إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة، مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السّامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلاميّة بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الاُمّة الإسلاميّة الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.
إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينيّة هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائر (عليه السّلام) وكذا آثار الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته (عليه السّلام)، فها هو الحسين (عليه السّلام) يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته، ولم يسمح له بتغيير مساره قائلاً: “أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله.
ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غَيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة”1.
وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان، والإصرار على محاربة الإمام (عليه السّلام) وطاعة يزيد الفاسق، قال (عليه السّلام): “فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذَة الكتاب، ونفثة الشّيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومطفئي السُّنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنّسب، ومؤذي المؤمنين، وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون!”.
ثمّ قال (عليه السّلام): “ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام…”2.
من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) كما يلي:
1 – فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة
لم يعد في مقدور الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يتوقّف عن الحركة؛ وهو يرى الانحراف الشّامل في زعامة الاُمّة الإسلاميّة، فإذا كانت السّقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشّرعي وهو الإمام عليّ (عليه السّلام)، وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة، وحرمة تفريق كلمة الاُمّة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام عليّ (عليه السّلام) يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسين (عليه السّلام) جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.
ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ اُسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلاً لتمرير مخطّطاته، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف ؛ إذ بعد موت معاوية لم يبقَ أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر الإمام المعصوم، وصاحب الحقّ الشّرعي -الحسين (عليه السّلام)- فلم يعد في الإمكان – ولو نظرياً – القبول بصلاحيّة يزيد وبني اُميّة للحكم.
على أنّ نتائج انحراف السّقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمام (عليه السّلام): “أيّها النّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله”.
وقد كان يزيد يتّصف بكلّ ما حذّر منه الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان الحسين (عليه السّلام) وهو الوريث للنبيّ، وحامل مشعل الرسالة أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.
2 – مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يمثّل القائد الرسالي الشّرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السّامية.
وبحكم مركزه الاجتماعي – حيث إنّه هو سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ووريثه – فإنّه مسؤول عن هذه الاُمّة، وقد وقف (عليه السّلام) في عهد معاوية محاولاً إصلاح الاُمور بطريقة سلمية، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته3، ونبّه الاُمّة إلى مسؤولياتها ودورها4، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الاُمّة على رفض الظلم5، وحاول جمع كلمة الاُمّة في وجه الظالمين6.
ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الاُمّة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره وعطائه؛ لينهض بالاُمّة لتغيير واقعها الفاسد.
3 – الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة
لم يكن بوسع الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام اُمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين (عليه السّلام) بمثابة الغطاء السّياسي الذي يُعطي الصّفة الشّرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع ذاتي، ولا مطمع شخصي، لاسيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.
4 – محاولة إرغامه (عليه السّلام) على الذلّ والمساومة
لقد كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباءً وعزّةً وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشّريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يعيش ذليلاً في ظلّ حكم فاسد، وقد صرّح (عليه السّلام) قائلاً: “ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوس أبيّة، واُنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”.
وفي موقف آخر قال (عليه السّلام): “لا أرى الموت إلاّ سعادةً، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً”.
بهذه الصّورة الرائعة سنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) سنّة الإباء لكلّ مَنْ يدين بقيم السّماء وينتمي إليها ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.
5 – نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين (عليه السّلام)
استشفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) – وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك السّاحة السّياسية، والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الاُمّة – نوايا الغدر والحقد الاُموي على الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام)، وتجارب السنين الاُولى من الدعوة الإسلاميّة، ثمّ ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام علي (عليه السّلام) ومن بعده مع الإمام الحسن (عليه السّلام).
وأيقن الحسين (عليه السّلام) أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتّى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقيّة النبوّة، والشّخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلاميّة في نهجها الحقيقي وطريقها الصّحيح.
ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:
لستُ من خندف إن لم انتقمْ *** من بني أحمدَ ما كان فعلْ
وقد أعلن الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ بني اُميّة لا يتركونه بحال من الأحوال، فقد صرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة قائلاً: “لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقتلوني”.
