إختيار الكتاب وجمع نسخه
بعد أن استكمل المحقّق عدّته، وخبر نفسه ـ وكلّ على نفسه بصيرة ـ فوجدها قادرة على اقتحام هذا الميدان… يجب عليه أن يؤدّي زكاة علمه، ويخدم امّته، ويوفي بعض الدَّيْن إلى المكتبة الإسلامية المجيدة، التي أمتعته ساعات طوال من عمره، وفتحت له أبواب رياضها وصدور خزائنها، وأطلعته على جواهرها وذخائرها.
إذا أراد هذا العامل في سبيل إحياء مجد اُمّته، أن يسلك في عداد صانعي هذه الثقافة العظيمة ومُيَسِّريها لطلّابها… وهو قد عدّ نفسه من الغُيُر عليها المحبّين لها الحانين عليها، الرامين إلى رفعتها وإعلاء شأنها.
عليه ـ وقد وضع نفسه في هذا الموضع ـ أن يتنكّب سبيل الهدّامين العابثين من أعداء الاُمّة الإسلامية أو من أبنائها العققة، الّذين شغلوا أنفسهم والامة معهم بأخبار المُجّان والملحدين، وبكتبهم وتراثهم المليء بالسموم… الضارّ لهذه الاُمّة في حاضرها ومستقبلها، كما ضرها أعظم الضرر في ماضيها.
وعليه أن يتحرّى في اختيار الكتاب الذي يريد أن يحييه، أن يكون من الكتب التي تنفع الاُمّة وتهديها في حاضرها ومستقبلها، أو تحفظ عليها شخصيّتها وأصالتها أو تكبت أعداءها والحاقدين عليها.
والاُمّة المسلمة في حاضرها الراهن ـ وهي في بداية صحوتها ـ قد تكالبت قوى الكفر عليها، وتجمّع أعداء الإنسانية ضدّها، وأجلبوا عليها بخيلهم ورَجِلهم وعَددهم وعُددهم.
الاُمّة المسلمة محتاجة لجهود أبنائها، فلا يحلّ لأيّ فرد منهم أن يضيع جهوده عبثاً فيما لا طائل تحته، فضلاً عن أن يكون ظهيراً لأعدائها يصنع لهم ما يعود على أبناء ملّته بالدمار والخسار، ويعطّل مسيرة اُمّته نحو استعادة مكانتها التي أرادها لها الله… خير اُمّة اُخرجت للناس.
هذه المرحلة ـ مرحلة اختيار الكتاب المراد إحياؤه ـ أخطر مراحل التحقيق ـ فيما أرى ـ وأدقّها، تستدعي من المحقّق المسلم النظر الفاحص، ودقّة الملاحظة، والوجدان الحيّ، والغيرة البالغة… لأنّ ما ورثناه من الكتب منه ما كتبه المخلصون العارفون، وهو درر خالدة كشجرة طيّبة أصلها ثابت في دين هذه الاُمّة ووجدانها… وفرعها في السماء متّصل بالمبدأ الأعلى صاحب الجود والفيض والكرم… تؤتي اُكلها كلّ حين في ماضي الاُمّة وحاضرها ومستقبلها عطاءً ربّانيّاً لا ينقطع بإذن الله تعالى، وأظهر أمثلة هذا النوع تراث أهل بيت الرحمة عليهم السلام وجدّهم الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.
وممّا ورثناه ـ أيضاً ـ ما كتبه المنحرفون والضالّون وأعداء الإسلام، ممّن اجتالته شياطين الإنس والجنّ، وأمراض النفس، ومتع الحياة الدنيئة.
وممّا ورثناه ـ كذلك ـ هذا الركام الغثّ الفاسد المفسد من أدب عبيد السلاطين من الشعراء، وشعرهم الذي قصروه على مدح الطاغوت والضحك على ذقنه، واستولوا به على أموال الاُمّة يتناهبونه بينهم.
أنظر إلى الشاعر المتملّق يقول وقد حدثت بمصر زلزلة:
بالحاكم العدل أضحى الدينُ معتلياً
نجل الهدى وسليل السادة الصُلَحا
ما زُلزلت مصر من كيد يُراد بها
وإنّما رقصت من عدله فرحا
اُنظر كيف يسقط الإنسان، وتداس الضمائر، ويُرقص على أشلاء المستضعفين !.. فالشاعر هنا لم يكتف بمدح طاغوته حتى صوّر الزلزلة المدمّرة بصورة الرقص الخليع الذي اعتاده المترفون. ولم يلتفت إلى المستضعفين الّذين هدمت دورهم على رؤوسهم وأصبحوا بلا مأوى !
ومن هذه البابة تجد مؤرّخي السلاطين ووعّاظ السلاطين وفقهاء السلاطين… إلى آخر القائمة المشؤومة.
هذا الركام الغثّ لطخة عار في تاريخنا الثقافي.. لا أظنّ المحقّق المسلم ينحطّ إلى أن يشغل به نفسه ويضيع به عمره.
