إسئلنا

من دروس التاريخ السياسية…

قال الخشب للمسمار: لقد جرحتني ومزقتني وآلمتني، فرد المسمار قائلا: لو كنت تلقيت الضرب الذي فوق رأسي لعذرتني.

هي طبيعة النفس البشرية ما إن تواجه ضغطا أو تحديا ما حتى تعتبره مبررا يبيح لها ما لا يباح، ويسمح لها بارتكاب الممنوع، فتنطلق ومبررها معها لتتعدى كل الحدود والضوابط.
أناس محدودون ومعدودون أكرمهم الله سبحانه وتعالى بقلوب صادقة لا تقبل التبرير لأعمالها، ولا تعطيه صلاحية التصرف والتوجيه لمسار حياتها، بل تحكمه بضوابطها الإيمانية، وقيمها الروحية، وأخلاقها القرآنية، فاسحة المجال لنور الإيمان كي يضيء ويستمر في إضاءة الطريق، لتبقى الحياة منيرة رغم الظلام والعتمة.
في الذكرى التي نستلهمها من التاريخ، تتحرك أرواحنا نحو عظيم حركت قيمه حياته، وسطر إيمانه أروع مواقفه، وكانت مبادئه هي نور دربه، فلم يستسلم لضغط، ولم يركن لمبرر، ولم يتأثر ببغي أحد وجوره، بل بقي شامخا، يفخر به المسلم والمسيحي والإنسان كإنسان مجرد من لونه وطعمه ورائحته، فيسلم عليه البعض، ويترضى عليه البعض الآخر، ويكرّم وجهه من عرف وآمن بشي من سجاياه.
علي بن أبي طالب  يتحرك بإيجابية منقطعة النظير فترة الخلافة، فيسدد ويعين ويشير ويبين ويجيب، متمسكا بالوحدة التي مثلت منهاجه ونهجه في الحياة.
لو كان سياسيا قحا لسلك العديد من الطرق، لكنه سياسي إلهي، يسقط كل الأعذار والمبررات ليتمسك بقيمه ومبادئه، لا فرق عنده أن يضيق عليه الحال أو يتسع. وحين تعرض عليه بشروط، لا يقدّم المبررات لقبولها ثم محاولة التلاعب بما اشترطه على نفسه، بل تسمو قيمه ومبادئه، فيرى قيمته وقيمه أعز عنده من كل منصب ومكانة. فهو لا يجد لنفسه مبرراً ليشرّع السب على المنابر والتجريح في خطب الجمعة، مع أن الحرب بهذه الوسيلة شنت ضده من على أكثر من 100 ألف منبر وخطبة جمعة. وحين يحكم، وتتحرك المعارضة ضده من كل صوب، يعالجها بحكمة وحوار إيجابي منقطع النظير، لكنه لا يلجأ إلى الخطأ معها. ولم يلجأ إلى القسوة لعلاج التمرد والعنف وعدم الانصياع. فظلّ نفسه في موقع السياسي الإلهي، ليجعل المسافة بينه وبين السياسي الدكتاتور مقطوعة وغير سالكة، ولنلحظ معاني كلماته في هذا السياق حيث يقول «وإني لعالمٌ بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني والله لا أصلحكم بإفساد نفسي».
يشتد الخوارج على علي، ويرفعون سيوفهم في وجهه، ويقتلون وينكّلون، فيزداد أتباعه غضباً عليهم، لكن علياً لا يستفيد من نقمتهم، بل يعمل – وهو المحتاج لعصبيتهم – كصمام أمان كي لا تنزلق الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، يروي ابن كثير أن علياً سئل عن الخوارج أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فرّوا، فقالوا: أفمنافقون؟ فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: «إخواننا بغوا علينا».
عليٌّ يدرك أن النصر بالجور هزيمة، وأن الغلبة بالعنف أيامها معدودة، وأن السبيل الوحيد هو الالتزام بالقيم والمبادئ، وتغليبها على كل المصالح والمطامع الأخرى، فكل المطامع لا تؤدي إلى استقرار حقيقي، ولا توصل إلى أمن صلب ومتين1.

  • 1. الشيخ محمد الصفار * صحيفة الوسط البحرينية 14 / 11 / 2011م – 12:50 م
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى