يذكر الله سبحانه وتعالى في قوله هذا أنّ من صفات المؤمنين المتقين أنّهم يؤمنون بالغيب، والغيب هو الأمور الخارجة عن نطاق الحواس فلا تدرك بها، فالإنسان المؤمن المتقي لا ينحصر إيمانه بالحقائق والأمور المشهودة والمحسوسة لديه، وإنّما يتعدّى الأمر عنده ذلك، فهو يؤمن أيضاً بالحقائق والأمور التي هي خارج حدود الحواس والشهود، والتي تقين بوجودها عن طريق أدلّتها والآثار التي تدل عليها، كتوصله إلى وجود الله سبحانه وتعالى من خلال آثاره، أو التي اعتقد بوجودها من خلال إخبار الشرع الشريف عنها، مثل الملائكة والجن والجنة والنار وغيرها من الحقائق والأمور.
أمّا الإنسان المادي الذي لا يؤمن إلاّ بما يحس به ويراه ويشاهده من الأمور والأشياء فهو لا يؤمن بالكثير من الحقائق لأنّها ليست بمحسوسة ولا مرئية لديه، مدّعياً بأنّ عدم رؤيتها والإحساس بها دليل على عدم وجودها.. والحق أنّ هذا استدلال واستنتاج باطل، فليس كل ما لا يرى لا يكون موجوداً، ففي الحياة توجد حقائق وأمور غير مشهودة ولا مرئية ولكنّ الجميع يسلّم بوجودها حتى الإنسان المادي الذي لا يؤمن ولا يعتقد بالدّين وبالله وبالأشياء مما وراء الطبيعة.
فمثلاً الكهرباء وهي حقيقة موجودة، الكل يعترف بوجودها، ولكن هل هناك أحد يرى الكهرباء؟ أبداً لا يوجد من يراها ويشاهدها، إننا نرى آثار الكهرباء، نرى النور في المصباح، وهذا النور ليس هو الكهرباء، هو أثر لها، ونرى الدوران في المروحة، ودوران المروحة ليس هو الكهرباء، وإنما أثر لها.
فلو أن أحداً أمرَّ تياراً كهربائياً في سلك منزوع الغلاف «البلاستيكي»، فهل يشاهد الكهرباء وهي تمر من خلال هذا السلك؟ لا أحد يشاهدها.. فالكهرباء موجودة يدرك وجودها من خلال آثارها، والمؤمن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وإن كان لا يراه.. لأنّه متيقن من وجوده من خلال آثاره، وهي مخلوقاته، فهذا الكون العظيم الواسع الرحب الفسيح بما يتضمنه من المخلوقات لا يمكن أن يكون بدون موجد وخالق. فالادعاء بأنّ الكون وجد هكذا صدفة لا يقبله عقل عاقل، فلو أنّ أحداً قال لك بأن السيارة التي تقف خارج هذه «الحسينيّة» وجدت هكذا صدفة من دون صانع لها، هل ستصدّق هذا القول؟ أبداً لن تصدقه، ولن تؤمن بكلام من زعم ذلك، فكذلك لا يمكن تصديق دعوى من زعم وادّعى بأنّ هذا الكون الفسيح المليء بالمخلوقات والتي هي في غاية الدّقة في الصنع والنظم وجد بدون موجد.
ففي الرّواية أنّ الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» سئل عن إثبات وجود الله تعالى، فقال: «البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟»2.
فعندما نرى بعرة لبعير نستدل من خلال وجودها على وجود البعير، فلا يمكن وجود بعرة من دون وجود بعير، وعندما نرى روث حمير نستدل على وجود الحمير، وكذلك عندما نشاهد آثار الأقدام نستدل على أنّ هناك شخصاً ما قد مرّ في ذلك المكان، فهكذا يدل هذا الكون على وجود الله سبحانه وتعالى.
الخلاصة: إنّ المؤمن المتقي يؤمن بالحقائق الغيبيّة التي أخبر الشارع المقدّس عن وجودها كالجنة والنّار والجن والملائكة وغيرها من الأشياء والحقائق، ويؤمن بالله سبحانه وتعالى والذي هو حقيقة لا ترى غائبة عن إدراك حواس الإنسان، ويستدل عليه ويتوصل إلى وجوده من خلال البراهين والأدلة العديدة، ومنها آثاره؛ من هذا الكون وما يتضمنه من مخلوقات.
الإيمان بالمهدي من مصاديق الإيمان بالغيب
هناك رواية عن الإمام الصادق «عليه السلام» في بيان وتفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ … ﴾ 3 يقول: «من آمن بقيام القائم «عليه السلام» أنه حق»4، أي أنّ من مصاديق الإيمان بالغيب الإيمان بقضية ومسألة المهدي من آل محمد «صلى الله عليه وآله» أنّها حق وصدق، وأنّه سيخرج في آخر الزّمان ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وينبغي التنبيه هنا أن الإمام الصادق «عليه السلام» لا يحصر الإيمان بالغيب في الآية المباركة بمصداق واحد فقط، وهو الإيمان بالمهدي، وإنّما هو تفسير منه للآية بأحد أبرز مصاديقها، لأن الإيمان بالغيب له مصاديق متعددة وأحدها الإيمان بالمهدي «عليه السلام».
