ملفت هذا التحول السريع والمفاجئ أحياناً، في المصطلحات والمفاهيم والمشاعر.
حتى أمد قريب كان الإجماع مطبقاً على مدح العمليات الاستشهادية وأنها قمة الفداء والتفاني في سبيل المبادئ والأمة… فإذا بها تتحول عند البعض، بمن فيهم “المثقفون” و”النخب” إلى عمليات “انتحارية”!
كان الجميع ينتظر “الحدث” في قتل أكبر عددٍ من الإسرائيليين الأعداء وإنزال أكبر عدد من الإصابات بهم… فإذا بنا نرى بعض المعترضين على العمليات ضد “المدنيين” والتي تضر بأهداف وسمعة القضية!
كان الجميع يجاهر ويفتخر بلاءات الخرطوم الثلاث، ولم يكن أحدٌ يسمح لنفسه بمجرد التفكير في البراءة من “لا” واحدة… فإذا بالكثير اليوم، بل الأكثر، لا ينطقون بها إلا في “تشهدهم” فقط، ولولا اضطرارهم لذلك “وحاجة شعوبهم” ما نطقوا بها إصلاً!
بات الجميع اليوم يعيرون العدو الإسرائيلي أن سياسته الهوجاء الحالية لن تصل إلى “السلام المنشود”!
وكأن السلام هدفٌ إسرائيلي استراتيجي تسعى جاهدةً إليه.
لماذا هذه التحولات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟
هل هي حالة الإحباط، أم اليأس، أم الملل، أم الخوف، أم تجنب “التهمة”، أم وباء “11 أيلول” السريع الانتشار، أم فراراً من الشبهة، أم تناغمٌ مع بعض المفكرين والسياسيين الغربيين… أم كل ذلك مجتمعاً؟
فجأة نرى بعض الكتَّاب “والمحللين” يفهمون بمجرد الإشارة، فيمتشقون أقلامهم ويخطون أوهامهم وتخيلاتهم “وعقدة النقص لديهم”.
أليس لهذه الأمة ثوابت ننطلق منها، ونعود إليها، وندافع عنها… أم أننا تخلينا عن كل ذلك طمعاً في إرضاء “الآخر” الذي يشعر الكثير منا في قرارة أنفسهم أن كل ما يقوله هو حق، وإن كان كذباً ونفاقاً، وكل ما عندنا مرفوض ومنافي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حتى باتت مشاهد إذلال شبابنا وتهديم بيوتنا وتكديس قتلانا، التي نراها يومياً وساعتياً في فلسطين… باتت أمراً عادياً أو مجرد خبر؟
بات من السهل توقع، أن أي مقال أو فكرة أو نظرية أو “إثارة” في مجلة معروفة أو كاتب مشهور أو مشبوه أو “مرتبط”… من السهل توقع صدى ما قيل أو نشر في وسائل إعلامنا وفي كتابات وتحليلات كتَّابنا وكأن مثل الأجداد “كل افرنجي برنجي” قد أنزل علينا من السماء!
تثار مسألة المدنيين عند العدو الإسرائيلي وكأنهم كأي مدنيين آخرين في أرجاء العالم، وهم الذين جاوؤا على أقدامهم وبملء إرادتهم منذ سنوات قليلة ليستعمروا أرض غيرهم.
يعاب على من يتجرأ في الحديث عن حقنا بكل فلسطين، وعن عدم واقعيته ومواكبته للتطورات العالمية، بل هو متهم بالغباء حتى يثبت العكس.
بل أن ما يسمى بحدود 67 أو بحقوق الشعب الفلسطيني، عفا عليها الزمن، “والموضة” الحديث عن السلطة الفلسطينية، وكفى.
تنتقد نظرية “المؤامرة”، وكأننا نتعامل مع الملائكة أو مع سياسيين من جمهورية أفلاطون الفاضلة… بينما المؤامرة هي تصرفٌ طبيعي ورد فعل عادي بين الدول والجماعات المتنافرة أو المتعادية، فكلٌ منهما يخطط ويدبر ويتآمر على الآخر.
هذا هو التاريخ، وتشهد بذلك الوقائع القديمة والحديثة.
إن ما يؤسف له، أن الدوائر الاستخباراتية العالمية، ومراكز القرار السياسي، ومراكز الأبحاث المتخصصة بشؤوننا، تكثر من نظرياتها الاختبارية (البالون الاختباري)، لتدرس رد فعلنا علينا، وبناءً على ذلك تأخذ القرار النهائي والحاسم، وتنفذ فوراً… ونحن سعداء بمنظر “البالون” ولونه وحجمه ولماذا تحرك يميناً وليس شمالاً، كقصة الدجاجة أو البيضة، أيهما قبل الآخر!
هذا ما حدث بالأمس القريب: في العراق، في أفغانستان، في فلسطين… وقد لا يكون لبنان وسوريا وإيران بعيدة عن قراراتهم.
آن الأوان أن نقف على أرض ثابتة ونستند على جدار صلب وتكون لدينا رؤية واضحة… والأهم، أن يكون لدينا عزم وإصرار، واقتناع بأن لا بد من ثمن أن يدفع، ومعاناة قد تؤلم.
أما أن نكون صدى لأصوات ونظريات الآخرين، فلن يخرجنا ذلك من الحفرة التي وقعنا فيها، وارتضيناها… بل نموت فيها، والأعداء يستمتعون بالتفرج علينا.
فالحياة في موتنا قاهرين، والموت في حياة مقهورين1.
- 1. الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي خضرا(حفظه الله).