ليلة الفجيعة والمصيبة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمير المؤمنين وللزهراء (عليهما السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) وأهل البيت، هي ليلة الحزن والدموع والزفرات والآهات لمحبي الحسين (عليه السلام) والمستشهدين معه من الأهل والأصحاب، وهي الليلة الأولى للحسين (عليه السلام) وهو مطروحٌ على أرض الكرب والبلاء ممزوج الدم برمال تلك الصحراء ومقطوع الرأس من الجسد ومسلوب العمامة والرداء.
هي ليلة الفرح الأموي والشماتة الأموية بأخذ الثأر من الإسلام وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الحسين (عليه السلام) قتيلاً، وزينب (عليها السلام) والنساء أسيرات بيد ذلك القشي الظالم الذي اشترى سخط الخالق برضا المخلوق عنه فسفك دماء الأولياء والصالحين.
كيف كانت تلك الليلة، بل كيف كان وقعها على أهل البيت (عليهم السلام)؟ وعلى النساء خصوصاً؟ فأهل البيت لهم عند المسلمين وقبل ذلك عند الله عزّ وجلّ المكانة المرموقة لإيمانهم وسبقهم في الجهاد وتحمّل أعباء الرسالة، ولذا كانوا موضع الإحترام والتقدير عند عموم طبقات أفراد الأمة، فلم يُعهد عنهم ما يخالف الصورة المشرقة الوضّاءة التي أكسبتهم تلك الموقعية المميزة عند الله والناس.
لذلك يقول صاحب كتاب “مقتل الحسين (عليه السلام)”: (يا لها من ليلةٍ مرّت على بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك العزّ الشامخ الذي لم يفارقهن منذ أوجد الله كيانهن، فلقد كُنَّ بالأمس في سرادق العظمة وأخبية الجلالة تشع نهارها بشمس النبوة ويضيء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة، وبقين في هذه الليلة في حلك دامس من فَقْدِ تلك الأنوار الساطعة بين رحل منتهب وخباء محترق وفرق سائد وحماة صرعى ولا محامٍ لهن ولا كفيل لا يدرين من يدفع عنهنّ إذا دهمهن داهم ومن الذي يرد عادية المرجفين ومن يسكن فورة الفاقدات ويخفّف من وجدهن نعم كان بينهن صراخ الصبية وأنين الفتيات ونشيج الوالهات، فأم طفل فطمته السهام، وشقيق مستشهد وفاقدة ولد، وباكية على حميم، وإلى جنبهنّ أشلاءٌ مبضّعة وأعضاء مقطّعة ونحور دامية وهن في فلاة من الأرض جرداء… وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزّهم نشوة الفتح وطيش الظفر ولؤم الغلبة! وعلى هذا كلّه لا يدرين بماذا يندلع لسان الصباح، وبماذا ترتفع عقيرة المنادي أبالقتل أم بالأسر؟! ولا من يدفع عنهن غير الإمام العليل (عليه السلام) الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضراً وهو على خطر من القتل).
هذه هي الحالة التي كان عليها البقية من أهل البيت (عليهم السلام) في تلك الليلة، لكن من موقع التسليم بقضاء الله عزّ وجلّ والرضا بحكمه تعالى الذي أجراه على عباده، لقد كان موقفهم ومن موقع الهزيمة والإنكسار أمام جحافل الأمويين في القمة من الصبر والثبات، فلم يضعفهم كلّ ذلك أو يأخذ من عزمهم على البقاء في طريق الحق والصدق والوفاء لله ودينه.
إنّ ليلة الحادي عشر هي ليلة الصبر الكبير الذي كانت عليه “العقيلة زينب” (عليها السلام)، التي رأت وعاينت في ذلك النهار الذي انصرم مصارع الأهل من الأخوة وأبنائهم وابنيها وأبناء العم والأصحاب المخلصين، ومع كلّ ذلك تتمالك نفسها بإيمانٍ قوي وثقةٍ كبيرة بالله ورضا بقضائه، وكلّ ذلك حتى لا تسقطها المصيبة ويهزّها الخطب الجلل، ولتبقى قوية متماسكة فالمسألة لم تنتهِ بقتل الحسين (عليه السلام) بل إنّها بدأت الآن، ولهذا فهي تريد أن تستجمع كلّ قوة الإيمان والصبر والتوكل، ولهذا توجّهت إلى الله عزّ وجلّ بصلاتها ونوافلها من جلوس كما عبّر الإمام السجاد (عليه السلام) عن الحالة الهادئة الصابرة المطمئنة الكاشفة عن القلب الكبير الذي وسِعَ كلّ تلك المصائب والرزايا.
من هنا، فإنّ موقف شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ينبغي أن يكون حالهم ليلة الحادي عشر على مثل حال أهل البيت (عليهم السلام) فيها من التأسّي والاقتداء والمواساة بذلك المصاب ما يثلج قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزهراء (عليها السلام) المفجوعة بقتل الحسين (عليه السلام) ومصائب ابنتها زينب (عليها السلام)، وفي هذا المضمون وردت روايات كثيرة تؤكد على محبي أهل البيت (عليهم السلام) أن يعيشوا تلك الليلة بذلك النحو المعبّر عن الإنقياد والطاعة لأئمتنا الأطهار (عليهم السلام) ولما في ذلك من مظاهر الوفاء والولاء والحب.
من تلك الروايات ما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (من زار الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكياً لقي الله يوم القيامة بثواب ألفي ألف حجة وألفي ألف عمرة وألفي ألف غزوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الراشدين (عليهم السلام))، وأصرح من ذلك الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من زار الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء “وبات عنده” كان كمن استشهد بين يديه).
إنّ المؤمن بخط أهل بيت العصمة والطهارة عليه أن يكون في تلك الأيام والليالي من عاشوراء، وخصوصاً في ليلة الحادي عشر، ليلة الفجيعة الكبرى والرزية العظمى التي أبكت ملائكة الأرض والسماء على الحالة التي كان عليها أئمتنا (عليهم السلام) أثناء عاشوراء.
إنّ على الموالي لخط أهل البيت والمتّبع طريقتهم في الحياة أن يعيش تلك الليلة وكأنّه صاحب المصاب أو فقد عزيزاً ومحبّاً لديه، بل عليه أن يعيش الإحساسات المرهفة المعبّرة عن الحزن بأوضح المعاني والمظاهر، لأنّ الحسين (عليه السلام) هو شهيد الإسلام والعقيدة، وهي التي ينبغي أن يحافظ الإنسان عليها كحفاظه على أولاده وماله، إن لم يكن أكثر وأهم في الحفظ والصون، لأنّ دينه هو المنقذ له من التهاوي إلى النار وبئس القرار، ولذا شدد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على اتباعهم ومواليهم بالحديث المعروف: (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).
وحتى يستشعر المؤمن حقاً ويعيش الإحساس بالمصيبة ليكون مواسياً حقيقياً وواقعياً، عليه أن يكثر من ذكر الحديث المعروف: (يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) ليشعر من خلال ذلك بالإنتماء الفعلي إلى تلك المدرسة الحسينية التي تجمع كلّ الصفات الإسلامية والأخلاق النبوية والشجاعة العلوية.
وبذلك يكون المؤمن قد أدى قسطاً ممّا يجب عليه من الشكر لله والمواساة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزهراء (عليها السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ومن خلال هذا الجو يمكن للمؤمن أن يعيش التذكّر الدائم للحق المضيَّع ويكون في موقع الجهاد ضدّ الباطل الذي ثار من أجله الحسين (عليه السلام) وكانت كربلاء.
لذلك كلّه، علينا أن نعيش ليلة الحادي عشر من المحرم، وكأنّ كربلاء قد سبقتها والأجساد ما زالت مطروحة على الرمال، لنتمكن من أن نعيش جزءاً بسيطاً من الحزن والألم والحسرة التي سيطرت على أهل البيت (عليهم السلام) في تلك الليلة التي مرّت طويلة بآهاتها وزفراتها وعويل الأطفال وصراخهم وآهات النساء الثكلى اللواتي فقَدن الأبناء والأزواج والأخوة1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.