التقدم البشري و سعادة الانسان
لقد توصل الإنسان في عصرنا الحاضر إلى مرحلة متميزة من العلم و التكنولوجيا في مجالات مختلفة فتهيأت له الأسباب لكي يخطو خطوة كبيرة في حقل الاكتشافات و الاختراعات المضاعفة، و هي أيضا وفرت له إمكانيات هائلة مكنته من توفير كل ما هو بحاجة إليها من وسائل الراحة و الدعة و الرفاهية و قد كان يحسبها قبل ذلك نوعاً من الخيال و الوهم.
فالأجهزة الكهربائية الأوتوماتيكية و الإلكترونية و البرمجيات حوّلت كثيراً من الأمور التي كانت غير ممكنة قبل ذلك إلى ممكن و بسيط، و في متناول الأطفال و العجزة و الأغبياء على حد سواء، كما و أصبحت حاجياته و تمنياته ماثلة أمامه بكبسة زر دون أي جهد جهيد.
و هذه أمواج الأثير اليوم تتناقل جُلُّ معلوماته من و إلى أقصى نقاط العالم في لمحة بصر، فأصبحت الكرة الأرضية بمثابة بيت كبير يتخاطب سكانه مع بعضهم دون أدنى مشقة أو تكاليف تذكر، و لم تعد اختلاف اللغات و العادات و التقاليد و الثقافات و الأديان و المذاهب عائقاً في طريق التواصل و التفاهم و التعامل، بل و حتى التشاجر و التنازع.
أما الطائرات فقد سخرت له ميدان الجو، و جعلته يتنقل بسرعة مدهشة من جهة لأخرى و يطير إلى مقصده بأسرع و أخف مما كان يجري في خياله حول العنقاء.
و فتح رجال الفضاء لهذا الإنسان أبواب السماء، و صارت الكواكب السماوية في متناوله يسافر لها متى شاء، حتى أصبح يتحدث عن السفر إلى القمر و سائر الكواكب ببساطة و كأنه يتكلم حول السفر من بلدة إلى بلدة مجاورة.
و توسعت دائرة المستجدات العلمية و الصناعية إلى حد يصعب إحصاؤها، و كأن الطبيعة عجزت و تضايقت من الاحتفاظ بأسرارها التي ادخرتها طيلة الآلاف من السنين، و قرّرت كسر صمتها و حاولت الكشف عن هذه الإسرار في مدة وجيزة لتقدمها بصورة مستعجلة واحدة تلو أخرى لإنسان عصرنا.
و في ظل هذه المستجدات الكثيرة و الشاملة، و من خلال تعرُّفه على كثير من أسرار الطبيعة العجيبة و تغلّبه على بعض القوى الطبيعية، تمكّن إنسان عصرنا من الوصول إلى أعلى مراتب الرفاهية المادية، و تمكن من أن يجعل لنفسه من الأرض قصراً مشيَّداً ذو جلال و فخامة تُبهر العيون، كل ذلك أملاً منه في أن يعيش فيه براحة و سرور و سعادة و هناء، تلك الأهداف التي كانت أمنيته المبتغاة التي أجهد من أجلها نفسه قروناً متتالية.
هل نحن سعداء ؟
رغم التقدم البشري الهائل في كافة مجالات الحياة، و رغم الازدهار و التوسعة الشاملة، و رغم وفرة المال و التقدم العلمي، و رغم وفرة الأطعمة و المأكولات و المشروبات و الملبوسات و الملذات التي لا تعد و لا تحصى و التي لم تخطر يوماً ما على بال ملك من الملوك و سلطان من السلاطين، رغم كل ذلك فإن إنسان اليوم لا يشعر بالسعادة و لا يهنأ بالعيش في هذا الكوكب المتألق، فما هو السر، و متى يكون الإنسان سعيداً؟
ما هي السعادة الحقيقية ؟
السر في عدم شعور الإنسان بالسعادة هو أنه تمكن بعد هذا الجهد من تأمين متطلبات جانب واحد من جوانب حياة الإنسان و أهمل متطلبات الجوانب الأخرى من حياته، و حيث أن السعادة الحقيقة لا تحصل و لا تتحقق إلا إذا كانت شاملة لكافة جوانب حياة الإنسان المادية و المعنوية، فلذلك نرى الإنسان لا يشعر بالسعادة رغم توفر متطلبات الجانب المادي من حياته.
إن إهمال الجانب الروحي للإنسان، و الاقتصار على النظرة المادية البحتة إلى الحياة، يحدث فراغاً كبيراً في الجانب الإيماني و الإعتقادي بالله عَزَّ و جَلَّ من حياة الإنسان، كما و إن عدم الاكتراث بتعاليم الشرائع الإلهية، و القيم الأخلاقية و الإنسانية تحدث شرخاً كبيراً في هيكل السعادة الإنسانية، كما تترك فراغاً كبيراً في روح الإنسان، فلا يشعر الإنسان حينئذ بالطمأنينة و الراحة و لا يرتوي عطشه الروحي أبداً فيظل حائراً، و سرعان ما يشعر بخيبة أمل فيندم على ما فرط في حياته حيث لا ينفع الندم.
قال الله جَلَّ جَلاله: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ 1.
و قال عَزَّ و جَلَّ: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ 2.
و قال عَزَّ مِنْ قائل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 3.
و قال سبحانه و تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴾ 4.
و قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 5.
كيف نكون سعداء ؟
إن السعادة الحقيقية إنما تحصل في الحياة المتوازنة الخالية عن الإفراط و التفريط، و الإسلام دين الحياة المتوازنة التي تجمع بين الدنيا و الآخرة بشكل حكيم دون نفي واحدة على حساب الأخرى و هذا ما تؤكده الأحاديث الكثيرة المروية عن النبي المصطفى (صلى الله عليه و آله) و عترته الطاهرة (عليهم السَّلام).
قَالَ الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لآِخِرَتِهِ وَ لَا آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ” .
وَ رُوِيَ عَنِ الْعَالِمِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: “اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَ اعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً” .
فلا رهبانية في الإسلام، و لا إفراط و لا تفريط في أي من جوانب الحياة.
- 1. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 103 و 104، الصفحة: 304.
- 2. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 39، الصفحة: 355.
- 3. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 97، الصفحة: 278.
- 4. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 124، الصفحة: 320.
- 5. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 15 و 16، الصفحة: 223.