قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ … ﴾ 1.
تتحدث هذه الآية الكريمة عن الهدف الأساس الذي أرسل الله من أجله الرسل والأنبياء وأنزل إليهم الشرائع والأحكام لكي يوصلوها إلى البشرية، وذلك الهدف هو المتمثل بإقامة القسط وفق تلك القوانين المنزلة ، لأنه بها يمكن أن تستقيم الأمور ويعم العدل، ويرتفع الظلم والجور، وتفكّ القيود والأغلال التي تكبل المستضعفين والمقهورين من العباد بواسطة المستكبرين الذين سخروا ما مكنهم الله عليه ليظلموا ويجوروا ويرتكبوا الجرائم بحق الإنسانية، سواء منها الجرائم المتمثلة بقتل النفس التي حرم الله، أو بإفساد فطرة البشر عبر نشر العقائد الفاسدة والمضللة، أو بتحطيم القيم الأخلاقية والتربوية وتدميرها لصالح الملذات والشهوات الدنيوية الزائلة والموهومة، أو بإغراءات المال والسلطة حيث يعم النفاق والكذب والغيبة والفتنة من أجل تحصيل أحد هذين الأمرين أو كليهما. ونعود إلى الآية فنرى أنها تطرح مجموعة من الأصول المرتبطة جميعاً بالهدف الإلهي الأساس لصورة الحياة الدنيا ، ولا شك أن هذا الهدف لا بد أن يكون مطابقاً لمن حدوده حدود “الله” سبحانه ، وتلك الأصول هي ” الرسالات والرسل”.
من هنا نقول إن الله سبحانه الذي هو الفيض المطلق والعطاء غير المحدود ، والعدل المطلق والجمال الذي لا حد لجماله والكمال الذي لا تصور لكماله، هل يعقل أن يجعل الحكم في الدنيا لأناس لا يمثلون توجهه ولا يلتزمون نهجه ولا يطبقون شرائعه وأحكامه، وهل يعقل أن يكون الفاسد المنحرف الظالم قيّماً وولياً على الأحكام الناشئة من العدل المطلق والعطاء اللامتناهي، أو هل يعقل أن يكون الحاكم غير المؤمن حتى على نفسه وغير العادل بلحاظ ذاته أميناً على مصالح العباد والبلاد ويسير في خط الدفاع عن مصالح شرع الله وعباده؟
إن القرآن الكريم ينفي بشدة أن يكون الله سبحانه قد جعل لمثل هؤلاء سلطة على البشر، بل يسلب عنهم سلطتهم حتى على أنفسهم، ويأمر الناس بضرورة السعي الدؤوب والمستمر لقطع دابر هؤلاء وإنهاء تسلطهم واستكبارهم لأنهم لا يقدرون على أن يقدموا للإنسانية ما ينفعها لدنياها وآخرتها ، وعصرنا الحاضر أبلغ دليل وأوضح برهان على ذلك، حيث بلغ الفساد المتنوع في كل المجالات مداه الأقصى ، فالفساد العقائدي أوصل أكثر البشر إلى حافة النار ، والفساد الأخلاقي سلب الناس إنسانيتها وتركها هائمة كالبهيمة .. همها علفها .. ، والفساد المالي والسلطوي أوصل الناس إلى التقاتل وإشاعة الفتن وتمزيق وحدة المجتمع الإنساني، واستعبد الناس بعضهم البعض حتى صار يتمنى الإنسان الموت على الحياة ، أو يعيش يائساً يأساً لا أمل من الخلاص منه بسبب قوة الفساد المنتشر.
هل هذه الصورة القاتمة السواد التي نراها منتشرة هي الحياة التي أرادها الله وخطط لها، أو أنها هي شيئ آخر غير هذه الصورة؟ إن الآية المتصدرة تدل على صورة بهية فيها جمال لا يوصف ، وعدل يعم وخير ينتشر ورحمة تسكن القلوب الإنسانية، ومحبة تغمر النفوس المطمئنة ، ويقود المسيرة أناس ربانيون بما عندهم من علم وصل إليهم من الأنبياء والرسل فالتزموا به على مستوى أنفسهم فهذبوها من خلاله ، وشمّروا عن ساعد الجد والجهاد لينشروا العلوم الإلهية بين الناس لينقذوهم مما هم فيه من الفساد في كل مناحي الحياة.
إن أمثال هؤلاء هم المؤهلون الأولون لقيادة الإنسانية وإدارة أمورها ، لأن امثال هؤلاء الذين يراعون الله في بلاده وعباده ليسوا حاضرين بسبب ما ملأ قلوبهم من المعرفة والإيمان أن يتخلوا عن النعيم الأزلي بمتاع دنيوي رخيص سرعان ما تزول لذاته، وتبقى أحماله على الظهور بارزة كعلامة على سوء المصير.
إن الله يريد من الحاكم والمدير لأمور الناس أن تكون أعينهم وألسنتهم وأيديهم وقلوبهم النابضة، التي تسهر على راحتهم ولو بإتعاب أنفسهم وبذل الغالي وغيره في سبيل الحفاظ على نقاء المسيرة الإنسانية وصفائها في توجهها نحو الله عز وجل.
وبكلمة مختصرة نقول إن ما قلناه من المواصفات الإجمالية للحاكم من منظار الإسلام هو الذي يسير في الناس سيرة الأنبياء الذين كانوا خير من يمثّل الرؤية الإلهية والصورة الجمالية للحياة الدنيا، ولهذا فنحن مأمورون بالأمر الإلهي بشكل متواصل ومستمر بضرورة الجهاد والعمل من أجل تحقيق الحياة التي يقودها قادة ربانيون ينشرون العدالة بدلاً من الظلم ، والخير بدلاً من الشر، ويرسخون الإيمان في القلوب بدلاً من سلبه منها، وبهذا تتحقق الحياة الإنسانية التي تكون النموذج المصغر الذي يقرّب فكرة الحياة الآخرة لتزداد الناس إيماناً وقناعة بأن ما عند الله هو خير وأبقى وهو الخلود الذي لا خلود بعده. 2.
- 1. القران الكريم: سورة الحديد (57)، الآية: 25، الصفحة: 541.
- 2. نُشرت هذه المقالة على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد بتاريخ: السبت, 15 شباط/فبراير 2014.