وتراثنا طيّب مبارك، شمل مختلف حقول المعرفة، ولم يقتصر على فرع من فروعها.
فكم هي الفائدة التي يسديها المحقّق إلى اُمّته يختار كتاباً من طبّنا القديم، فيخرجه إلى الناس سليماً مفسّراً موضحة عبائره ! عقاقيره من إنتاج بلادنا… إن لم تنفع الجسم لم تضرّه، لا كالأدوية المجلوبة من مغرب شمس الفضيلة، التي يصحّ فيها قول الشاعر :
………………………………… وداوني بالتي كانت هي الداءُ
وفي تراثنا الطبّي الكثير الطيّب، وأودّ أن يعلم أطبّاؤنا الفضلاء أنّ للمعاجم الطبّية ـ التي تصف العقاقير وتذكر مقاديرها عند التركيب ـ ركناً كبيراً في مكتبتنا الإسلامية.
وما أظنّ مريض الطبّ الغربي الحالي أحسن حالاً من مريض الرازي أو ابن سينا.
وقد عادت الصين إلى الوخز بالاُبر ـ طبّها القديم ـ تدرسه وتطبّقه في المستشفيات.
وقبلها الهند أدخلت طبّها القديم مادّة دراسية في جامعاتها، ومادّة تطبيقية في مستشفياتها.
وقل مثل ذلك في علوم الفلاحة والبيطرة وغيرها.
ونستغني بذلك عن استيراد فسائل النخيل من أمريكا إلى بلاد النخيل !
خلاصة الأمر أنّ حسن الإختيار ـ بل الإجتهاد في الإختيار ـ هنا واجب عيني لا رخصة فيه.
وحين يقع اختيار المحقّق على كتاب لم يحقّق حسب القواعد المتعارفة، أو كانت لديه زيادة تنقير وتدقيق فاتت المحقّق الأول، أو ظهرت من الكتاب نسخ مخطوطة أصيلة تزيد الكتاب ثقة به واطمئناناً إليه واعتماداً عليه…
حينذاك يبدأ سعي المحقّق في تجميع النسخ، وهي ـ في الوقت الحاضر ـ مصوّرات كلّما ازدادت وضوحاً في التصوير ازدادت شبهاً بأصلها، وحلّت محلّه في القراءة وتهيئة النسخة للعمل 1.
وهنا تظهر فائدة فهارس المخطوطات، لمعرفة أماكن هذه النسخ والسعي في الحصول على مصوّراتها.
ولا ننسى الإستعانة بذوي الخبرة في الهداية إلى مظانّها وتقييمها، وفي إعانتهم للمحقّق في تحصيلها بما لهم من صلات مع أصحاب الكتب والقائمين عليها.
فحص النسخ وتقييمها وهنا يأتي دور فحص النسخ لاعتماد ما يجب الإعتماد عليه منها وإهمال ما ينبغي إهماله.
وهذا الدور من أهمّ أدوار هذا الفنّ، لأنّ نتيجة التحقيق وثمرة جهد المحقّق مبنيّتان عليه.
وقد اعتورت مخطوطاتنا ظروف كانت حسنة حيناً سيّئة أحياناً كثيرة.
وتداولتها ـ بعد أيدي النسّاخ ـ أيدٍ كانت في الغالب غير أمينة :
فمن متولّي وقف حَسّن له الشيطان وألجأه فقر المجتمع المتخلّف إلى بيع ما تحت يده، فمزّق الورقة الاُولى ليضيع أثر الوقف، ففوّت علينا معرفة عنوان الكتاب واسم مؤلّفه وفوائد اُخر.
ومن متعصّب ضيّق الاُفق ساءه أن يرى لعالم من غير أهل نحلته أثراً، فعدا عليه تمزيقاً أو شطباً أو محواً أو تحريفاً لما لا يروقه…
ومن وارث جاهل صار ما وصل من ذخيرة الاُمّة إليه لعبة لأطفاله، مبذولاً لكلّ من هبّ ودبّ من معارفه.
ومن.. ومن..
دع عنك عاديات الطبيعة في النسخ نفسه من سهو وسبق قلم أو نظر..
وعاديات الطبيعة على الكتاب نفسه ـ ورقاً وحبراً ـ من رطوبة وحشرات لها بالورق المكتوب ولع غريب.
وليس معنى هذا إنكار ما لبعض الأيدي ـ متولّية وقف أو وارثة ـ من الأمانة والحيطة على الكتاب.
وليس هو كذلك إنكار فضل اُولئك النسّاخ العارفين الضابطين، فأنت تقرأ في ترجمة ياقوت المستعصمي ـ الخطّاط المعروف ـ أنّه كان مولعاً بنسخ نهج البلاغة بخطّه المضبوط الجميل.
وتقرأ في تراجم كثير من العلماء أنّه كان يكتب خطّاً فصيحاً صحيحاً.
هذه النوائب التي حلّت بالكتاب ـ وغيرها كثير ـ توجب على المحقّق أن يكون مدقّقاً منقّباً حذراً، ينفض النسخة وجهاً لبطن، عند فحصه لها.
وليعلم أن للنسخ التي وصلت إلينا حالات غريبة منها :
١ ـ أن تكون النسخة كاملة سالمة واضحة الخطّ فصيحته جميلته، بخطّ مؤلّفها أو خط معتمد موثوق به، أو تكون منقوطة مشكولة شكلاً كاملاً على الصحّة، أو تحتوي ـ من الصور أو الرسوم البيانية أو غير ذلك ـ ما يضنّ به على الضياع.
فالأَوْلى طباعة هذه النسخة بالتصوير، كي لا ندخل عليها من سهو القلم وأخطاء التطبيع ما يشوّه جمالها ويذهب بصحّتها.
ولا يعتذرن ـ هنا ـ بصعوبة الحرف المخطوط، فإنّه أمر مبالغ فيه، والمطّلعون يعلمون أنّ في تراثنا مخطوطات رائعة الجمال تزري بالخطّ الطباعي مهما بلغ من الجمال والنظافة، لأنّ الخطّ الطباعي خطّ ميّت سطرته آلة ميّتة، وخطّ اليد يستمد حياته من اليد التي كتبته.
والعمل الذي يقوم به المحقّق في هذه النسخة :
أ ـ أن يقدّم لها مقدّمة وافية في ترجمة المؤلف ووصف النسخة وتوثيق نسبتها وبيان أهمّيتها…
ب ـ أن يذيّلها بهوامش التحقيق الكافية، وبالفهارس التي توصل القاریء إلى مطالبها 2.
٢ ـ أن تكون النسخة من المطبوعات القديمة التي ضاعت اُصولها المخطوطة، وهذه ينبغي الحذر عند تحقيقها والتثبّت البالغ، وأن يوكل أمرها إلى شيوخ المحقّقين.
٣ ـ المترجمات إلى اللغات الاُخرى ـ غير العربية ـ التي ضاعت اُصولها المخطوطة، والعمل في هذا النوع ملقى على عاتق المترجم العارف، ويجدر به أن يستعين في ترجمتها بما سلم من كتب المؤلف باللغة العربية، وبما نُقل من نصوص الكتاب في الكتب الاُخرى.
وبعد هذه العجالة ـ التي لا يتّسع المقام لأكثر منها ـ نعود إلى التقسيم الإعتيادي للنسخ، وهو أمر متّفق عليه ـ أو يكاد ـ بين جمهرة المشتغلين بهذا الفنّ.
وعندهم أنّ أعلى النسخ هي النسخة التي كتبها المؤلف في آخر صورة أخرج بها كتابه للناس.
أو كتبت بخطّ معتمد وقرأها المصنّف أو قرئت عليه وسجّلت عليها هذه القراءة.
أو نسخة كتبت من نسخة المصنّف وعورضت بها أو قوبلت عليها.
أو نسخة كتبت في عصر المصنّف وعليها سماعات العلماء.
أو تكون النسخة من النسخ التي حظيت باهتمام العلماء بالقراءة أو الإجازة أو السماع، وأن يكون فيها ما يدل على التصحيح.
هذه النسخ تقوم إحداها مقام الاُخرى عند فقدانها، وهي النسخة التي يعبّرون عنها بالأصل أو الاُمّ.
وهذا القول ليس على إطلاقه فإنّ لكلّ نسخة من الخصائص ما يضطرّ المحقّق إلى اعتمادها أو تركها، فَرُبَّ نسخة لم يشفع لها قدمها أو حسن خطّها أو كتابة عالم معروف لها. ورُبّ نسخة تقدّمت على نسخة أقدم منها أو أحسن خطّاً.
وعند اعتمادنا نسخة أصلاً تكون النسخ الاُخرى مساعدات في القراءة والنقط والضبط وزيادة ما أسقطه السهو… وأشباه هذه الاُمور.
هذا مجمل القول في نسخة الأصل.
وتبقى عندنا الكثرة الكاثرة من النسخ التي لا تملك من مميّزات النسخة الأصل شيئاً، أو التي يؤخّرها التقييم عن مرتبة الأصل، ولكن لها من القرائن الداخلية أو الخارجية ما يمنحها الثقة بها والركون إليها.
هذه النسخ أجود الطرق في تحقيقها الطريقة المعروفة بـ ( التلفيق ) وعلينا ـ والحالة هذه ـ أن نخرج من مجموع هذه النسخ نصّاً مرضيّاً، نتحرّى فيه الصحّة والكمال جهد الطاقة.
وفي الحواشي مضطرَب واسع لإثبات الإختلافات بين النسخ وتوجيهها، ولتسجيل ما يعنّ لنا من ملاحظات واستدراكات وتوضيحات. وينبغي أن لا يفوتنا من النسخ شيء ذو فائدة، فنسجّل كل ما نعثر عليه.. فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
وفي طريقتَي التحقيق ـ طريقة الأصل أو طريقة التلفيق ـ تجب المحافظة على كل ما كتب في النسخ أو في هوامشها ممّا له علاقة بالكتاب بتسجيله في هوامش التحقيق.
للبحث صلة… 3