وبما أنّ المناسبة التي نعيشها في هذه الليلة هي مناسبة ولادة الإمام المهدي «عليه السلام» فسيكون حديثي في نقطتين:
الأولى: حول فكرة المهدي
إنّ بعض المغرضين والمناوئين للشيعة، يتهمونهم باختراع فكرة المهدي، وأنّهم هم من أوجدها واخترعها تسلية لنفوسهم المضطهدة من قبل حكّام الجور والظلمة الذين نكّلوا بهم واضطهدوهم على مر العصور، وردّاً على ذلك أقول:
أولاً: ليس الشيعة بأغبياء ولا سذّج حتّى يخترعوا فكرة لا أساس لها من الصحة ليسلّوا بها أنفسهم، وهل تتسلّى النّفس بما تعلم أنّه وهمي خرافي لا وجود له؟
ثانياً: إنّ فكرة المهدي مسألة إسلامية وحقيقة دينيّة وردت الإشارة إليها إجمالاً في القرآن الكريم، وتفصيلاً في الرّوايات الشريفة المأثورة عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين من أهل البيت «عليهم السلام»، فمن الآيات التي تشير إلى هذه القضيّة قوله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ 5، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 6، فإن هاتين الآيتين – وبالخصوص الآية الثانية – تشيران إلى أنّ الحكم في الأرض في نهاية الأمر سيكون للصالحين من عباد الله سبحانه وتعالى، وأنّهم هم من سيرثون الأرض، وهو مما لم يتحقق إلى يومنا هذا، فلم يتمكن الصالحون من السيطرة على حكم الأرض، فلا بد أن يأتي اليوم الذي سيكون الحكم فيها بيد الصالحين، وأنّ حكم الطغاة والظلمة والجبابرة سينتهي ويزول.
ومن الرّوايات الواردة حول قضية المهدي، ما عن عبد الله بن عمر قال: سمعت الحسين بن علي بن أبي طالب «عليه السلام» يقول: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، كذلك سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول»7.
فهذه الرّواية وغيرها من الرّوايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن يستفاد منها أنّ ظهور مصلح من ذريّة النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أمر سيقع لا محالة، ولذلك فإن جميع الفرق الإسلامية إلاّ من شذّ منهم يؤمنون بذلك ويقولون به، والفرق بين الشيعة وبين بقيّة المذاهب الإسلامية الأخرى هو أنّ شخصيّة الإمام المهدي «عليه السلام» مشخّصة عند الشيعة، وأنّه هو محمد بن الحسن العسكري «عليهما السلام» والثاني عشر من أئمة أهل البيت «عليهم السلام» الذين يعتقد الشيعة بإمامتهم وأنّهم خلفاء النبي «صلى الله عليه وآله» من بعده وإلى يوم القيامة، وأنّه ولد عام 255هـ أو 256 هـ، وأما بقية المذاهب الإسلامية فإنّ المهدي غير مشخص عندهم، ويقولون بأن المهدي الذي أشارت إليه الرّوايات وتحدّثت عنه الأخبار لم يولد بعد.
الثانية: حول طول عمر المهدي
وطرح إشكال على الشيعة حول بقاء الإمام المهدي «عليه السلام» هذه الفترة الطويلة من العمر، فاعتبر البعض أنّه من المستحيل أن يعيش إنسان ولد في عام 255 هـ إلى هذا اليوم، والجواب على هذا الإشكال باختصار شديد جدّاً هو:
أنّ بقاء إنسان هذا العمر الطويل وإن كان خارجاً عن العادة وأمراً غير مألوف للناس، إلاّ أنّه ليس بمستحيل عقلاً، فليس هو من قبيل اجتماع الضدّين على عنوان واحد في وقت واحد، فهذا القرآن الكريم يخبرنا عن نبي الله نوح «عليه السلام» وأنّه بقي في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى وذلك قبل الطوفان، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ 8، وأمّا عمره الذي عاشه في هذه الحياة فأقل عمر له ذكره العلماء أنّه عاش ألفاً وثلاثمائة عام، وأكثر ما ذكروه أنّه عاش ثلاثة آلاف عام.
وبما أنّ قضيّة بقاء الإمام المهدي «عليه السلام» متعلّقة بالإرادة والمشيئة الإلهية، فلا يبقى مجال للقول باستحالة بقائه هذه المدة المديدة من الزّمن ما دامت الإرادة والمشيئة الإلهية اقتضت ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى9.
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 2 و 3، الصفحة: 2.
- 2. بحار الأنوار 3/55.
- 3. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 3، الصفحة: 2.
- 4. تفسير البرهان 1/124.
- 5. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 5، الصفحة: 385.
- 6. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 105، الصفحة: 331.
- 7. إعلام الورى 2/23١.
- 8. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 14، الصفحة: 397.
- 9. المصدر كتاب “دروس من وحي الإسلام” للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.