قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك لا بدّ وأن نعرف مَنْ هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين، وما هو رأي الإسلام في البيت الاُموي بصورة عامّة.
لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الاُمويّين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم، وأنّهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه، وإعادة مظاهر الجاهليّة بكلّ أشكالها باُسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.
وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبيّ محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.
وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه، وإبرازه على غير واقعه، وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.
ويزيد بن معاوية -الذي وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) منه ذلك الموقف الخالد- كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون، مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك1.
ولادة يزيد ونشأته وصفاته
ولد يزيد سنة (25 أو 26 هـ )2، واُمّه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله)، وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:
فإن يكن الزمان أتى علينا *** بقتل الترك والموت الوحيِّ
فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ *** بأرض الطفّ أولادَ النبيِّ
أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ، ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية؛ لأنّه من عبد بجدل الكلبي3.
وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة: فقد وصفه ابن كثير -في بدايته- بأنّه كان كثير اللحم، عظيم الجسم، وكثير الشعر مجدوراً4.
أمّا صفاته النفسية: فقد ورث صفات الغدر والنّفاق، والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً)، ولكنّه ليس داهيةً مثله. كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع5.
وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حدّ بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.
ولع يزيد بالصيد
ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه. قال المؤرّخون: كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد، لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب، والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه6.
شغفه بالقرود
وكان يزيد -فيما أجمع عليه المؤرّخون- ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السّباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسُرّ بذلك، وجعل يقول:
وأرسله مرّةً في حلبة السّباق فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:
تمسّك أبا قيس بفضل زمامها *** فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ
فقد سبقتْ خيلَ الجماعة كلّها *** وخيلَ أمير المؤمنين أتانُ
كم من كرام وقوم ذوو محافظةٍ *** جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ
شيخ العشيرة أمضاها وأجملها *** على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ
لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه *** فيه جمالٌ وفيه لحية التيسِ7
وذاع بين النّاس هيامه وشغفه بالقرود حتّى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:
يزيد صديق القرد ملّ جوارَنا *** فحنّ إلى أرض القرود يزيدُ
فتبّاً لمنْ أمسى علينا خليفةً *** صحابتُه الأدنون منه قرودُ8
إدمانه على الخمر
والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتّى أسرف في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السُكر، ومن شعره في الخمر:
أقول لصحبٍ ضمّت الخمرُ شملهمْ *** وداعي صبابات الهوى يترنّمُ
خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذّةٍ *** فكلّ وإن طال المدى يتصرّمُ 9
وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة -الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشّام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام)- وصفه ليزيد بقوله: والله، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السّماء؛ إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصّلاة. والله، لو لم يكن معي أحد من النّاس لأبليت لله بلاءً حسناً 10.
وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين؛ يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويلعب بالكلاب11.
ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة12.
ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله، رأيت يزيد بن معاوية يترك الصّلاة مسكراً… 11.
ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية:
شميسة كرم برجها قعر دنِّها *** ومشرقها الساقي ومغربها فمي
إذا اُنزلت من دنِّها في زجاجةٍ *** حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ
فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمدٍ *** فخذها على دين المسيح بن مريمِ 13
وعنه قال المسعودي: وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب، وقرود وفهود ومنادمة على الشّراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:
اسقني شربةً تُروّي مُشاشي *** ثمّ مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ
صاحبَ السرّ والأمانة عندي *** ولتسديد مغنمي وجهادي
ثمّ أمر المغنّين فغنّوا.
وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستُعملت الملاهي، وأظهر النّاس شرب الشّراب 14. ويؤكّد في مكان آخر: وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير11.
وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشّراب والغناء، «وفي طليعة ندمائه الأخطل الشّاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السّفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطر من لحيته»15.
إنّ مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامّة الصّحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.
إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتّى أنّه لم يبالِ بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته (صلّى الله عليه وآله) بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرّسول وريحانته أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام)، وهو متسلّط -بالقهر- على رقاب المسلمين باسم الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
إلحاد يزيد وحقده على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرّسول (صلّى الله عليه وآله) والبغض له؛ لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولما أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وتمنّى حضور أشياخه؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا *** جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً *** ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ
قد قتلنا القرمَ من أشياخهمْ *** وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ
لعبت هاشمُ بالملك فلا *** خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ
لستُ من خندف إنْ لم أنتقمْ *** من بني أحمد ما كان فعلْ16
بل إنّ يزيدَ جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة؛ فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه، وردّ فيها البيت الآتي:
ادع إلهك في السّماء فإنّني ***أدعو عليك رجال عكٍّ وأشعرا 17
جرائم حكم يزيد
ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الاُمويّين إلى الأبد فحسب، وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك.
ومن هذه الجرائم:
1 – انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السّبط (عليه السّلام)، ومَنْ معه من اُسرته وأصحابه، وسبي نسائه وأطفاله، وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (61 هـ ) وهم ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وملايين المسلمين تقدّسهم، وتذكر فيهم الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.
2 – إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشّام؛ لأنّهم استعظموا قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) وأنكروه عليه.
3 – إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة، وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.
السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة
رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة18 النّصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصّة، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي كما اتّفق على ذلك المؤرّخون19.
ولا يمكن أن تعلّل هذه الصّلة الوثيقة وتعلّقه الشّديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصّبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.
وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصّبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده، في حين أنّ العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام؛ كالوفاء وحسن الجوار، والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يُعرف عن يزيد شيء من ذلك.
كما وإنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه، والذين ولِدوا في البادية على النّصرانية طيلة حياتهم قبل الفتح الإسلامي، وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد؛ فلا بدّ إذن من القول: بأنّ لذلك الانحراف الشّديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.
إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المثلى.
ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كلّ مواقف الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ باعتباره القائد الرسالي، الحريص على مصالح الرسالة والاُمّة الإسلاميّة، وندرس تخطيطه الرسالي؛ للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك20.
- 1. سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 / 41.
- 2. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 179.
- 3. .بحار الأنوار 44 / 309.
- 4. سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 / 42.
- 5. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 181 – 182.
- 6. راجع الفخري – لابن الطقطقي / 45، وتاريخ اليعقوبي 2/230، وتاريخ الطبري 4/368، والبداية والنهاية 8 / 236 – 239.
- 7. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 182، نقلاً عن جواهر المطالب / 143.
- 8. أنساب الأشراف 2 / 2.
- 9. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 183، نقلاً عن تأريخ المظفّري.
- 10. تأريخ ابن عساكر 7 / 372، وتأريخ الخلفاء – للسيوطي / 81.
- 11. a. b. c. المصدر السابق.
- 12. البداية والنهاية 8 / 216، الكامل لابن الأثير 4 / 45.
- 13. تتمة المنتهى / 43.
- 14. مروج الذهب 2 / 94.
- 15. الأغاني – لأبي الفرج الأصفهاني 7 / 170.
- 16. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 187، نقلاً عن البداية والنهاية 8 / 192.
- 17. مروج الذهب 2 / 95.
- 18. النساطرة: نسبة إلى نسطوريوس المتوفى سنة 450 م الذي كان يرى أن للمسيح إقنومين، أي طبيعتين؛ اللاهوت مع الناسوت. (موقع معهد الإمامين الحسنين)
- 19. سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 / 42، وراجع أيضاً حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 180 عن المناقب – للقاضي نعمان المصري / 71، وسمو المعنى في سموّ الذات – العلائلي / 59.
- 20. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، تاليف لجنة من الكُتاب بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم.