نور العترة

نصير الحسين(ع)…

( 1 )
دخل الكوفة . فوجدها مدينة أشباح ، يسودها الهدوء القاتل . الدوريات العسكرية وحدها تجوب أسواقها المعطلة .. ولم يدم تجواله طويلا فما لبث أن قبضوا عليه .. من أنت ؟ وما الذي جعلك تتخلف عن دعوة الأمير بالنفير .
عقلت الدهشة لسانه ، وأي أمير وأين نفير .. انا رجل من البادية .. قبل ان يكمل حديثه اسكته احد الجنود وقال .. لا وقت لنا لسماع حديثك ، اذهب معنا الى الأمير لينظر في امرك .
كانت الكوفة مدينة معمورة على عهد النبي نوح عليه السلام .. وتقول الروايات انها كانت مركز الطوفان العظيم . الذي اغرق تلك المنطقة الأهلة من العالم في اطراف الرافدين .
وهدمت المدينة فعمرت كرات عبر التاريخ المديد . وحينما فتح الجيش الشرقي للمسلمين العراق ، لم تكن الكوفة مدينة كبيرة . بل مجرد قرى وضياع حول نهر الفرات . فبنى المسلمون فيها مدينة كبيرة لجيشهم الذي اتخذ منها قاعدة انطلاق الى بلاد الشرق . وسميت بكوفة الجند ، وكان الجيش الشرقي المستقر فيها كبيرا وقويا ، وحينما بويع الإمام علي عليه السلام للخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث . ولم يبايعه معاوية أمير جيش الشام ( وهو الجيش الثاني بعد جيش الكوفة ) .
وتمرد اهل البصرة بقيادة جمع من رؤساء قريش ( طلحة والزبير وعائشة ) هاجر الامام علي الى الكوفة و اتخذها قاعدة عسكرية لاحتواء التمرد في البصرة ، ودحر العصيان في الشام .
وهكذا اصبحت الكوفة دارا للخلافة . واشتركت في اكثر من حرب ضد جيش الشام . وبالرغم من انهزامها امام ذلك الجيش الذي استفاد من الخبرة العسكرية الرومانية ، الشيء الكثير كما واستخدم المكر والخداع ..
بالرغم من ذلك إلا ان الكوفة ظلت تضمر العداء لحكومة بني أمية . وتوالي أهل البيت . وتنتظر الفرصة المناسبة للثورة عليها . وجاءت الفرصة بموت معاوية وتململت البلاد الاسلامية فبادر اشراف الكوفة الى مراسلة الامام الحسين عليه السلام ليقدم اليها لعلهم يحاربون تحت لواءه الشرعي . ولكن يزيد وتبعا لرأي مستشاره الرومي سرجون اختار ابن زياد لولاية الكوفة فجاءهم بالوعد والوعيد وأخذ يخوفهم من جيش الشام ثم اشترى بعض الضمائر بالمال .
فاستطاع ان يستميل العناصر الضعيفة التي ما لبث ان جندها لحرب ابي عبد الله الحسين عليه السلام بقيادة عمر بن سعد بن وقاص . والذي كان والده قائدا اعلى في يوم من الايام لجيش العراق ..
ثم اعلن النفير العام . وان من تخلف عن التجنيد يؤخذ ويضرب عنقه .. وكان هذا الاعرابي ضحية هذا النفير ..
مثل الرجل امام ابن زياد فسأله لم لم تذهب الى قتال الحسين ؟
قال : ايها الأمير انا رجل من الاعراب كنت قد بعت رجلا من اهل الكوفة نياقا بأجل ، وجئت لاقبض ثمنها .
كانت نبرات الصدق واضحة في كلمات الرجل و كان يتكلم بثقة كافية ، فنظر ابن زياد الى جلساءه وقال : اظنه صادقا ، ولكنه التفت الى الجلاد . وقال : خذه واضرب عنقه ليكون عبرة لغيره .. وبعد لحظات كان رأس الاعرابي يتدحرج امام قدم ابن زياد .. ليكون شاهدا جديدا على القمع الأموي .
( 2 )
خرج من المسجد مع نفر قليل موجها الى أبواب كندة فلم يبلغ الابواب افرده اصحابه فلم يبق معه منهم عشرة ، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه انسان يدله ، فالتفت فاذا هو لا يحس احدا يدله على الطريق ، ولا يدله على منزله ولا يواسيه بنفسه ان عرض له عدو . فمضى سيدنا مسلم بن عقيل على وجهه متلددا في ازقة الكوفة لا يدري اين يذهب ؟ 1
كانت ازقة الكوفة واسواقها الملتوية التي ينتهي اكثرها الى المسجد الكبير فارغة تماما في هذه الليلة . بينما كانت الليالي مناسبة للسهرات التي كان العرب قد الفها وكانت البراحات والواحات المنتثرة هنا وهناك بمثابة أندية وندوات وها هو مسلم يتخلل هذه الازقة الفارغة في جوف ليل موحش ، وحيدا غريبا لايدري اين يسير .
لقد كان عقيل بن أبي طالب انسب قريش واعلمهم بايامها ، وكان والده ابو طالب يكن له حبا كبيرا . وقد احبه رسول الله كثيرا وقال في حقه بعد ان سأله امير المؤمنين علي عليه السلام عن حبه لعقيل فقال صلى الله عليه وآله : اي والله اني لأحبه حبّين حبا له وحبا لحب ابي طالب له ، وقال ان ولده لمقتول في محبة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين وتصلى عليه الملائكة المقربون 2 وقد رزق الله عقيلا مولودا مباركا سماه مسلما ، حيث تروع ونما في البيت الهاشمي . حيث مهبط الوحي . ومحور حركة الأمة وقطب الحياة الدينية والسياسية ، فرعته التربية المتميزة لهذا البيت الرفيع فلما شب التحق كسائر اترابه بالجيش الاسلامي الذي كان يجوب يؤمئذ الآفاق . ويطوي الدول ، ويلحقها بالعالم الاسلامي ، وقد ابلا في فتح بعض بلاد مصر ـ بلاءا حسنا ـ وتقول الرواية التاريخية :
لما دخل المسلمون مدينة ” البهنسا ” ( في صعيد مصر الأدنى غربي النيل ) دخل مسلم بن عقيل ( والذي رأى من قبل اخويه جعفرا وعليا جريحين ) وكان يرتجز ويقول :
ضناني الهم مع حزني الطويل *** لفقد صاحـبي مجد أثيل
فوا ثأرا لجعفـر مع عـلي *** ليوث الحرب آل بني عقيل
سأقتل بالمهنـد كل قـرم *** عسى بالثأر ان يشفى غليلي 3
وفي حروب الردة الأموية انضوى تحت راية عمه الامام علي عليه السلام ، واستبسل في الدفاع عن الاسلام النقي الاصيل ، ضد الجاهلية المغلفة بغلالة من الطقوس الظاهرية .
وكان قد تزوج بنت عمه الامام علي ، رقية التي انجبت له ذرية صالحة . ذكر المؤرخون منهم عبد الله وبنتا ( لعلها حميدة ) وقيل اكثر من ذلك ، وأيا كان فانه فدى ذريته في الله ، فلا عقب له .
وعندما راسل اشراف الكوفة الامام الحسين ـ عليه السلام ـ بان يقدم اليهم ، وكتبوا له فيما كتبوا .
بسم الله الرحمن الرحيم
الى الحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين اما بعد ..
فجيء هلا فان الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثم العجل العجل ، والسلام ” 4 .
وجاء في بعضها :
” اما بعد فقد اخضر الجناب ، واينعت الثمار ، واعشبت الارض ، واورقت الاشجار ، فاذا شتت فاقبل على جند لك مجندة والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى ابيك من قبلك 5 .
وهكذا تواترت الرسل والرسائل حتى بلغت اثني عشر الف كتاب 5 .
وهنالك اتخذ الامام قراره الحاسم بالقيام انطلاقا من الكوفة ، ضد الطغمة الأموية الفاسدة ، فانتدب مسلم بن عقيل ، ليكون رسوله الى أهل الكوفة ، أرسل معه رسالة جاء فيها :
” انا باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي ، مسلم بن عقيل ، فان كتب إلي بانه قد اجتمع رأي ملاءكم وذوي الحجى والفضل منكم ، على مثل ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، فاني اقدم اليكم وشيكا ، انشاء الله 5 .
لقد كان مسلم فقيها قائدا . وبطلا باسلا . وقد صاغته ايات الكتاب ، وسوح الجهاد . وعبادة الاسحار ؛ حتى رفعه الله مقاما محمودا .
كانت حياته ارخص شيء عنده إذا احس بأدنى خطر على الدين ..
لقد وسّعت آيات الكتاب افاق بصيرته ، فكان ينظر الى الدنيا انها مجرد متاع في الآخرة . وان اللبيب من يشري نفسه ابتغاء مرضاة ربه .
وهكذا انطلق مسلم ، سلام الله عليه ، من مكة حاملا هموم امة أرادها الله خير امة . وارادها الدخلاء والطلقاء مطية لأهواءهم .
انطلق مسلم الى المدينة حيث مرقد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وحيث اهله الاقربون . فصلى عند قبر صاحب الرسالة ركعات ، وودع قائد الامة ، ثم ودع اهله على خوف من فراعنة عصره . واتخذ طريقا الى العراق على غير الجادة ..
وكان ابن عقيل عارفا بخطورة المهمة التي يندفع اليها ، اولم تكن واقعة عاشوراء ميراثا فكريا لآل بيت الرسول . يتواصون بها ، ويتساءلون عن تفاصيلها ، أولم يبشر الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أمير المؤمنين عليا ـ عليه السلام ـ بان ولد عقيل يقتل في محبة ولده ، أولم يسمع مسلم هذه الرواية ووعاها . وقد ودعه الامام الحسين عليه السلام بالقول :
اني موجهك الى أهل الكوفة وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى ، وارجو ان اكون انا وانت ، في درجة الشهداء فامض ببركة الله وعونه 6 .
اخذ مسلم يطوي المراحل حتى دخل الكوفة واتخذ من دار المختار بن عبيد الثقفي ، الذي كان يعتبر من طلائع الحركة المناهضة للبيت الأموي ، اتخذ منها مقرا ومنطلقا للتحرك . حيث كان يستقبل الشيعة ويقرء عليهم كتاب ابي عبد الله الحسين عليه السلام فيبكون واخذ الناس يبايعونه حتى بلغ عدد من بايعه ثمانية عشر الفا . وهناك كتب الى الامام الحسين عليه السلام يخبره بأمر الناس ويطلب منه القدوم .
وكان النعمان بن بشير واليا على الكوفة من قبل بني أمية ، فلما بلغه خبر ابن عقيل صعد المنبر و ألقى خطابا فهم منه أهل الكوفة ، انه متردد من مناهضة الحركة حيث قال :
اني لا أقاتل من لا يقاتلني ، ولا أتي على من لم يأت علي ، ولا أنبه نائمكم ، ولا اتحرش بكم ، ولا أخذ بالتعرف ، ولا الظنة ، ولا التهمة 7
فاتهمه رجال بني أمية بالضعف ، فقال له عبد الله بن مسلم : هذا الذي أنت عليه ، فيما بينك وبين عدوك ، رأي المستضعفين ، فقال له النعمان : ان اكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحب الي من ان اكون من الاعزين في معصية الله 5 .
وهكذا كتب عبد الله بن مسلم الى يزيد يحرضه على النعمان ، ويتهمه بالضعف . فدعا يزيد سرجون وكان روميا مستشارا عند معاوية ، وكان معاوية قد وصّى ابنه بان يستشيره في الأمور الهامة ، فقال له ما رأيك ؟ فقال له سرجون أرأيت لو نشر لك معاوية حيا ، ما كنت آخذا برأيه ؟ قال بلى ، فاخرج سرجون عهد عبيد الله على الكوفة و قال : هذا رأي معاوية .
وهكذا تمت ولاية الكوفة لابن زياد باستشارة الرومي ، وكان يزيد كارها له ، ولولا حاجته اليه لما ولاه .
وبالرغم من ان البصرة قد تململت بعد هلاك معاوية ، الا ان الكوفة كانت اخطر ، ولذلك فقد استخلف ابن زياد اخاه عثمان بن زياد على البصرة وانحدر الى الكوفة مسرعا .
( 3 )
دخل ابن زياد الكوفة بعد ان ضم له يزيد امارتها الى امارة البصرة . دخلها مما يلي النجف ، فظن اهلها انه الحسين ـ عليه السلام ـ فعلا هتافهم ” الله اكبر ” إنا معك اكثر من اربعين الفا . فلما ازدحموا عليه حسر اللثام قائلا انا عبيد الله . فتساقط القوم . وتراجعوا فدخل دار الامارة . وبدأ يحوك المؤمرات ضد الثورة ..
لقد انقسمت الكوفة على نفسها الى فريقين ؛ فطائفة ظلوا على ولاءهم التاريخي للبيت الهاشمي . بينما اغلب الناس ابتعدوا من العمل السياسي ، وفصلوا بين عقائدهم وموافقتهم ، وكانوا مع الذي يغلب بالسيف انى كان . فصاروا كما قال الفرزدق للامام الحسين ـ عليه السلام ـ حينما صادفه في الطريق بين الحجاز والعراق وسأله عن أهل الكوفة قال : قلوبهم معك وسيوفهم عليك ، وكان ابن زياد اخبر الولاة بأهل الكوفة . وكيف ان اكثرهم يميل مع الريح . وهكذا خطب فيهم قائلا :
ان امير المؤمنين يزيد ولاني بلدكم . واستعملني مصركم ، وامرني بقسمة فيئكم بينكم . وانصاف مظلومكم من ظالمكم . واخذ الحق لضعيفكم من قويكم ، والاحسان للسامع المطيع ، والتشديد على المريب ، فاسمعوا هذا الرجل الهاشمي مقالتي ليتقي غضبي ” 8 .
والخطوة الثانية التي قام بها ، تمثلت في تقوية الجهاز السلطوي ، الذي كان يعتمد يومئذ على نظام العرفاء ( وهم يقومون بدور الشرطة ) فأمر العرفاء بان يكتبوا اليه قائمة باسماء المعارضين في مناطقهم . ويضمنوا له بالا يخالفوه . وهددهم بأن من لم يفعل منهم ذلك ، برئت منه الذمة ، وحلال دمه وماله ، ثم اضاف :
اي عريف وجد في منطقة عرافته مخالفا ليزيد ، ولم يسجل اسمه صلب على باب داره ، والغيت تلك المنطقة من العطاء 9 .
والخطوة الثالثة : البحث عن قائد الحركة ، حيث اختفى مسلم ـ سلام الله عليه ـ منذ ان عرف بقدوم ابن زياد ، لمعرفته به ومدى تطرفه ، بعكس الوالي السابق ، النعمان بن بشير الذي كان معتدلا ..
وهكذا اختفى مسلم في دار هاني بن عروة . وكان شيخا عظيما من شيوخ الكوفة ومعه قبائل مذجح . بينما كان من قبل ، في دار المختار بن عبيد الثقفي .
استخدم ابن زياد بعض الجواسيس المتمرسين في البحث عن ابن عقيل ، حيث كان البيت الأموي قد شكل من قبل جهازا للمخابرات . معتمدا ـ في الأغلب ـ على الموالي ، وكان معقل واحدا من افراد ذلك الجهاز ، فاعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وقال له : اطلب مسلم بن عقيل والتمس اصحابه ، فاذا ظفرت بواحد منهم ، او جماعة ، فاعطهم المبلغ ، وتلطف معهم حتى تتعرف على محل مسلم .. وفعل معقل ما امره ، حتى تسلل الى دار هاني ، حيث اتخذ منه مسلم ، منطلقا لاتصالاته باركان حركته ..
ولما عرف ابن زياد ذلك ، طلب هاني ، وبالرغم من ان هاني تردد في البداية وخشي على نفسه . إلا ان اصرار بعض اقاربه الذين كانوا موالين للنظام . دفعه الى الدخول على ابن زياد .
فطلب منه ان يسلم مسلم . فلما انكر واجهه بمعقل . فاعترف ، ولكنه اصر على انه لن يسلمه وقال : لا والله لا اجيئك به ، أبدا اجيئك بضيفي تقتله ؟
فلما أبى قال ابن زياد أدنوه مني فأدنوه منه فقال : والله لتأتيني به او لاضرين عنقك ، فقال هاني إذا والله تكثر البارقة حول دارك . فقال ابن زياد أبا لبارقة تخوفني ، ثم استعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه حتى كسره وسال الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه ، وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي وجاذبه ، أراد ان يدافع بذلك عن نفسه . فقال ابن زياد احروري سائر النهار ( اتهمه بأنه اصبح خارجيا ) قد حل دمك . وبعد لحظات اجتمع مئات من قبيلته حول دار الامارة ، ولكن ابن زياد كلّف شريح القاضي ، الذي قام بدور جد قذر ، في دعم سلطة بني امية الارهابية ، ومناهضة حركة مسلم التحررية ، كلّفه ليستفيد من مظهره الديني ويخبرهم بأنه صاحبهم حي ولا شيء عليه .
ورأى مسلم بن عقيل ـ سلام الله عليه ـ ان ابن زياد يضيق عليه الخناق . وان عليه ان يبادر بالقيام قبل ان يؤخذ اليه اسيرا . على يد جلاوزته وجواسيسه ، خصوصا وقد فقد ابرز اعوانه هاني بن عروة .
وهكذا اطلق شعاره المعروف ” يا منصور امت .. ” ولم يلبث ان انتشر في الكوفة هذا الشعار واجتمع الناس حوله .
اما ابن زياد فقد خرج الى المسجد ومعه اشراف الناس وشرطته وحشمه . وصعد المنبر وأخذ يتوعد الناس ، وقبل ان ينزل من المنبر ، دخلت النظارة ، المسجد يشتدون ويقولون : قد جاء ابن عقيل . فدخل عبيد الله القصر مسرعا واغلق ابوابه .
ونظم مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ جنده في اربعة ألوية ، وامتلاء المسجد بانصاره وبدى للجميع ان حركته قد نجحت .
بلى ، في مثل هذه الواقعة ، وبعد خمس سنوات من هذا التاريخ ، نجحت حركة المختار بن عبيد الثقفي ، والتي انتهت بقتل ابن زياد . إلا ان ظروف نجاح الحركة ما كانت متكاملة مع ابن عقيل ، حيث ان الذين اجتمعوا الى مسلم كانوا مجموعة من المؤيدين والانصار من عامة الناس ، بينما الاشراف والخاصة ظلوا على ولاءهم للأمويين ، إما خوفا من بطشهم ، حيث ان السلطة المركزية في الشام لازالت بايديهم . واما طمعا في عطاءهم حيث ان ابن زياد قسم بينهم اموالا طائلة .
وهكذا قام ابن زياد باستقبال اشراف الكوفة من باب خلفي لدار الامارة ، وأخذ يستميلهم بالترغيب حينا وبالترهيب احيانا . ثم يطلب منهم ان يخذلوا الناس حتى يتفرقوا عن مسلم بن عقيل .
وهكذا ظل مسلم سائر النهار ، ينظم الجيش ، ولكن عند العشية قام واحد من انصار الحزب الأموي واسمه كثير بن شهاب ، قام خطيبا في الناس وقال :
ايها الناس الحقوا باهاليكم ، ولا تعجلوا الشر ، ولا تعرضوا انفسكم للقتل . فان هذه جنود امير المؤمنين يزيد قد اقبلت ، وقد اعطى الله الأمير عهدا لأن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم ان يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتليكم في مفازي الشام ، وان يأخذ البريء منكم بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له بقية من اهل المعصية إلا اذاقها وبال ما جنت ايديها .. 10 .
كان هذا الخطاب نموذجا للدعاية الاموية ، التي كان اشراف الكوفة يبثونها بين انصار مسلم ، ممن لم تتبلور عندهم البصائر القرآنية . ولم ينتظموا الى صفوف الحركة الرسالية ولم يتربوا على قيمها بالقدر الكافي .
وهكذا بدأوا يتفرقون عن مسلم ، وكانت المرأة تأتي ابنها او اخاها فتقول انصرف ، الناس يكفونك ، ويجيء الرجل الى ابنه أو اخيه ويقول : غدا أتيك اهل الشام فما تصنع بالحرب والشر ، انصرف .
في التاريخ منعطفات خطيرة . كان دور الفرد ومدى وعيه بمسؤوليته ، وتمسكه بمبادئه ، هو الذي يحسم الموقف لصالح القيم او لمصلحة الجبابرة .
فمثلا لولا وقفة المسلمين ببدر ، امام جيش لجب ، واستماتتهم في سبيل الدين ، لما انتصروا ، ولما كان للمسلمين هذا الشأن .
ولكن أهل الكوفة يومئذ كانوا قد تعرضوا لحملات دعاية . وسلطوية ووساوس كثيرة ، من قبل ادعياء الدين ، وارباب المصالح . وهكذا لم يعرفوا ان خذلانهم للحق في تلك اللحظة سوف يكون له اثر سلبي على تاريخ المسيرة .
في تلك البرهة التاريخية كانت السلطة الأموية متزلزلة ولم يكن في الشام داهية لمعاوية يستطيع ان يجمع من حولها الانصار ، وكانت بصرة على وشك الانفجار ، كذلك الحجاز وسائر الامصار . ولكن الدعاية الأموية صورت لأولئك السذج ان جيش الشام على الابواب ، ولان اهل الكوفة قد انهزموا ـ مرة ـ امام جيش الشام فقد صدقوا تلك الدعاية ، وتفرقوا عن رسول الحسين ـ عليه السلام ـ وداعية الحق والحرية ، مسلم بن عقيل عليه السلام ، وانصرفوا عنه ، فامسى وقد صلى المغرب وما معه الا ثلاثون نفسا في المسجد .
وما كانت إلا لحظات حتى تفرق عنه الثلاثون . فوجد نفسه وحيدا .
لقد كانت صلابة ايمانه ، واستقامة نفسه ، وصدق يقينه ، مالو وزنت بالجبال لرجحت عليها .. انه ابن الاسلام البار وربيب القرآن والعترة .
إنه قدوة اولئك الرجال الذين لا يخافون في الله لومة لائم . فاذا وجدوا انفسهم بلا ناصر او معين في الأرض ، لم يستوحشوا من طريق الحق لقلة سالكيه . لذلك تراهم يتوكلون على ربهم ، ويقتحمون العقبات بمفردهم لانهم يعلمون يقينا ان الله معهم والملائكة والمؤمنون بعد ذلك ظهر .
وهكذا لم تهن عزيمته . ولم يستسلم لقدره . انما اخذ يتخلل ازقة الكوفة عسى ان يهديه الله سبيلا .
( 4 )
وقفت على الباب تنتظر ابنها . لقد تأخر عن البيت هذه الليلة . وكوفة مضطربة وأعظم ما يقلقها انتماء ابنها ـ بلال ـ الى تلك الطبقة المرتزقة ، الذين احترفوا العسكرية ، فلم يأبهوا لِمَ يقاتلون ، ومع من وضد من ؟ انما همهم الوحيد القتال في مقابل حفنة من الدراهم . حتى ان ابن زياد عندما دخل الكوفة وعد المقاتلين بزيادة في عطاءهم بمقدار عشرة ، ان هم جندوا لقتل سبط رسول الله ، فلم يسأله احد ، عشرة من اي شيء ، دراهم او دنانير ، او اي شيء آخر . فزادهم عشرة تمرات . وسكتوا ..
بعد انتظار طويل عادت الى البيت ولكنها ما اطمأنت . فعادت مرة اخرى ففتحت الباب واطلت على الزقاق فاذا بها ترى رجلا على الباب .
من انت وما شأنك ؟
هل لديك شربة من ماء ..
بادرت الى البيت لتأتي بالماء . وناولته .
شرب الماء وعادت العجوزة الى بيتها ثم عادت الى الباب من فرط قلقها على ابنها .. فرأت الرجل لايزال واقفا ..
ألم تشرب الماء .
بلى . انصرف الى بيتك .
فسكت ، ثم اعادت مثل ذلك ، فسكت ثم قالت في الثالثة .
سبحان الله يا عبد الله ! قم عافاك الله الى اهلك ، فانه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك .
فقام وقال : يا أمة الله مالي في .. هذا المصر اهل ولاعشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت يا عبد الله وما ذاك . قال : انا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم وغروني واخرجوني .
قالت : وتكاد الدهشة تعقل لسانها , أنت مسلم ؟
قال : نعم .
قالت : أدخل .
رحبت طوعة بالضيف الكريم ، بالرغم من معرفتها بالعاقبة التي تنتظرها .. واوته الى بيت من بيوت الدار مهجور .. وقدمت له الطعام فلم يذق منه شيئا .. لقد كان قلب مسلم مشغولا يومئذ عن الطعام . كان يفكر في مصير هذه الامة التي سقطت في اشراك الشيطان . كيف خذلت امامها . وبايعت اعدائها . ونهضت للدفاع عن الباطل بدل الجهاد من اجل الحق . ولكن مسلم ربيب علي بن أبي طالب لم يكن من اولئك النمط من السياسيين الذين ينهارون عند النكسة . او يسمحون للهزيمة ان تتسرب الى نفوسهم مع ارهاصات التراجع .. كان صلب الايمان نافذ البصيرة . كان جهاده انعكاسا لرؤيته الى الدنيا ، وانها دار ابتلاء ، وان الاخرة لهي الحيوان . وكان يستمد صلابته وشجاعته من ايمانه بالله . وباليوم الآخر .
لو كان اي شخص آخر غير مسلم يعيش في مدينة كالكوفة انقلبت عليه ، لكان اول ما يفكر فيه الهرب . او الاستسلام للطاغية . او حتى التسليم لقدره والاستعداد للقتل بلا مقاومة .
إلا ان مسلما ـ عليه السلام ـ عقد عزمه على مواصلة الكفاح . واشتغل طيلة الليل بالعبادة . وتزود من نمير الحب الالهي فيضا رويا ، جعله يشتاق الى لقاء ربه ، وقالوا ان عينه هوَّمت قليلا ، فاذا به يرى ـ فيما يرى النائم عمه ـ الامام امير المؤمنين ـ فقال له يابن اخي انت ضيفنا في الليلة القادمة . فلما انتبه من النوم عاد الى مرحاب العبادة حتى إذا صلى فريضة الفجر سمع وقع حوافر الخيل .
اما طوعة فقد هجر عينها الكرمى وانشغل بالها بالضيف الكبير ، فكانت تتردد على غرفته بين الحين والآخر ، تطمئن على سلامته . فانتبه ولدها الذي عاد الى البيت بعد ان مضى هزيع من الليل . وعاد وهو يحلم بجائزة الأمير لمن كشف عن مخبأ مسلم . فوسوس اليه الشيطان فسأل أمه : قائلا :
أماه مالي أراك تكثرين التردد الى تلك الغرفة . فلم تملك الأم لسانها واخبرها بأمر مسلم ، بعد ان أخذ منها العهود الموثقة .. ولكن النفس الأمارة بالسوء جعلت الولد العاق يستغل فرصة انشغال امه بصلاة الفجر ويتسلل الى امارة الكوفة ويخبر عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بمكان مسلم ..
فجاء عبد الرحمن الى أبيه ، وهو احد جلاوزة النظام ، وكان جالسا عبد ابن زياد ، فساره بأمر مسلم . ولكن الطاغية تنبه الى الحديث الذي دار بينهما فأمر الاشعث بان يقوم ويأتي به من ساعته .
ارتاعت طوعة لما سمعت صهيل الخيول يقترب من بيتها .. فهرولت الى مسلم قائلة : جاءك القوم من حيث تحذر . ولكن مسلم قال لها بكل سكينة : لا عليك ناوليني لامة حربي .. وماهي الا لحظات حتى تحول مسلم من راهب الليل الى فارس النهار . ودخلت الخيل دار طوعة .
لقد ندب ابن زياد محمد بن الاشعث للقبض على مسلم . وارسل معه سرية عسكرية . وبدت المهمة في غاية السهولة عندهم . فها هو مسلم شخص واحد . مختبأ في بيت عجوز استعدادا للفرار من الكوفة ـ في زعمهم ـ وقد اجهدته أيام محاصرته لدار الأمارة ، ذلك الحصار الفاشل الذي يلحق الهزيمة النفسية باكبر بطل . فكيف برجل غريب كمسلم ..
ان كل ظروف الاستسلام اجتمعت على مسلم في تلك الساعة ، ولكن مسلم الرجل الرباني الذي نذر نفسه لله منذ اول حياته . لن يستسلم ـ انه يطلب الشهادة ـ ولكن اية شهادة . شهادة الابطال في المعركة . وليس موت الاذلاء في زوايا السجون .
ما مرت إلا لحظات حتى طرد مسلم قوات محمد بن الاشعث الى خارج الدار . ثم امعن فيهم قتلا وجراحا ..
كان يقاتل بكل طمأنينة وهيمنة . وكان يرتجز ويقول :
اقسمت لا اقتل إلا حرا *** وان رأيت الموت شيئا نكرا
ويخلط البارد سخنا حرا *** رد شعاع الشمس فاستقرا
كل امرء يوما ملاق شرا *** اخاف ان اكذب او اغرا 11
فلما عجز اعداؤه من مقاومته . اغروا نساءهم بان يشعلن النار في اطنان القصب ويلقينها عليه من فوق الاسطح .
كانت افنية الدور والازقة المتداخلة اسوء موقع للقتال .. ولكن ابن عقيل ابدى بطولة نادرة في الحرب . حيث كان يأخذ بتلابيب الرجل من اعداءه ، ويرمي به الى السطوح المجاورة .
وانهارت مقاومة السرية العسكرية . فارسل محمد بن الاشعث الى ابن زياد يطلب المدد ..
وكان ابن زياد على احر من الجمرة لمعرفة وقائع المعركة . فلما بلغه استنجاد ابن الاشعث ارسل اليه يقول : بعثناك الى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في اصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا ارسلناك الى غيره ؟ فارسل ابن الاشعث ايها الامير ! اتظن انك بعثتني الى بقال من بقالي الكوفة ، او الى جرمقاني من جرامقة البصرة ، اولم تعلم ـ ايها الأمير ـ انك بعثتني الى اسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كف بطل همام ، من آل خير الأنام .
فارسل اليه ابن زياد ان اعطه الامان فانك لا تقدر عليه إلا به .
لقد استبسل مسلم في ذلك اليوم بالرغم من وحدته وتظافر الاعداء عليه . وغدرهم به حتى جعل اعداءه في حيرة .
وكان سر استبساله استخفافه بالموت واستعداده للقاء ربه ، فكان إذا حمل عليهم ينشد ويقول :
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع
فانت لكأس الموت لاشك جارع
فصبر لأمر الله جل جلاله
فحكم قضاء الله في الخلق ذائع 12
وتبادل وبكر بن حمران ضربتين . فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا واسرع السيف في السفلى ، وفصلت له ثنيتاه وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق .
ثم تكاثروا عليه ، واثخنوه بالحجارة وباطنان القصب التي اشعلوها نارا والقوها عليه من فوق الاسطح ، فعجز عن القتال ، واستند الى جنب الدار فقال له ابن الاشعث لك الأمان . فقال : امن انا ؟
قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه الي الأمان ؟ قال القوم له : نعم . فقال مسلم : اما لولم تأمنوني ما وضعت يدي في ايديكم ، فأتى ببغلة فحمل عليها واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وهناك احس مسلم بالغدر فدمعت عيناه ثم قال : هذا اول الغدر فقال له محمد بن الاشعث : ارجو ان لا يكون عليك بأس قال : وما هو الا الرجاء اين امانكم ؟ انا لله وانا اليه راجعون وبكى فقال له عبيد الله بن العباس : ان من يطلب مثل الذي طلبت اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبك ، قال والله اني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وان كنت لم احب لها طرفة عين تلفا ، ولكني ابكي لأهلي المقبلين ، اني أبكي للحسين وآل الحسين (ع) 13 .
ثم وصّى الى بعض من حوله ان يبلغوا الامام الحسين ـ عليه السلام ـ الرسالة التالية .
ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغررك اهل الكوفة ، فانهم اصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت او القتل ، ان اهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي 12 .
ان ايمان ابن عقيل وصدق يقينه ، ووثيق صلته بالله سبحانه وبالنبي والامام ـ كل ذلك جعله يتسامى على الظروف الصعبة التي عاكسته ، والمأسي التي توالت عليه ، فبقي صامدا رغم الجراح والأسر واقتراب الأجل منه ، فعلى باب قصر الأمارة حيث انتظر ابن الاشعث حتى يؤذن له بالدخول . كان يقف ايضا واحد من اولئك المتملقين ، الذين استحبوا الدنيا على الحياة الآخرة . واسمه مسلم بن عروة وكان عنده قُلة ماء . وكان مسلم آنئذ مثخنا بالجراح ، والوقت صيف . وقد زاده القتال والمجالدة والنزف عطشا . فاشار الى الماء وقال : اسقوني من هذا الماء ؟
فقال له ابن عروة : اتراها ما ابردها لا والله لا تذوق منها قطرة ابدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم ـ فقال له مسلم بن عقيل ، بعد ان تعرف عليه : لامك الثكل ، ما اجفاك واقطعك واقسى قلبك ، انت يا ابن باهلة ، اولى بالحميم والخلود في نار جهنم 14 .
ثم جلس سيدنا مسلم ، فجيء اليه بماء وقدح ، فلما اراد ان يشرب امتلاء القدح دما . فصب الماء وكرر المحاولة حتى سقطت ثناياه في القدح فقال : الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته ، ثم اُدخل على الطاغية ابن زياد . فلم يسلم عليه .
ان السلطة الجائرة التي تمثلت في ابن زياد واميره يزيد ، لم تكن عند مسلم سوى فتنة ، اوليست الدنيا كلها عند المؤمنين متاع الغرور . واذا كان الانسان قادما على ربه بوثيقة الشهادة فلماذا الخوف ؟! وأهل بيت الرسالة ـ عليهم السلام ـ وكل من رباه الوحي على حب الشهادة ، واصطفاه ربه للدفاع عن قيم الحق اولى الناس باقتحام غمار الموت طلبا لمرضاة ربهم .
وها هو مسلم يغدر به انصاره ، ثم يؤسر وتتكاثر عليه جروحه ، ولكنه تراه كالجبل الاشم ، يقارع الطاغية ابن زياد بالحجة الدامغة . تعالوا نستمع اليه وهو يرد على سلطان جائر يريد قتله . لعلنا نتخذه عبرة لانفسنا ودرسا . فلا تخلو الدنيا من جبابرة اشقياء . فهل نكون المدافعين عن الدين الاولياء كمسلم بن عقيل ، إذا لنستمع الى كلمات مسلم التي تفيض ايمانا ويقينا .
توجه الطاغية ابن زياد الى مسلم عائبا عليه .
فقال : إيه ابن عقيل ، أتيت الناس ، وهم جمع ، شتت بينهم ، وفرقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض .
هكذا تشبث الطاغية بالأمن شأن كل الجبابرة في التاريخ ، الذين يتهمون الأحرار بأنهم ضد الأمن والوحدة . ولكن مسلما شأنه شأن كل المصلحين ركز على قيم الحق والحرية وحقوق الانسان فقال : كلا لست لذلك أتيت ، و لكن اهل المصر زعموا ان اباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم اعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو الى الكتاب .
فلما سقط في يد الطاغية ، وعرف قوة حجة مسلم . لم يجد بدا من ان يتشبث باسلوب التهمة الرخيصة ، والتي الصقها بشخصية مسلم ، ذلك العالم المجاهد فقال :
” وما انت وذاك يا فاسق ؟ لم لم تعمل فيهم بذلك اذا انت بالمدينة تشرب الخمر ” .
ولكن مسلم بن عقيل ـ سلام الله عليه ـ رده بحجته البالغة ، اذ رد التهمة عن نفسه اولا وبابن زياد لا يتهمه إلا كذبا . وثانيا : بين ان سفك دماء المسلمين اعظم ذنبا ، وان من لا يتورَّع عن ذلك ، هو الذي يشرب الخمر فقال عليه السلام :
” انا اشرب الخمر ؟
اما ـ والله ـ ان الله ليعلم انك غير صادق ، وانك قد قلت بغير علم ، واني لست كما ذكرت ، وانك احق بشرب الخمر مني ، واولى بها ، من يلغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرم الله على الغصب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كان لم يصنع شيئا .
هكذا حاكم المجاهد الصلب ، والمؤمن الصابر عند البأس ، مسلم بن عقيل ، حاكم النظام الأموي في دار امارة الكوفة مما جعل ابن زياد يبحث في ذاكرته . عن تلك الافكار القدرية التي طالما يبرر الطغاة سلطتهم بها ، زاعمين انه لولا ان سلطتهم شرعية لما اذن الله لها ان تتحقق مع انهم اعرف من غيرهم ، بمدى بعدهم عن الله و الوحي والرسول والقيم الانسانية . فقال ابن زياد :
” يا فاسق ان نفسك منتك ما حال الله دونه ولم يرك الله له أهلا “
وكان مسلم لذلك الطاغية بالمرصاد ، فرده بقوة الحق الذي لا يقهر وقال : ـ
فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟
فقال ابن زياد : امير المؤمنين يزيد
فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم ، وهنا بهت الذي كفر وعرف انه لن يغلب مسلما بالمنطق فقال :
” قتلني الله ان لم اقتلك قتلة لم يقتلها احد في الاسلام من الناس “
فقال له مسلم : اما انك احق من احدث في الاسلام ما لم يكن ، وانك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة لا احد اولى بها منك .
وانتهى الحوار واخذ ابن زياد يشتم مسلما والحسين وعليا وعقيلا عليهم السلام ومسلم لا يكلمه ..
( 5 )
منذ ان يشرق نور الايمان في قلب الصالحين ، ينتظرون لحظة اللقاء مع الرب الرحمن ، أولم يقل ربنا سبحانه : ” من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا “
لم تكن مهمة رسول الحسين الى الكوفة سهلة ابدا . وكان الامام الحسين ـ عليه السلام ـ اعلم الناس بطبيعة الكوفة المتقلبة . وكان جوابه على من ذكر له اوضاع مكة . ورجاه بالا يستمر معهم كان جوابه كلمات تعكس هدفه البعيد من هذا القيام .
ولو بصورة اشارة وتورية فقال لبعضهم : هكذا امرني جدي . وقال لبعضهم فبم يمتحن هذا الخلق . فلم ينتدب مسلما ليكون طليعة قيامه إلا لانه وجده اهلا لهذه المهمة الاستشهادية ..
كان لمسلم ـ سلام الله عليه ـ اخوة وذرية . وقد تركهم في حماية امامه وابن عمه الحسين عليه السلام .
ولكن مسلما حين اصعد الى سطح القصر لم يفكر في مصير أهله ولا وصى احدا منهم . كانت وصيته لعمر بن سعد والذي كان الهاشمي الوحيد الذي استدرجه بنوا أمية . والذي كان نسخة ثانية لابي لهب في تاريخ الهاشميين . كانت وصيته لذلك الخائن تتلخص في ثلاثة امور ؛ اداء دينه الذي بلغ سبعماة درهم وذلك بعد بيع لامة حربه ، ودفن جثمانه ، والوصية الثالثة والهامة ابلاغ امامه الحسين ـ عليه السلام ـ بمصيره ..
لقد ندب ابن زياد لقتل سيدنا مسلم سلام الله عليه . بكير بن حمران الذي تبادل ومسلم ضربات غير قاتلة عند الحرب ليكون اشد حقدا عليه .
فلما صعد به ومسلم ـ عليه السلام ـ يكبر ويستغفر الله ويصلي على رسول الله ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وخذلونا .
وبعد ان قام الجلاد بكير بجريمته دعاه ابن زياد فقال له اقتلته قال : نعم . قال : فما كان يقول وانتم تصعدون به لتقتلوه ؟ قال : كان يكبر ويسبح ويهلل ويستغفر الله . فلما ادنيناه لنضرب عنقه قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا ثم خذلونا وقتلونا ، فضربته ضربة لم تعمل شيئا فقال لي : اوما يكفيك في خدش مني وفاء بدمك ايها العبد ؟ قال ابن زياد وفخرا عند الموت . قال وضربته الثانية فقتلته 15 .
تلك كانت الامنية التي طالما حدث مسلم نفسه بها وكان اول شهيد في نهضة الامام الحسين عليه السلام .
لقد بعث ابن عقيل عنفوانا جديدا للشهادة في سبيل حدود الدين ، وقيم الوحي ، وفي مناهضة الطغاة والجبابرة .
فسلام الله عليه من شهيد لا يطلى دمه حتى قيام ولي الله الاعظم الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه . هاتفا يالثارات الحسين .. 16

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى