مقالات

جعفر الآل… كلمة الحق، ولسان الصدق

خُطَى الخُزَاعي
به ارتقى العلم أعلى المراقي، إذ أطلقه غزيرًا متنوعًا، نبويًّا صافيًّا، بريادة علمية كبرى، وثورة معرفية شاملة، مُزيحًا عن درب الهداية ما اعترته من ظلمات الجهل وحجب الضلال، منوِّعًا في تقديم شتى العلوم وصنوف المعارف، مستثمِرًا انشغال الظالمين عنه بالظالمين، استقتالًا على الملك العضوض، ليمارس دوره الإلهي باستكمال ما انتهى إليه والده (صلوات الله وسلامه عليه) من إنجاز، فيحمل عبء التبليغ متقدِّمًا به نحو الأمام، إنَّه سادس أئمة العترة الطاهرة جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين)، نَصًّا من الله تعالى على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: (… يخرج الله من صلبه (أي الأمام الباقر) كلمة الحق، ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا رسول الله؟ قال: يقال له: جعفر، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليَّ، والراد عليه كالراد عليَّ)([1])، فتُلمحُ من وصف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام بكلمة الحق، ولسان الصدق، تلويحةٌ تومئ إلى ما سيؤول إليه الحال في زمنه من رواج لكلمات الباطل، وتنوّع في ألسنة البدع والافتراءات لمخالفين، وزنادقة، وملحدين، فكان الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) لذلك بالمرصاد مصدِّقًا وصف النبي (صلى الله عليه وآله)، فكان كلمة حق تهاوت أمامها كلمات الضلال، ولسان صدق خرُست بإزائه ألسنة الكذب والافتراء، مجسِّدًا ذلك على المستوى التطبيقي بجامعة اسلامية آتت أُكلًا مباركًا واسعًا، إذ خرَّجت ثمار الأفئدة من علماء ومفكرين تصدَّوا لشتى المجالات والشؤون فكانوا أقباس هداية، وخزانات علم قد أغنوا الإنسانية جمعاء من نمير اللسان الصادق، وممَّا رويَّ بهذا الشأن بـ (أنَّ مسجد الكوفة كان يعجُّ بالعلماء والفقهاء والمحدثين، كلهم يقول: حدثني جعفر بن محمد (عليهما السلام)، وأنَّ كتب السيرة والتراجم قد أحصت من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) الثقات والرواة عنه، على (اختلافهم في المقالات والاتجاهات) أربعة آلاف رجل)([2])، وممَّا ورد في وصف الإنجاز الثَر الخالد لإمامنا الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) من قول: (انتشر عنه من العلوم الجمَّة ما بهر به العقول، حتى غلا فيه جماعة وأخرجوه إلى حدِّ الإلهية، وروى عنه من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جم غفير كزرارة بن أعين، وأخويه: بكير، وحمران، وجميل بن دراج، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والهشامين، وأبي بصير، وعبيد الله، ومحمد وعمران الحلبيين، وعبد الله بن سنان، وأبي الصباح الكناني، وغيرهم من أعيان الفضلاء، كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف سموها (أصولا))([3])، وقد شهد له المخالف بالفضل والعلم والسؤدد بالقول: (وكان من سادات أهل البيت فقهًا وعلمًا وفضلًا وجودًا، يصلح للخلافة لسؤدده وفضله وعلمه وشرفه، ومناقبه كثيرة تحتمل كراريس)([4])، أمَّا على المستوى النظري فقد وجّه (صلوات الله وسلامه عليه) بقوة وبمزيد تأكيد نحو طلب العلم المحصِّن من البدع والضلالات، والمؤدي حيث سبيل النجاة، وقد وردت عنه آثار كثيرة بهذا الخصوص ننتخب منها: قوله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، ألا إنّ اللّه يحبُّ بُغاة العلم)([5])، وقوله أيضًا: (لو علم الناس ما في العلم لطلبوه ولو بسفك المهج، وخوض اللجج)([6])، وأيضًا: (الناس يغدون على ثلاثة، عالم ومتعلم وغُثاء فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء)([7])، ويختصر في حديث له (صلوات الله وسلامه عليه) جامعًا العلم المنقذ من الهلكة بقوله: (وجدت علم الناس كلّهم في أربع، أوّلها: أن تعرف ربّك، والثاني: أن تعرف ما صنع بك، والثالث: أن تعرف ما أراد منك، والرابع: أن تعرف ما يخرجك عن دينك)([8])، مستوعبًا (صلوات الله وسلامه عليه) مدة إمامته بعمل متواصل دؤوب، قد استثمره بالكلية في هداية الناس إلى سبيل الله تعالى مُغنيًا متطلبات ظرفه المرحلي وتداعياته؛ بل تعداه أثرًا إلى أزمان أخرى استمرارًا مع الخلف من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم)، وفي أُخريات عمره الشريف أضاف إلى رتبه العالية ومنازله السامية، أن ارتقى شهيدًا مغدورًا في الخامس والعشرين من شهر شوال من عام 148ه([9])، بسُمٍ على يد الدوانيقي العباسي منكر الفضل، سيء المجازاة.

والختام وصيةٌ من الإمام إلى شيعته على لسان المفضّل بن عمر الجعفي قائلًا له: (أوصيك بستّ خِصال تبلغهنّ شيعتي، قال: وما هي يا سيّدي؟ قال (عليه السلام): أداء الأمانة إلى من ائتمنك، وأن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك، وأعلم أنَّ للأُمور أواخر فاحذر العواقب، وأنَّ للأُمور بغتات فكن على حذر، وإِيّاك ومرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر وعراً، ولا تعِدنّ أخاك وعداً ليس في يدك وفاؤه)([10])
السلام على صادق الآل جعفر دائمًا أبدًّا ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
[1] بحار الأنوار: العلامة المجلسي (ت:1111ه) :36/313.
[2] الكليني والكافي، الشيخ عبد الرسول الغفار:57.
[3] ينظر: المعتبر، المحقق الحلي، الوفاة : 676، الجزء : /261
[4] التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، السخاوي (ت: 902هـ): 1/242.
[5] الكافي، الشيخ الكليني،(ت:329ه):1/30.
[6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي،(ت: 1111ه):1/177.
[7] بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ ( الصفار)،(ت:290ه):28.
[8] الخصال، الشيخ الصدوق،(ت:381ه): 239
[9]  ينظر: الإمام الصادق ( ع )، الشيخ محمد حسن المظفر(ت:1376هـ): 2/109.
[10] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين (ت:1371هـ): 1/672.

المصدر: http://inahj.org

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى