ثمرة طيبة من ثمرات الشجرة الخالدة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، حملت في شخصيتها الطهر الفاطمي والعصمة العلوية والفداء الحسيني وفوق كلّ ذلك العطر النبوي فأنبت كلّ ذلك وأنتج الشخصية الفريدة المسمّاة بـ”زينب” عليها السلام، والملقبة بـ”أمّ المصائب”. إنّها النموذج الكامل للمرأة المسلمة للعصور كلّها والدهور، إنّها الشعلة التي اقتبست النور من نور أنوار الدنيا رسول الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّها البطلة التي ورثت الشجاعة والجرأة والإقدام من قاتل صناديد العرب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي المشاعر الإنسانية المرهفة التي تفيض حباً وعطفاً وحناناً دافقاً حيث أخذت ذلك كلّه من أمها الزهراء البتول (عليها السلام) التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وهي الرسالة الإسلامية بما ترمز إليه من القوة والثبات والعنفوان، والإخلاص والعلم، والحجة والبرهان كما ظهر ذلك جلياً في مواقفها الكربلائية فصارت صنو الحسين (عليه السلام) في ثورته، والجزء المتمّم لحركة الثورة الحسينية ودورها التغييري في حياة الأمة كلّها وعلى
امتداد الأجيال. هي القدوة بجهادها وصبرها وأذاها وحزنها وفَقْدِ أحبَّتها من الأخوة والأولاد وأولاد الأخوة وأسرها والتنقّل بها من بلدٍ إلى بلد، فهي التي تحمّلت كلّ ذلك لأنّه كان في سبيل الله عزّ وجلّ فداءً لدينه وإخلاصاً. لقد كانت في كربلاء حركة لا تهدأ، “فتارة” تحضن أطفال أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانت تصمّ آذانهم وتروّعهم خيول العدو الصاهلة ووقع السيوف النازلة فتكاً بالأجساد الطاهرة، و”تارة أخرى” تواسي النساء والصبايا الناحبات الباكيات على فَقْدِ الآباء والأخوة والأبناء، و”ثالثة” تساعد الرجال وتشد من أزرهم وهم يتأهّبون للنزول إلى الميدان ومواجهة الأعداء، و”رابعة” تقف عند الأجساد الطريحة على الرمال تودعها وهي راحلة إلى الله، إلى حيث الأمن والأمان، و”خامسة” تحمل بين يديها الجسد الطاهر لأبي عبد الله سيد الشهداء (عليه السلام) وتدعو الله بقلبٍ يعتصره الألم ونفس تغلي بالثورة على الأمة الظالمة وهي تقول “اللهم تقبّل منّا هذا القربان”، و”سادسة” تدافع عن الإمام العليل زين العابدين (عليه السلام) وتحول بين القوم الظالمين وبينه وتُقدِّم نفسها فداءً له وتهب نفسها للقتل لحفظ الحجة الإلهية في الأرض ومن دون أيّ تردّد أو خوف. فأيّ إيمانٍ ملأ ذلك القلب الكبير؟ وأيّ صبر تحمّلته؟ وهي ترى كلّ ذلك أمام ناظريها، فمن الطفل الرضيع البريء المذبوح من الوريد إلى الوريد الذي سقوه الدم بدل الماء، فتلك الجريمة وحدها كافية لتنفطر القلوب من أجلها لفظاعتها ووحشيتها وهمجيتها، إلى القاسم بن الحسن الشاب في أول انفتاحه على الدنيا، إلى علي الأكبر الشبيه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى قمر العشيرة أبي الفضل العباس، إلى ولديها عون وجعفر، وإلى إخوتها من أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) أولاد الأم الصابرة المحتسبة أم البنين، وصولاً إلى الجريمة الأكبر التي ارتكبها أولئك الفسقة الفجرة، وهي “سبي زينب (عليها السلام) والحرائر من نساء أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث رآهن القريب والبعيد والوالي والمعاند، وهنّ حاسرات الشعر مهتوكات الستر، تلك الجريمة التي هي أفظع من القتل الذي فيه إزهاق الأرواح، وهي الجريمة التي عبَّر عنها الإمام صاحب العصر والزمان “عج” في زيارة الناحية المقدسة بقوله: (فلأندبنَّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّك بدل الدموع دماً)، حيث ينقل العالم الواعظ المُلاَّ سلطان علي التبريزي أنّه تشرَّف في عالم الرؤيا بمشاهدة ولي الله الأعظم “عج” وسأله عن المعنى المراد من هذا المقطع من الزيارة وما المراد منه، وما هي المصيبة التي يبكي عليها صاحب العصر والزمان بدل الدموع دماً، ثمّ قال له: “أهي مصيبة علي الأكبر؟” فأجابه الإمام “عج” لا… لو كان علي الأكبر حياً، لبكى هو أيضاً على هذه المصيبة دماً، ثمّ قال له: أهي مصيبة العباس؟ قال (عليه السلام) لا، لو كان العباس (عليه السلام) حياً، لبكى دماً عليها أيضاً، ثمّ قال له: هي مصيبة سيد الشهداء إذن؟ قال (عليه السلام)؟ لو كان سيد الشهداء حياً لبكى دماً عليها أيضاً، فقال له أخيراً: إذن أي مصيبة هذه؟ فأجابه الحجة المنتظر “عج”: (إنّ هذه المصيبة هي “سبي زينب” عليها السلام). نعم، إنّ في تلك الجريمة إهانة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ الجريمة ارتكبت باسم دينه ورسالته وبحقّ ذريته وعترته الطاهرة التي كان ينبغي أن تخدمها الأمة وتقدّسها كونها تنتمي إلى خاتم الأنبياء (عليه السلام) الذي يحكمون الأمة الإسلامية باسمه ويسفكون دماء أولاده كذباً وادعاءً ونفاقاً. ومع كلّ ذلك الجو المليء بالإحباط والانكسار وتوهين العزيمة وفَقْدِ القدرة على الضبط لحركة المشاعر والانفعالات، نرى زينب (عليها السلام) في القمة من الإنضباط والإتّزان والثقة بالنفس والتماسك وقوة الإرادة وشدّة العزيمة، ولا شكّ أنّها في تلك اللحظات الحرجة كانت تكبت انفعالاتها من موقع الإيمان العميق بالله والمعرفة التامة بأنّ كلّ ما جرى هو بعين الله، ولم تُسقِط تلك الدماء أيّ شعارٍ من شعاراتها الإسلامية، ولم تتنازل أمام كلّ ذلك عن أي مبدأ من مبادىء الإسلام، بل انطلقت بكلّ عزم وتصميم على التحدّي للقوة الظالمة المستبدة من ذلك الموقع الذي كان يتصوّر فيه العدو أنّه أخرس بعده كلّ صوت يمكن أن ينطق بالتعريض للحكم الأموي ولفضح خياناته وجناياته بحق الإسلام والأمة الإسلامية. بتلك الروح الإلهية والنفس المطمئنة الواثقة تحمّلت زينب (عليها السلام) كلّ تلك الآلام وتجرّعت كلّ تلك الغصص، واحتسبتها عند الله سبحانه، ولم تترك مجالاً للأعداء لكي يهزموا ثقتها واطمئنانها، بل أخذت المبادرة أيضاً في الرد عليهم بما أخرس ألسنتهم ودحض حججهم كما فعلت بعبيد الله بن زياد عندما أراد أن يشمت بها قائلاً لها: كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتكِ؟ قالت (عليها السلام): (ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة)، فغضب منها ابن زياد وأراد أذيتها فخرج عليه رجل من الحاضرين يمنعه من ذلك لأنّها امرأة!. وكذلك موقفها من يزيد لعنه الله عندما خطبت تلك الخطبة بعد أن سمعت أبيات الشعر التي قالها معلناً فيها كفره الصريح وخروجه عن دين الإسلام، تلك الخطبة المليئة بالثورة والعنفوان والمتبعة بروح الإسلام المحمدي العلوي الحسيني الفاطمي، والتي جاء فيها: (أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت شعورهن)، وكذلك قولها: (فوالله ما فريت إلّا جلدك، ولا حززت إلّا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته)، وكذلك: (ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء) وفي تلك الخطبة نراها تقلّل من قيمة يزيد وتسأله بقولها (عليها السلام): (ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى) وأخيراً تعلن له نتيجة فعله بقولها (عليها السلام) قول الواثق المطمئن: (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين). تلك هي بعض جوانب تلك الشخصية الرسالية التي تجاوزت حدود التأثير في نوعها لتصبح قدوة كأمها الزهراء (عليها السلام) لعموم المسلمين لامتلاكها الصفات الكبيرة للإنسان التي تتفوّق على كلّ الخصوصيات الأخرى في الشخصية الإنساينة المتعارفة1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.