نص الشبهة:
ولربما يراود ذهن البعض سؤال: عن السبب في الإصرار على الصلاة جماعة حتى في حال الحرب، إذ أن بالإمكان أن يصلي المسلمون فرادى متفرقين، مع الاحتفاظ بمواجهة العدو بالكثرة العددية في ساحة القتال. خصوصاً مع اتساع الوقت لأداء الصلاة بصورة متوالية من العناصر، بحيث لا يخل ذلك بالحالة التي يتخذونها تجاه العدو بهدف إرهاقه، أو دفع شره.
الجواب:
وللإجابة على هذا السؤال : لا بد لنا من الإشارة إلى أن هذا أمر مقصود لله عز وجل، لأنه يمثل مطلباً أساسياً في أكثر من اتجاه.
فهو من جهة يمثل إصرار المسلمين على الجهر بمعتقداتهم، وممارسة حقهم بحرية التعبير عنها، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية. رضي الناس ذلك أم أبوا.
كما أنه يمثل إظهاراً للالتزام بالقيادة المثلى، والاقتداء بها، والتلاقي عليها ومعها لتكون رمز وحدة الأمة، من خلال وحدة الهدف، ثم وحدة الموقف، وانتهاءً بوحدة المصير.
ومن جهة أخرى : فإن هذا المظهر العبادي الوحدوي التنظيمي ووحدة الشعار، لا بد أن يثير لدى الأعداء أكثر من سؤال يرتبط بالموقف السياسي والعسكري، الذي يتخذه ذلك العدو، ويتحرك ويتعامل معهم على أساسه ومن خلاله، حتى إذا ما راجع حساباته في هذا السبيل، فلسوف يجد أنه لم يكن منطقياً، ولا منصفاً في عدائه لهم، ولا في مواقفه منهم، التي اتخذها انطلاقاً من عدم قناعته بما اقتنعوا به، أو فقل : من عدم قبوله بما هم عليه. فهل عدم اقتناع شخص بأفكار، ومعتقدات، وقناعات، شخص آخر، يعطيه الحق في تدمير ذلك الشخص واستئصاله من الوجود؟!..
وهل إذا قال هؤلاء : ربنا الله، وليس الصنم الفلاني، يستحقون أن يواجهوا بالحرب وبالحرمان وبالقطيعة، وبجميع أشكال الاضطهاد والتنكيل؟!.
إن صلاة الخوف هذه لسوف تقنع هذا العدو بالذات أن ما يحاربهم من أجله، ويصرون هم عليه، إنما يعنيهم هم أولاً وبالذات، وليس له هو حق في اتخاذ أي موقف سلبي منهم لأجل أمر يخصهم ويرجع إليهم، فـ ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ … ﴾ 1 فإن الدين يقوم على أساس القناعات وعلى أساس المشاعر، وعقد القلب، وإحساسه بالأمن، واستشعاره الإيمان.
ولا يمكن أن يفرض هذا على أحد، ولا يتحقق الإكراه فيه.
ولا يملك أحد أن يصادر حرية الآخرين في أن يعتقدوا ما شاؤوا، ولا يمكنه أن يمنعهم من ممارسة كثير مما يريدون ممارسته.
بل إن هذا يخضع للمنطق وللبرهان وللدليل أولاً، مع إعطاء دور رئيس لتكوّن عامل الثقة، والصراحة والصدق والإنصاف، والحرية، وغير ذلك مما هو ضروري في مجال التحرك الواعي والمسؤول في مجال الدعوة لتحقيق الاستجابة الحقيقية والواعية والمسؤولة.
فصلاة الخوف شعار، وموقف، وبلاغ، ودعوة، وتصميم، ووحدة، وخلوص، والتفاف حول القيادة، وتربية، وتعليم، وتحد، ثم هي حرب نفسية وسلاح قاطع.
وليس ثمة رسالة أبلغ منها للعدو، ليعرف أن هؤلاء الناس قد بلغوا من إصرارهم على مواقفهم، وتمسكهم بمبادئهم، وفنائهم فيها، حداً يجعلهم يرون قضيتهم، ودينهم ودعوتهم، هي الأهم من كل شيء، وأن حياتهم، وكل شيء يملكونه لا بد أن يكون لها ومن أجلها، وفي سبيلها، وهم يمارسون ذلك عملاً، ويقدمون على البذل والعطاء في سبيله، بكل رضاً ومحبة، وصفاء وسخاء.
ومن جهة ثانية : إن ذلك يؤكد للإنسان المسلم مدى أهمية الصلاة، حتى إنها لا تترك بحال، حتى للغريق المشرف على التلف، وحتى للمقاتل الذي يواجه الأخطار الكبرى على حياته ووجوده..
وتأتي الصلاة في هذه الحال بالذات ـ حال الخوف ـ لتربط الإنسان بمصدر الأمن، والسلام، والطمأنينة للقلوب، وانسجام المشاعر وتلاقيها، ليعيش الإنسان في الآفاق الملكوتية روح الطهر والخلوص، ليصبح قادراً على التخلص مما يربطه بهذه الدنيا، ويشده إلى الأرض ليخلد إليها، ويحجبه ذلك عن مصدر القدرة، وعن الانطلاق في رحابه، وفي آفاق ملكوته، ومعاينة آلائه، وتلمسها، والتصديق بها 2.
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 256، الصفحة: 42.
- 2. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، السنة 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء العاشر.