وقال (عليه السّلام) لجعفر بن سليمان الضّبعي: “والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة – يعني قلبه الشّريف – من جوفي”.
فتحرّك الإمام (عليه السّلام) من مكة مبكّراً؛ ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الاُمّة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الاُمويّون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.
6 – انتشار الظلم وفقدان الأمن
قام الحكم الاُموي على أساس الظلم والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين وإمام الاُمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للاُمّة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل شرار الخلق لإدارة الاُمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الاُمّة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتّى قال النّاس في ولاية زياد بن أبيه: «انج سعد، فقد هلك سعيد»؛ للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد7.
ومن جانب آخر أمعنت السّلطة الاُموية في احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الاُمّة بنظرة استعلائية قبلية8، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين، وبالأخص مَنْ عرف منه ولاء أهل البيت (عليهم السّلام)9.
وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسين (عليه السّلام): يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم10.
أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين (عليه السّلام) مكتوف اليد، فقد احتجّ على معاوية ثمّ ثار على ولده يزيد؛ إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الاُمّة من الجور الهائل.
7 – تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)
اجتهد الحكم الاُموي أن يغيّر الصّورة الصّحيحة للرسالة الإسلاميّة، والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد الاُمويّون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين، والتمييز بين العرب وغيرهم، وبثّ روح التناحر القبلي، والعمل على تقريب قبيلة دون اُخرى من البلاط وفق المصالح الاُمويّة في الحكم.
وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشّخصيّة والإقبال على اللهو11.
ولمّا كان لأهل البيت (عليهم السّلام) الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلاميّة، ورعاية هموم الرسالة الإسلاميّة ؛ فقد عمد الاُمويّون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم باُسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد12.
8 – الاستجابة لأمر الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)
إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير، ومبلّغها العظيم (صلّى الله عليه وآله) وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السّماء دون تخطيط وعناية، ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها، يخلص لها في قوله وعمله، ويوجّهها نحو هدفها المنشود، مستعيناً بدرايته وبعلمه الشّامل بأحكامها، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى وتبقى كلمة الله هي العليا.
والمتتبّع لسيرة الرّسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبيّ وتكاملها، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.
وقد أدلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق، فقال (عليه السّلام): “أمرني رسول الله بأمر وأنا ماضٍ له”13.
كما إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتّى بات ذلك من الاُمور المتيقّنة لدى المسلمين14 15.
- 1. تأريخ الطبري 4 / 304، والكامل في التأريخ 3 / 280.
- 2. أعيان الشّيعة 1 / 603.
- 3. الإمامة والسياسة 1 / 284.
- 4. كتاب سُليم بن قيس / 166.
- 5. شرح نهج البلاغة 4 / 327.
- 6. أنساب الأشراف ق 1 ج 1، وتأريخ ابن كثير 8 / 162.
- 7. تأريخ الطبري 6 / 77، وتأريخ ابن عساكر 3 / 222، والاستيعاب 1 / 60، وتأريخ ابن كثير 7 / 319.
- 8. العقد الفريد 2 / 258، وطبقات ابن سعد 6 / 175، ونهاية الإرب 6 / 86.
- 9. شرح النهج 11 / 44، وتأريخ الطبري 4 / 198.
- 10. تأريخ اليعقوبي 2 / 206.
- 11. تأريخ الطبري 8 / 288، والأغاني 4 / 120.
- 12. نهج البلاغة 3 / 595 و 4 / 61 و و 11 / 44.
- 13. البداية والنهاية 8 / 176، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، ومقتل الحسين – للخوارزمي 1 / 218، والفتوح 5 / 74.
- 14. مستدرك الحاكم 4 / 398 و 3 / 176، وكنز العمال 7 / 106، ومجمع الزوائد 9 / 187، وذخائر العقبى / 148، وسير أعلام النبلاء 3 / 15.
- 15. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، تاليف لجنة من الكُتاب بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم.