الأوّل من المحرّم هو اليوم المتفق عليه بين المسلمين على أنه البداية للعام الهجريّ الجديد، وهو التقويم الذي استند إلى هجرة الرسول الأعظم (ص) من مكّة إلى المدينة نقطة الانطلاق للتوقيت المتعارف حتى اليوم عند الشعوب الإسلامية.
وعند غير المسلمين لا تحمل هذه المناسبة أكثر من دلالتها المتعارفة وهي أن هذا اليوم هو عبارة عن انتهاء عام وبداية آخر كما في التقويم الميلادي أو الفارسي أو غير ذلك من التقاويم المتعارفة عندهم.
إلّا أنّ هذا اليوم يحمل عند المسلمين معنى إسلاميّاً عظيماً وكبيراً جدّاً، ويرمز إلى الحدث والإنجاز الضخم الذي تحقّق على يدي النبيّ الأكرم (ص) والرعيل الأوّل من المسلمين، وذلك الحدث هو.. ولادة المجتمع الإسلامي الأوّل.. في المدينة المنوَّرة، ليكون النواة للدولة الإسلامية الكبيرة في المستقبل، وقبل ذلك ليكون البداية والانطلاقة لتكون المجتمع الإنساني الإسلامي العابد لله وحده المحطّم للأصنام والتماثيل.
من أجل ذلك يحتلّ هذا اليوم بالذات الأهميّة الخاصّة عند عموم المسلمين، لأنه يحمل إليهم البشرى بولادة عصر التوحيد لله والتخلّص من الثنائيّة الشكليّة والآحاديّة الواقعيّة التي كانت عليها الناس زمن ما قبل الإسلام، عندما كان المجتمع الجاهلي يعبد الأصنام ويتوجّه إليها بالطاعة ويطلب الاستعانة منها بادّعاء التزلّف والتقرّب إلى الله بحسب الظاهر من كلامهم كما يعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: ﴿ … مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ … ﴾ 1.
ويحمل هذا اليوم أيضاً مناسبة أليمة جدّاً وفظيعة كذلك وهي “عاشوراء” التعبير المصطلح الذي يرمز إلى المجزرة الدمويّة والحادثة الفاجعة التي ارتكبها أعداء الإسلام “بنو أميَّة وجلاوزتهم” بحقّ الإمام الحسين (ع) والصفوة من أهل بيته وأصحابه الذين سُفِكَتْ دماؤهم واختلطت بتلك الرمال الصحراويّة اللاهبة فداءً للإسلام وإحياءً لذكره.
والمناسبتان لا تبتعدان عن بعضهما البعض كثيراً من حيث الهدف الكبير، وإن اختلفتا في أنّ الأولى منهما تثير في النفس عوامل القوّة والشعور بالاعتزاز للانتماء إلى الإسلام، والثانية تثير عوامل الحزن وذرف الدموع على ذلك المصاب الجلل الذي لم ولن يشهد التاريخ الإسلامي مثيلاً له في الفظاعة والوحشيّة.
فالأولى بَنَتْ اللبنة الأساسيّة لدولة التوحيد الأصيل الذي يعني كمال الانقطاع إلى الله وحده، والثانية أعادت البناء إلى ما كان عليه بعد التصدّع الخطير الذي طرأ بعد رحيل الرسول الأكرم (ص) إلى ربّه مرضيّاً.
والأولى فتحت الآفاق الرحبة والمجالات الواسعة أمام البشريّة للارتباط بالله كطريق أوحد لا محيص عنه للخلاص من كلّ عذاباتها وآلامها على يد الطغاة والمستكبرين، والثانية أعادت فتح تلك الآفاق بعد أن تمكّن المنافقون من إغلاق الكثير من المجالات بالظلم والطغيان وشراء الضمائر ولإعادة الإنسانية المعذبة إلى عصور الجاهلية المظلمة المشحونة بالاستعباد والإذلال.
الهجرة النبويّة منحت الإنسان الفرصة ليعيش الإنسانية بما ترمز إليه من المعاني والمُثُل والقيم والمبادئ، ولكي يفجر الإنسان كل طاقات الخير والإبداع لبناء الحياة الاجتماعية بأبعادها الإلهية التي تخرج الإنسان من هيمنة وسيطرة الأطر الضيّقة التي كانت تحبسه وتمنعه من الانطلاق بحريّته الكاملة وتحصره في دائرة العناوين المحدّدة لكلّ فرد من الأفراد.
والثورة الحسينيّة كانت الفعل الكبير الذي اخترق كل تلك العناوين التي عادت بعد رحيل النبيّ (ص) لتحتلَّ أماكنها في حياة الأمّة الإسلامية وتقسم الناس على الأسس التي كانت قد سقطت بفعل الثورة النبويّة التغييريّة، ولقد مزّقت الثورة الحسينية تلك العناوين وما زالت تمزّقها بالوعي الحاصل منها عند الأجيال المتعاقبة لأنها أسقطت الأقنعة التي أراد المنافقون إلباسها لتلك العناوين من خلال الإسلام ولإعطائها الشرعية العقائدية والاجتماعية التي تسمح لها بالبقاء والعيش والتغلغل ولتدمّر بذلك كل الطاقات الخيِّرة وحركة الإبداع والبناء الإيجابي.
ولقد كشفت كلتا المناسبتين عن مدلى تأثير العوامل الإيمانية في البناء والعطاء، وعن الآثار السلبية المدمّرة التي تنتج عن العوامل الشيطاني فيما لو سيطرت على النفوس.
فالمسلمون الذين كانوا مع النبيّ (ص) تحمّلوا العذاب والأذى والحصار وهاجروا وصبروا حتى تمكّنوا من الوصول إلى مرحلة البناء، والذين كانوا مع الحسين (ع) أثبتوا القدرة على العطاء من موقع الإخلاص لله والوفاء لرسوله (ص) والولاء للإمام الحسين (ع).
والمشركون الذين قاتلوا النبيّ (ص) لم يتركوا وسيلة للمواجهة، ومع كلٍّ منها كانت تنكشف النفوس المريضة وتنفضح أكثر معبّرة عن اللؤم والحقد والتسافل الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان، والذين قاتوا الحسين (ع) وضيَّقوا أمامه الخيارات كانوا يعبِّرون عن النفوس عن التي أعمتها شهوة السلطة والجاه وسيطرت عليها شهوة الانتقام المذموم والمستقبح، فكلا الطرفين من موقع الشرك في عهد النبيّ (ص) ومن موقع النفاق في عهد الحسين (ع) كشف عن الانحطاط الذي يدفع بالإنسان إلى أن يخرج عن كل ما تعنيه الإنسانية من المعاني الكبيرة ليصل إلى المستوى الغريزي كما تعيش البهائم والأنعام.
لقد اختصرت المناسبتان حركة التاريخ منذ النبيّ آدم (ع) بما ضمّتا من النماذج البشرية المتعالية في الخط الإيماني بكل ما يرمز إليه من القوّة في الارتباط بالله والاستعداد الكامل للتضحية حتى أبعد الحدود، ومن النماذج البشرية المتسافلة في الخطّ الشيطاين بكل ما يرمز إليه الاستسلام للشهوات والرغبات الدنيوية المنحرفة الحاضرة لاستغلال الفكر والقوّة في خدمة الأهداف والغايات الدنيئة.
من هنا، فإنّ على المسلمين أن يعيشوا بداية العام الهجري وهم مشبعون بالأمل بالنصر والرغبة بالشهادة، ليتمكّنوا من التغلّب على كلّ عوامل الضعف والوهن والتفكّك وليشعروا بشعور العزّة والقوّة والوحدة وليستطيعوا بالتالي تحطيم قيود الذلّ والاستعباد والأسر التي تكبّل الأمّة وتمنعها من الانطلاق في خطّ السير الذي ارتضاه لهارب العزّة والعليّ القدير الذي مهَّد للأمّة كل عوامل النصر وفتح أمامها كلّ أبواب الشهادة.
ولهذا، فإنّ النصر النبويّ الذي توصّل إلى إقامة المجتمع الإسلامي الأوّل يشكّل التحدي الأكبر للمسلمين على اختلاف العصور، لأنه أعطى للأمّة النموذج عن كيفية تجميع عناصر القوّة في مواجهة الظروف المختلفة، والمسلمون اليوم لا يعانون من مشكلة في توفير هذه العوامل لأنها موجودة وبكثرة، إلّا أن العقبة التي ينبغي السعي للخلاص منها هي عدم القدرة على امتلاك تلك العوامل بسبب فَقْدِ التخطيط الهادف حتى الآن، والتي يسيطر عليها أعداء الأمّة ويتصرّفون فيها وفقاً لمصالحهم، وهم القوى الاستكبارية وفي مقدّمتها أمريكا “الشيطان الأكبر” والأنظمة العميلة، والثقافة التغريبية التي ما زالت تسقط الكثير من الطاقات في الأمّة وتمنع من الاستفادة منها في تحقيق الوعي المطلوب عند الشعوب بالدرجة المطلوبة.
وكذلك الشهادة الكربلائية التي أعطت النموذج الأكبر والأوضح عن الولاء والوفاء والفداء لله ربّ العالمين، تشكّل الحجّة الأكبر على كلّ المسلمين الذين يهربون من القيام بواجباتهم في الدفاع عن الدين والمقدّسات بحجّة عدم التوازن في القوى وانعدام التكافؤ في فرص النجاح بين ما نملك من قدرات وبما يملكه الأعداء في المقابل؟!!!
من كلّ ما سبق، ليس هناك من عذر للأمّة في البقاء محكومة لأعدائها الذين يذيقونها المرارة تلو المرارة ويلبسونها الذلّ ثوباً بعد ثوب ويساعدهم في ذلك أغلب الأنظمة الحاكمة في بلادنا والتي تلعب الدور الخبيث ضد شعوبها وتحرس المصالح الاستكبارية في المنطقة العربية والإسلامية عموماً، وتمعن في المضايقة على الحركات الإسلامية التي أثبتت بتضحياتها أنها الأجدر والأقدر على حمل هموم الأمّة ومشاكلها في مواجهة التسلّط الاستكباري وظلم الحكّام، “وإنّ غداً لناظره قريب”. والحمد لله ربّ العالمين2.
- 1. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 3، الصفحة: 458.
- 2. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق مقداد حفظه الله.