم والفساد والطغيان ، ولابد من ان نزداد استلهاماً من إيماننا به عليه السلام وانتظار فرجه في صراعنا الحضاري ، وذلك بأن نربط القضية التاريخية أو القضية العقائدية بقضايانا الراهنة التي نشهدها .
اهمية الامل والتفاؤل
ويا حبذا لو أكد المفكرون والأدباء وأصحاب الأقلام في مقالاتهم ونتاجاتهم الأدبية الفكرية والثقافية على قضية منح الأمل ، وتعزيز ثقة الناس به بأن يبينوا أهمية الانتظار ، والآثار العظيمة بل والبركات والخيرات التي تنهمر علينا بفضل دعاء الإمام عليه السلام لنا ، ثم يتناولوا بالبحث والدراسة والبيان الواضح قضية الظهور ، ودورنا نحن في التمهيد ، والتعجيل لهذا الظهور . فلماذا هذا التخوّف والتردد وعدم الاهتمام في بيان قضية الإمام وانتظاره وظهوره من أقوال المتقولين ، وسخرية الساخرين الذين لا يؤمنون بالإمام المهدي ؟ أليس هذا التخوّف والتردد دليلاً على ضعف العقيدة به عليه السلام ؟ علماً ان هذا الضعف لربما يخلّ بمجمل الكيان العقائدي ؟
فلنوضح عقيدتنا ونتحدث عنها بكل صراحة ليكون الناس على علم بها ، كما يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم : ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا … ﴾ 2.
فكرة الانتظار ترعب المستكبرين
أن هذه العقيدة التي يسخر منّا بسبها بعض طوائف المسلمين لجهلهم ، باتت تؤرق أعداء المسلمين من الصهاينة والمستكبرين الذين يحسبون لها منذ الآن ألف حساب وحساب ، ويعدون العدة لمواجهة صاحب لواء الخلاص ، والمنقذ العظيم الذي سيقضي بظهوره المبارك عليهم ، وعلى كفرهم وضلالهم وفسادهم في الأرض .
وتأسيساً على ما سبق فلنعّمق هذه الروحية ، ونعززها في أعماق أولادنا وأجيالنا القادمة ، ولنقرأ المهدي عجل الله فرجه السلام في كل صباح ومساء ، ولندع له . ففي هذا الدعاء ، وتلك التحية كل البركة والخير ، ولنجدد العهد معه كل يوم وإن طالت ، وتعقّدت مشاغلنا الحياتية ، ولنبايعه في كل يوم جمعة عندما نقرأ دعاء الندبة قائلين : ” اين معزّ الأولياء ومذّل الأعداء ، أين قاصم شوكة المعتدين” ؟
فهذا الدعاء وغيره من شأنه ان يعزز علاقتنا به عجل الله فرجه ، ويعمق إيماننا بالانتظار ونعطي مفهومه حقه ، من التجسيد العملي المتمثل في العمل على تربية نفوسنا اولاً ، ثم المبادرة إلى تغيير الواقع الفاسد 3.
- 1. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 86، الصفحة: 231.
- 2. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 29، الصفحة: 297.
- 3. الإمام المهدي عجل الله فرجه قدوة الصديقين، آية الله السيد محمد تقي المدرسي، مقطع من الفصل الأول .