التعليممقالات

دور البكاء …

يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ … إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ 1 ويقول أيضاً: ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ 2، وورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الوداع: (…ومن ذرفت عيناه من خشية الله، كان له بكلّ قطرةٍ من دموعه مثل جبل أحد يكون في ميزانه من الأبرار).
لا شكّ أنّ البكاء الذي هو عبارة عن إظهار ما في مكنون النفس من عوامل الحزن أو الفرح وسيلة لأنّ الإنسان من خلال البكاء يكون قد أخرج ذلك المكنون من صدره بتلك الطريقة بدلاَ من كبت مشاعره وحبسها التي قد يترتّب عليها ضيق في النفس وتكدّر في العيش وقلق مستمر ينتاب الإنسان عندما لا يجد الوسيلة لتخفيف احتقانات النفس المتأتية من جرّاء الكثير من الأمور التي تحصل في المسيرة العامة لبني البشر قاطبة.
إلاّ أنّ البكاء الذي نقصد الحديث عنه ليس البكاء بالمطلق، وإنّما هو البكاء الذي يكون من ظواهر الإيمان والإرتباط بالله سبحانه وتعالى، أيّ المقصود “البكاء الذي تشير إليه الآيات والروايات” الذي يخفّف عن النفس أثقالها ويجعلها مرهفة الإحساس خفيفة ونظيفة وقابلة لكي تسمع آيات الله التي تدخل إلى القلب والعقل والنفس لتستقرّ في تلك الأماكن وتمارس دورها المطلوب في تهذيب الإنسان وتقريبه من خالقه وربّه وتدلّه على أنواع السلوك المتّزن الذي ينبغي أن يطبّقه ويسير عليه في الحياة الدنيا لكي يأمن من الفزع الأكبر عند الله يوم الحشر.
فالمراد من البكاء إذن هو الوارد في الحديث: (البكاء من خشية الله مفتاح رحمة الله) أو (البكاء من خشية الله ينير القلب، ويعصم من معاودة الذنب) أو (من خرج من عينه مثل الذباب من الدمع من خشية الله، آمنه الله به يوم الفزع الأكبر).
وهذا البكاء هو الذي كان مورداً للمدح الإلهي في الآيتين المتصدرتين، وهذا البكاء هو الذي يحصل عند الإنسان من خشية الله ومن الخوف من الله، وهذا البكاء هو التعبير عن الندم عن كلّ ما جناه الإنسان من الجني السيء في سابق أيام حياته، وهذا البكاء هو الذي يفتح الباب أمام الضالّ والتائه للهداية والرجوع الى الله، لأنّ البكاء بما هو حالة إنفعالية وجدانية تنتج عن أمور تحصل مع الإنسان، فإن كانت تلك الأمور من النوع السيء فيشعر الإنسان بالندم الذي قد يستتبع البكاء الذي يخرج من الإنسان بكل التراكمات فيخفّف عن نفسه مقداراً من ذلك التراكم ليكون قادراً بعدها على الشعور بالطمأنينة والأمان اللذين يساعدان على تصحيح الوضع والمسار.
ولهذا نجد أنّ الله عزّ وجل قد أوصى أنبياءه بالبكاء، ومن ذلك ما أوحى الله إلى موسى (عليه السلام): (إبك على نفسك ما دمت في الدنيا، وتخوف العطب والمهالك، ولا تغرنّك زينة الدنيا وزهرتها) وكذلك (ما أوصى الله به إلى عيسى (عليه السلام) إبك على نفسك بكاء من ودَّع الأهل وقلى الدنيا، وتركها لأهلها وصارت رغبته فيما عند إلهه).
بل نجد في بعض الأحاديث أنّ الإنسان إذا لم يكن قادراً على البكاء ولو لسبب ما فليحاول أن يتظاهر بالبكاء تشبّهاً بالبكَّائين نظراً لما للبكاء من الفوائد الجليلة والمهمة، ومن تلك الأحاديث: (إن لم يجئك البكاء فتباك، فإن خرج منك مثل رأس الذباب فبخ بخ).
فالبكاء إذن هو التعبير عن رهافةٍ في النفس ورقّة في القلب واستعدادٍ للتخلّي عن كلّ ما يمكن
أن يعيق الإنسان في سيره نحو الله، وهو المفتاح للكثير من الفيوضات الرحمانية الإلهية التي تزيد المؤمن إيماناً وإشراقاً وصفاءً وثباتاً، وتزيده تفاعلاً مع محيطه ومع المجتمع من موقع الرحمة التي تشيع في روح الباكي ونفسه.
ولهذا كلّه نجد في بعض الأحاديث أنّ عدم بكاء بعض الناس قد يكون علامة من علامات بؤسهم
وشقائهم واسوداد قلوبهم وظلمة نفوسهم التي لم يعد فيها للخير مكان ولا لعبادة الله مجال، ومن ذلك ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من علامات الشقاء جمود العين) وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب).
من هنا ينبغي على المؤمن أن يسعى جهده لكي يتفرّغ إلى نفسه في الحالات التي يرى نفسه فيها قادراً على البكاء، بل عليه أن يحاول البكاء ولو كان غير قادر عليه لكي يعوِّد نفسه على هذه الصفة التي امتدحها الله وامتدح أهلها وأوحاها إلى أنبيائه وأوصاهم بها، البكاء من خشية الله هو عبادة الله وتقرّب إليه وباب للنجاة عنده.
نسأله سبحانه أن يجعلنا من البكّائين وأن يرحمنا بالدموع التي نذرفها خوفاً من ناره وشوقاً إلى جنانه وأن يشملنا بعفوه ورحمته ومغفرته.
والحمد لله ربّ العالمين3.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى