مقالات

نصير الإمام الحسين…

في تلك الأيام المبكرة من عمرنا حيث كنا ننظر إلى الحياة بعين واسعة بريئة ، ونشم عبق المثل بإحساس مرهف وروح شاعرية ، في تلك الأيام كنا نتوجه ـ في ليالي الجمعة ـ تلقاء حرم أبي الفضل العباس ابن علي عليه السلام في وطننا الجريح في كربلاء المقدسة ، فندلف إلى الصحن الشريف بشوق ، وندخل الرواق برهبة . فإذا اقتربنا إلى ضريحه الميمون ، ارتسمت في أذهاننا صورة ذلك البطل العظيم ، ممتطيا صهوة جواده المطهم ، ورجلاه تخطان الأرض …

ووجهه كفلقة بدر 1 ، وفي يمينه الحسام وقد حمل القربة يريد المشرعة التي حاصرها أربعة آلاف مقاتل وكّلهم بها عمر ابن سعد بقيادة عمرو بن الحجاج . وذلك منذ يوم تاسوعا من عام 61 للهجرة ، حيث قدم شمر ابن ذي الجوشن إلى وادي كربلاء ، ومعه رسالة من عبيد الله ابن زياد ( المتسلط على الكوفة من قبل يزيد بن معاوية ) في تلك الرسالة أمر ابن زياد قائد جيشه عمر ابن سعد بأن يمنع على الحسين وأهل بيته و أصحابه ـ عليهم السلام ـ ماء الفرات .

فلما انتصف النهار من اليوم العاشر ، وسقط العديد من أصحاب الحسين ـ عليه السلام ـ ومن أهل بيته ، صرعى أثر العطش بأهل البيت ، وبالذات بالأطفال الصغار ، وارتفعت صيحات ” العطش ، العطش ” فكادت تمزق قلب سقاء كربلاء أبي الفضل العباس ، صاحب لواء العسكر الحسيني . والذي لقب بهذا اللقب بعد أن قاد حملة ناجحة إلى الفرات وجاء بالماء إلى المخيم قبل يوم عاشوراء حسب بعض التواريخ .
لقد كان العباس بطلا شهدت له المواجهات العسكرية التي كانت بين الإمام أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ وبين أصحاب الردة ، ولعله اشترك في فتح المشرعة مع أخيه الحسين ـ عليه السلام ـ في بعض المعارك عندما سيطر أصحاب معاوية على الفرات ومنعوا أصحاب أمير المؤمنين منه . فلما تمادى في غيه ، ولم يقبل نصيحة الإمام عليه السلام بفتح الشريعة سلميا خطب الإمام علي عليه السلام في أصحابه خطابا حماسيا ، وكان فيما قال : ” أرووا السيوف من الدماء ، ترووا من الماء ” . وحمل أصحابه على المشرعة بقيادة السبط الشهيد وأخيه العباس حسب هذه الرواية ، فلما فتحوها أباحها الإمام لاعداءه كما جاء في بعض الروايات ، بيد أن أهل الكوفة الذين حاربوا معاوية بالأمس تحت راية الإمام علي ، انضووا اليوم تحت راية يزيد بن معاوية وعدو يحاربون سيد شباب أهل الجنة وأصحابه وأهل بيته ، ويمنعونهم عن الفرات .
وها هو سيدنا العباس يجد نفسه محاطا بأكثر من أربعة آلاف من الأعداء الشرسين ، فهل يمنعه ذلك من اقتحام المشرعة ؟
كلا .. ان أصوات الاستغاثة التي ارتفعت من حناجر آل الرسول منادية بالعطش ، استنهضت البطل الأبي ، فتقدم إلى الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ واستأذنه في المبارزة ، بيد ان الإمام الحسين عليه السلام لم يأذن له في البدء قائلا : ” أنت صاحب لوائي ، والعلامة من عسكري ” .
فقال أبو الفضل : ” يا أبا عبد الله ؛ لقد ضاق صدري ” .
فأذن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ له ، وقال : ” اطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء ” .
حينما كنا صغارا ، ونقف أمام ضريح أبي الفضل العباس ، كانت بصائرنا تتجه إلى مخيم الحسين ، حيث لا تزال كربلاء تحتفظ بآثاره وبذكريات العطش لأولئك الصبية الصغار ، والنساء الأرامل والثكالى . فتكمل الصورة لذلك البطل واقفا على المشرعة يطلب الماء لأولئك الأبرياء ، التي كانت تلك الصورة ذات أثر بالغ على أفئدتنا حتى كأننا نجد حوادث واقعة الطف ماثلة أمامنا بكل لمساتها المثيرة . فها هو العبـــاس واقف على المشرعة ، وقد أقحم فرسه في الماء ، ثم مد يديه واغترف غرفة من الماء ، وقربها إلى فمه الذابل من العطش ، فإذا به يتذكر عطش أخيه ، فيرمي الماء على الماء ، ثم يخاطب نفسه بكلمات لا تزال العصور ترددها قائلا :
يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسـين وارد المنـون *** و تشربين بـارد المعـين
هيهات ما هذا فعال ديـني *** و لا فعـال صادق اليقين
و هكذا ترتسم أمامنا صورة العباس عند زيارة مرقده وحيث كنا نسلم عليه بتلاوة تلك الزيارة التي تنضح بصائر وهدى ، ثم نصلي لربنا ركعات ، ندعوه بدعوات ، نعود بعد ان نرتشف من نمير وفائه كأسا ، ونغترف من بحر بصيرته غرفة ، ونقتبس من نور إيمانه هدى .
تلك كانت مثلا لزيارة محبي أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لمشهد أبي الفضل العباس عليه السلام في كربلاء المقدسة ، حيث يتقاطر إليه الآلاف من كل مكان ، وحيث تجد بينهم أصحاب الحوائج يدعون الله سبحانه متوسلين إليه بالعباس ، او المتنازعين يحلفون عند ضريحه فلا يجرأ احد منهم بالكذب ، لاعتقاد الجميع ان الله يعجل عليهم بالعذاب لو كذبوا كما تجد المجاهدين الذين يتزودون من مرقد العباس العزيمة والاستقامة ..
واني اذ رسمت لك هذه الصورة أيها القارئ الكريم ، في مستهل حديثي عن أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ فانما لكي نبحث من خلالها عن السر الكامن وراء هذه الحب والاحترام البالغين من قبل الملايين من المسلمين تجاه سيدنا أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ حتى اننا نستطيع انه نؤكد بأنه لا يحظى أحد من أهل بيت النبوة ، بعد الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ باهتمام المؤمنين بقدر أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ . فان له مكانة عظيمة في قلوب المؤمنين ، حتى انه بمجرد ما يذكر اسم هذا البطل العظيم ، تتداعى لديهم مثل الوفاء والمواساة ، والبطولة والإباء ، والبصيرة النافذة والإيمان الصلب ..

ما هو السر في ذلك ؟

لقــد حملت هذا السؤال إلى بعض الاخوة هنا وهناك قائلا : انه هناك قمما مضيئة في تأريخنا ـ نحن الموالين لأهل بيت الرسالة ـ ، ابتداءا من أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى انصار الإمام علي ـ عليه السلام ـ إلى حواري الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ ،والى أصحاب سائر الائمة المعصومين ـ عليه السلام ـ ، وان بينهم الفقهاء والقادة والابطال ، ولكن نور اولئك يخبو إذا سطع أبو الفضل العباس ـ عليه السلام ـ . لماذا ؟ كان جواب الأفاضل متقاربا حيث قالوا : ان السر في ذلك ان العباس ـ عليه السلام ـ باب الحوائج ،فما من احد طرق هذا الباب إلا قضيت حاجته . وهناك الدعاء المعروف الذي يتلوه المؤمنون حينما تصيبهم ضائقة ، وتحيط بهم بائقة ، يقولون : ” الهي بحق كاشف الكرب عن وجه اخيه الحسين ـ عليه السلام ـ اكشف كربي ” .
قلت بلى .. واني شخصيا اجرب ذلك دائما ، بل لا يمر علي يوم إلا واشاهد هذه الحقيقة . فكلما اصابتني ازمة ، دعوت الله سبحانه وتعالى ، وتوسلت اليه بأبي الفضل العباس باب الحوائج ونذرت له علي مئة صلاة على النبي وآله لاهدي ثوابها إلى روحه الكبير ، فإذا بالكربة تنكشف ، والازمة تتفرج .
ولكن السؤال العريض لماذا خص الله سبحانه وتعالى أبا الفضل عليه السلام بهذه الميزة العظيمة ؟ فما من احد في شرق الارض وغربها ، يدعو الله بكربة أبي الفضل ، إلا ويفرج الله كربته ؟ لماذا ، ماهو السر في ذلك ؟

كان الجواب ما يلي :

لعل احدا من أصحاب الحسين وأهل بيته ـ عليه وعليهم السلام ـ لم يمر بلحظة حيرة ، كما عاناها سيدنا العباس في وسط المعركة . حيث كانت امنيته الوحيدة ايصال الماء إلى المخيم ، حيث يتلظى الأطفال عطشا . لقد كانت القربة التي حملها ببقايا يديه النازفتين ، كانت أغلى عنده من حياته . وكان عشرات المئات من الرماة يمطروه بوابل من السهام ، فاختار العباس طريقا قريبا إلى المخيم بين النخيل ، لعله ينجو من الأعداء بالقربة . ولكن الخيبة الكبرى كانت عندما وجد العباس سهما يخترق القربة ، ويسيل ماءها ، هنالك سالت نفسه مع ذلك الماء فوقف وسط المعركة فلا يدين يذب بهما عن امام زمانه الحسين ـ عليه السلام ـ ، ولا أمل له في الحياة . فوقف آيسا من الحياة عازما على الموت .
بلى .. لعل تلك اللحظة التي عاشها أبو الفضل بكل صبر ويقين كانت عظيمة عند الله فعوضه الله عنها بأن جعله بابا للحوائج أوليس قد خابت حاجته في الدنيا .
بلى .. كذلك كان أبو الفضل ، وكذلك يعطي الله سبحانه عباده الصالحين الذين يخلصون العمل له ، يعطي لهم أجرا جزيلا وفضلا كبيرا ، وقد قال تعالى :
﴿ … إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 2 .
وقال سبحانه :
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ 3 .
فاذا اخلد الله ذكر الانبياء ، وجعل السلام عليهم في العالمين ، لانهم كانوا محسنين ، ولانه لا يضيع أجر المحسنين فلم تستغرب اذا أكرم أبا الفضل العباس على موقفه العظيم .
عندما جعل أمنيته سقاية أهل بيت الرسالة ، ولم يبال بقطع يمينه في سبيل الله ، بل قال وبكل صراحه :
و الله إن قطـعتم يميـني *** إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمـام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الأمين
ثم قطعت شماله فلم يبال ، بل انشد يقول :
يا نفس لا تخشى من الكفار *** وابشري بـرحمة الجبار
مـع النبي السيـد المختار *** قد قطعوا ببغيهم يساري
فأصلهم يا رب حر النار
لقد اختصر ذلك الموقف حياة أبي الفضل ، واظهرت شخصيته الرائعة التي كانت نتيجة جملة عوامل تكاملت وتسامت .
ماذا كانت تلك العوامل ؟ وكيف صاغت شخصية أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ ؟ وكيف نقتبس منها لحياتنا لكي نتجاوز ذواتنا المحدودة ؟ ونحلق في آفاق سامية من المثل العليا ؟
نجيب عن هذه الاسئلة انشاء الله في الفصل التالي .

النشأة الهادفة

الربانيون من عباد الله يتميزون بأنهم لا يمارسون نشاطا ، إلا ابتغاء مرضاة ربهم . قال الله سبحانه :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ 4 حركات عباد الله الربانيين تتجه إلى قبلة واحدة ، هي رضوان الرب ، وهكذا تجدهم إذا تزوجوا او ابتغوا ذرية فلغاية ربانية . فمثلا أمرأة عمران تنذر ما في بطنها محررا لله سبحانه ، فيتقبل الله سبحانه مريم بقبول حسن ، وينبتها نباتا حسنا ، ويكفلها زكريا .
وكانت تلك الدعوة ذات أثر بالغ على مستقبل جنينها ، فاذا بها تلد مريم ، التي جعلها الله تعالى وابنها المسيح ـ عليه السلام ـ آية للعالمين .
وكان الهدف الأسمى للإمام علي ـ عليه السلام ـ من زواجه من فاطمة بنت حزام الكلابية ـ أم العباس ـ ان يرزقه الله منها ولدا ينصر نجله الحسين ـ عليه السلام ـ في كربلاء .
تقول الرواية التأريخية ؛ لقد قال الإمام أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ لأخيه عقيل ـ وكان عالما بالأنساب ـ : ” انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارسا ” .
فقال له : تزوج بأم البنين الكلابية ، فانه ليس في العرب أشجع من آبائها 5 . واضافت رواية اخرى بعد قوله ؛ فتلد غلاما فارسا ، هذه الكلمة : ” ينصر الحسين بطف كربلاء ” 6 . لقد رسم الإمام صورة واضحة لهدفه من الزواج حتى قبل انتخاب الزوجة ، وهكذا رزقه الله سبحانه ذلك البطل الوفي المواسي لأخيه ، والناصح لامام زمانه .
اما فاطمة الكلابية فقد كانت مثلا رائعا في المثل الاخلاقية ، فعندما دخل بها الإمام علي ـ عليه السلام ـ سألها حاجتها ، حسب عادة الزيجات يومئذ ، طلبت حاجة وحيده ـ حسب رواية تاريخية ـ بألا يناديها باسمها فاطمة !
لماذا وقد سمتك أمك فاطمة ؟!
قالت بلى .. أخشى انه كلما تناديني بهذا الاسم ( فاطمة ) ان يتذكر اولاد فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ أمهم فتتجدد احزانهم . فكناها الإمام بأم البنين .
ثم بعد عشرات السنين وبعد واقعة كربلاء تقول الرواية التاريخية حينما قدم الإمام زين العابدين ـ عليه السلام ـ وسائر الاسارى إلى المدينة المنورة ، أمر بشرا وكان شاعرا ان يتقدم الركب وينعى الحسين ـ عليه السلام ـ لأهل المدينة فاستقبلته أم البنين وأخذت تسأله عن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ .
اما بشر فقال لها : يا أم البنين ؛ آجرك الله في ولدك عبد الله .
قالت : اخبرني عن الحسين ؟
فقال بشر : آجرك الله في ولدك جعفر .
قالت أم البنين : اخبرني عن الحسين يا بشر ؟
قال بشر : آجرك الله في ولدك عثمان .
عادت أم البنين تسأل بشرا : اخبرني عن الحسين يا بشر ؟
فقال بشر : آجرك الله في ولدك العباس ..
وبالرغم من الحب العظيم الذي كانت تكنه أم البنين لولدها البكر أبي الفضل العباس ، فان بشرا عندما أخبرها عن مقتل العبــاس عادت وسألت عن الحسين ، وهي تقول اخبرني يا بشر عن سيدي ومولاي الحسين . فلما قال بشر آجرك الله يا فاطمة في الحسين ، هنالك انهارت ولطمت وجهها وصاحت وا ويلاه وا حسيناه .
ان هذه المرأة كانت تحب ابناءها أشد الحب كأي امرأة مؤمنة ، ولكنها كانت أشد حبا لله ولامامها الحسين ـ عليه السلام ـ وهكذا تفتديه باولادها . هذه الأم وذلك الأب ربيا معا العباس منذ نعومة اظفاره ، وذلك لتحقيق تلك المسؤولية ، ألا وهي الدفاع عن الحسين ـ عليه السلام ـ .
واذا كانت واقعة الطف مقدرة معروفة في بيت الرسالة ، فلابد ان تكون أم البنين ممن تعرف عنها شيئا . فتعرف ـ مثلا ـ ان العباس سيكون نصير الحسين الأول ، ولابد ان ارهاصات كانت تبدر في الافق تدلها على ذلك ، وهي تلك المرأة الحكيمة الشجاعة فتعد أبناءها لها .
من ذلك ـ مثلا ـ ما ذكره البعض من ان أم البنين رأت أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في بعض الايام قد أجلس أبا الفضل ـ عليه السلام ـ في حجره ، وشمر عن ساعديه ، وقبلها وبكى ، فتعجبت وسألت زوجها الإمام عن سبب بكاءه ؟ فأخبرها بإن هاتين اليدين سوف تقطعان فيسبيل الحسين ـ عليه السلام ـ فبكت ثم بشرها بمقام ولدها عند الله ، وان الله سوف يعوضه عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة ـ كما فعل بعمه جعفر الطيار ـ ، فاطمأنت نفسها 7 .
وقد ذكر البعض صورا شتى لمدى تعلق العباس بالحسين ـ عليه السلام ـ ، وانه منذ الطفولة كان سريع الاستجابة لطلبات أخيه . فإذا أبدى الحسين ـ عليه السلام ـ العطش ، انطلق العباس يسرع إلى كأس ماء ويأتي به ويقدمه اليه . وفي طول حياته لم يخاطب أخاه بالأخوة .
لماذا ؟ أوليس العباس ابن أمير المؤمنين وهو الشجاع البطل ، فلماذا لا يخاطب أخاه بكلمة يا أخي ؟
ان العباس ليعلم ان الحسين ابن بنت رسول الله ، ابن فاطمة وما أدراك ما فاطمة ، وانه حجة الله عليه وعلى العالمين ، وانه سبط الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة . فلذلك لم يكن يخاطبه إلا باحترام بالغ ؛ يقول مثلا يا ابن رسول الله ، يا سيدي ، يا مولاي ..
بلـى .. انه نادى أخاه بالاخوة مرة واحدة ، وذلك حينما ضربه ذلك اللعين على أم رأسه ، فخر من الجواد على الأرض فنادى : ” يا أخاه أدرك أخاك ” .

لماذا ناداه في تلك اللحظة بهذه الكلمة ؟

لعله كان يحقق رغبة كامنة في نفسه ، ان يدعو أخاه ـ ولو مرة واحدة ـ في العمر بتعبير يا اخي . أوليس ذلك فخر عظيم للعباس ان يكون له أخ مثل الحسين ـ عليه السلام ـ . فاذا كان الحياء قد منعه من ذلك من قبل ، او منعه احترامه لأخيه ، فالآن حيث حان ميعاد الفراق لا بأس ان يناديه بذلك .
وكما كان العباس يحترم الإمام الحسين ، فان الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ كان شديد الحب والاحترام لأخيه . ففي عشية اليوم التاسع من محرم عام 61 هـ عندما زحف عسكر بني أمية على مخيم أهل البيت ـ عليهم السلام ـ خاطب سيد الشهداء أخاه العباس بهذه الكلمات :
” اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم وتسألهم كما جاءهم ” .
انظر إلى التعبير ” بنفسي أنت ” انها كلمة كبيرة تصدر من امام معصوم .
وهكذا استقبلهم العباس في عشرين فارسا فيهم حبيب وزهير و…. وسألهم عن ذلك ، فقالوا : ان الأمير يأمر اما النزول على حكمه او المنازلة .. فأخبر ( العباس ) الحسين ، فأرجعه يرجئهم إلى غد 8 .

نافذ البصيرة

مما تميز به أبو الفضل العباس ـ عليه السلام ـ العلم حتى جاء في حديث شريف : ” قد زق العلم زقا ” 9 . وعلمه كان نابعا من البصيرة واليقين .
ان بصيرته جعلته يتمسك بعروة الولاية الالهية ، وان صلابة ايمانه وصدق يقينه جعلاه لا يأبه بالحياة ، فحينما جاء اليه شمر ابن ذي الجوشن في اليوم التاسع من شهر محرم في تلك السنة بأمان من عند ابن زياد ، واراد ان يفرق بينه وبين أخيه . وكانت بين شمر وبين أبي الفضل العباس علاقة الخوئلة ، لان أم البنين كانت من تلك القبيلة التي ينتمي اليها الشمر ابن ذي الجوشن ، فجاء شمر حاملا الأمان ودعى أبا الفضل واخوته قائلا : أين بنوا أختنا ؟ سكت اخوة العباس احتراما لاخيهم الأكبر ، وسكت العباس احتراما لإمامه ، وحجة الله عليهم الحسين ـ عليه السلام ـ ، وكرر شمر النداء وبقي أبو الفضل ساكتا لا يجيبه ، فقال الحسين ـ عليه السلام ـ لهم : ” اجيبوه ولو كان فاسقا ” .
قالوا ( لشمر ) : ما شأنك وما تريد ؟
قال : يا بني اختي انتم آمنون ، لا تقتلوا انفسكم مع الحسين ، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد .
فقال له العباس : لعنك الله ، ولعن أمانك . تؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، وتأمرنا ان ندخل في طاعة اللعناء واولاد اللعناء ؟ 10
فرجع الشمر مغضبا .
انظروا إلى يقين العباس ، ذلك اليقين الذي وصفه به الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ حيث قال : ” كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الايمان ، جاهد مع أبي عبد الله ، وأبلى بلاءا حسنا ، ومضى شهيدا ” 11 . فالعباس ـ عليه السلام ـ كان يعرف ان الزمن يطوى بسرعة ، وان الحياة لا تبقى لاحد ، وان الابدان قد خلقت للموت ، فلم البخل بها عن الشهادة وهي ارفع وسام ، وقد قال الحسين ـ عليه السلام ـ :
وان تكن الابدان للموت انشأت *** فقتل امرء بالسيف في الله أفضل
وهكذا حينما دخل المشرعة ، واغترف الغرفة من الماء كانت كلمته رائعة حينما قال ـ عليه السلام ـ :
والله ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين
لقد كان اعزم ما في العباس ـ عليه السلام ـ يقينه ، وهذا ما نقرأه في زيارته التي سوف نستعرضها في فصل قادم انشاء الله ، لقد انفتحت بصيرة العباس منذ سن مبكر على حقيقة التوحيد ، ولذلك تجده عندما يجلسه والده سيد العارفين أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في حجره المبارك وهو صبي فيقول له : قل واحد ، فيقول واحد .
فقال له : قل اثنين ، فيمتنع قائلا : اني استحي ان اقول اثنين بلسان قلت به واحدا 12 .
بلى .. ان قلبه الذي وعى وحدانية الرب ، كيف يسمح له بأن يقول اثنين ؟
وكما يقين أبي الفضل ، كذلك تسليمه لله كان في القمة ، بلى ان صفة التسليم ناشئة حقيقة اليقين . وسوف نعود إلى نصوص زيارته ، وترى كيف تؤكد على صفة التسليم ، واي تسليم أعظم من الطاعة التامة لامام زمانه ، والصبر معه حتى الشهادة .
وكان من صفاته عليه السلام البطولة النادرة ، وانما حمل لواء الحسين ـ عليه السلام ـ لشجاعته النادرة ، وبطولته العظيمة .
قال بعض الرواة ان العباس ـ عليه السلام ـ شارك في حرب صفين مشاركة فعالة ، وقالوا : خرج من جيش أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ شاب على وجهه نقاب تعلوه الهيبة ، و تظهر عليه الشجاعة يقدر عمره بـ ” 17 ” سنة ، فطلب المبارزة فهابه الناس ، وندب معاوية اليه أبا الشعثاء فقال : ان أهل الشام يعدونني بألف فارس ولكن ارسل اليه احد اولادي ، وكانوا سبعة . وكلما خرج احد منهم قتله حتى أتى عليهم . فساء ذلك أبا الشعثاء واغضبه ، ولما برز اليه ألحقه بهم ، فهابه الجميع ، ولم يجرأ أحد على مبارزته ، وتعجب أصحاب أمير المؤمنين من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميين ، ولم يعرفوه لمكان نقابه . ولما رجع إلى مقره دعاه أمير المؤمنين و ازال النقاب عنه ، فاذا هو العباس ـ عليه السلام ـ 13 .
والبطولة لا تعني مجرد منازلة الاقران ، بل جملة صفات انسانية سامية كالشهامة والاباء والتضحية والوفاء والمواساة . وهكذا كان العباس ـ عليه السلام ـ ؛ انظروا كيف حارب ، وكيف استشهد .
لقد استشهد العباس وهو يطلب الماء للعطاشى ، وكان اهتمامه بالماء اكثر من اهتمامه بنفسه ، فلم تكن غايته كشف العدو عن نفسه بقدر ما كانت غايته الاحتفاظ بالسقاء سالما ، لايصاله إلى حيث العطاشى من أهل بيت الرسالة .
هذا هو الذي يجعلنا نقف اجلالا لبطولته النادرة ، بينما اعداؤه حاربوه بالغدر . لقد كانوا أجبن من مواجهته ، حيث رشقوه بالسهام ، ثم كمن له احدهم من وراء نخلة واغتال يده . كانت الضربة مجرد فتك ، وهكذا تتجلى شجاعة سيدنا العباس ـ عليه السلام ـ كما يتبين مدى جبن الطرف الآخر ، وهو لم يزل يسعى لايصال الماء إلى المخيم . هذه هي الشجاعة النادرة التي يقف التاريخ اجلالا لها .
اما وفاؤه فهو الآخر في القمة ، حيث استقام في الدفاع عن حجة الله حتى أخر لحظة ، وقيل انه حينما حضر الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ عنده كان به رمق ، انتبه العباس ـ عليه السلام ـ ، وقال : ” يا هذا إذا اردت ان تقطع رأسي فاصبر حتى يأتي أخي ، والقي عليه نظرة أخيرة ” .
فقال له الحسين ـ عليه السلام ـ : ” هذا أنا أخوك ” ، ووضع رأس العباس في حجره .
فتقول هذه الرواية بأن أبا الفضل رفع رأسه ووضعه على التراب ، فقال له أبو عبد الله الحسين ـ عليه السلام ـ : لم تفعل ذلك يا أخي ؟
فقال وهو يلفظ انفاسه الأخيرة : يا أخي ؛ أنت تضع رأسي الآن في حجرك ، فمن يضع رأسك في حجره بعد ساعة ؟
وسواءا صحت هذه الرواية ام لا ، فان مجمل سلوك العباس ـ عليه السلام ـ تجاه أخيه يدل على هذا النوع من التعامل .
هكذا واسى أخاه في لحظة الوفاة ، كما واساه في رمي الماء على الماء وهو يتلظى عطشا مواساة لأخيه وأهل بيته الطاهرين .

النصوص تشيد بالعباس

قال الإمام السجاد علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ في حق عمه العباس : ” رحم الله عمي العباس بن علي ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قطعت يداه فأبدله الله بجناحين ليطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن ابي طالب ، وان للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة ” 14 .
وهكذا بينت الرواية الشريفة ، صفة المواساة والإيثار عند أبي الفضل ـ عليه السلام ـ ، وصفة التضحية والفداء ، كما بينت جزاء الله سبحانه له مما يجعل سائر الشهداء ومنهم حمزة وجعفر و .. و .. يغبطونه على عظيم منزلته عند الله .
وهذا النص عظيم الدلالة على فضائل العباس ـ عليه السلام ـ ، إلا ان أهم النصوص التي وردت فيه هي الزيارات التي توارثها الموالون لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ عبر التاريخ حتى وصلت الينا ، والتي عبرت عن مدى تقدير الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ للعباس .
وقد روى أبو حمزة الثمالي عن الصادق ـ عليه السلام ـ .
ونحن نتأمل معا في فقرات هذه الزيارات ، لعلنا نعرف شيئا عن شخصية العباس ـ عليه السلام ـ فنقتدي به .
تقرأ في زيارة أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ اول ما ندخل في رحاب ضريحه : ” سلام الله ، وسلام ملائكته المقربين ، وانبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصديقين ، والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين ” .
ان نهج العباس ـ عليه السلام ـ كان نهج الانبياء والصديقين والصالحين عبر التاريخ ، بل جاء العباس ـ عليه السلام ـ كما جاءت ملحمة الشهادة في كربلاء لترسيخ اصول هذا النهج الالهي ، فاستحق سلام الانبياء والربانيين جميعا ..
فبالشهادة ، وبتلك الدماء الزاكيات .. حفظ الله سبحانه مواريث الانبياء من الضياع في زحمة أساطير الطغاة ، وهكذا كان الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ وريث الانبياء جميعا .
وعلينا ان نعي أبدا هذه الحقيقة ؛ ان الايمان لا يتجزأ . فلا يمكن ان يؤمن أحد بنبي دون آخر ، او بوصي دون الثاني ، او يفرق بين أحد منهم .
كلا .. إنه نهج واحد لا يختلف ، ولا يشذ بعضه عن بعض في شيء . وهكذا سلام الارواح الزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح على العباس ، كما سلام الانبياء والملائكة والصالحين .
بعد هذا السلام الطاهر الطيب تقول الزيارة : ” أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء ” . انها كلمات تعبر عن الصفات المثلى لأبي الفضل ؛ التسليم وهي قمة الصفات . فالتسليم مثلا اعظم درجة ينالها البشر في مدارج الايمان ، حيث نتلو في القرآن الكريم ان النبــي إبراهيم ـ عليه السلام ـ سأل ربه في أواخر ايام حياته ان يجعله الله وابنه اسماعيل من المسلمين ، حيث قال : ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ 15 . ولقد بلغ العباس ـ عليه السلام ـ درجة التسليم ، ونحن نشهد له بذلك . اما التصديق والوفاء فهما تجليات التسليم في حياته ، فمن سلم لله تعالى لابد ان يصدق بولي الله ، وان يدافع عنه ويصبر ويفي بعهده معه .
بلى .. كان تصديق سيدنا العباس ـ عليه السلام ـ بأخيه اماما وحجة ، والشهادة على ذلك باتباعه وطاعته والاخلاص له . كان ذلك دليلا على تسليمه القلبي ، وايمانه الصادق ، ويقينه .
وهذه هي الصفة التي تقل عند الكثير ممن يدعي الايمان ، ولكنه لا يصدق بالولاية ، ولا يستقيم عليها عند الشدائد .
ثم تقول الزيارة : ” والنصيحة لخلف النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ، والوصي المبلغ ، والمظلوم المهتضم ” .
كان أبو الفضل ناصحا لإمام زمانه حين اتبع امام زمانه ، واخلص له ، ومحض له الولاء والحب والتضيحة ولم يأل جهدا في تنفيذ أوامر امامه المعصوم .

والزيارة تنعت الإمام الذي اتبعه سيدنا العباس بالنعوت التالية:

ألف : انه ذرية رسول الله ، وانه سبط الذي اختاره الله للامامة . وهذا صادق فقط في الإمام المعصوم ، وعلينا الاقتداء بالعباس في التسليم للامام الحسين ـ عليه السلام ـ .
باء : انه دليل عالم بالحق ، وهي صفة تشمل كل امام معصوم ، بل كل امام عادل منصوب من قبل الإمام المعصوم كما الفقهاء العدول .
جيم : انه وصي ناطق بالحق ، مبلغ له ، وهذه صفة تشمل سائر الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ .
دال : انه مظلوم مغتصب حقه .
فلم يكن اتباع العباس للامام الحسين ـ عليه السلام ـ نابعا عن قيام الإمام بالسيف ، أو أنه كان مبسوط اليد . إذ السلطة ليست معيارا للامامة ، بل القيم الالهية هي المعيار ، وهي التي سبقت آنفا من الوصية والعلم والدعوة .
ثم تقول الزيارة : ” فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت واعنت ” .
لقد صبر وصبره كان احتسابا لله ؛ وتقربا اليه ، وهو الصبر المطلوب . كما اتعب نفسه في طاعة الله .
انه درس عظيم لنا جميعا ، كيف نجاهد في سبيل الله ، ونصبر على كل أذى ، من كلمة نابية ، تقذفها ألسنة الاعداء البذيئة ، ومن ملاحقة دائمة من قبل السلطات الجائرة ، ومن جروح دامية وبالتالي الشهادة .. كلها تهون عندما تكون في سبيل الله وابتغاء مرضاته واحتسابا لديه .
ثم تضيف الزيارة : ” لعن الله من قتلك ، ولعن الله من جهل حقك ، واستخف بحرمتك ” .
بلى .. كان حق العباس ـ عليه السلام ـ عظيما ، حتى استحق جاهلوه ومنكروه اللعنة ؛ وكانت حرمته عظيمة ، استحق اللعنة اولئك الذين انتهكوها ، وقد تمثل جهلهم وانتهاكهم لحقه وحرمته في منعه من الفرات ، حيث تقول الزيارة : ” ولعن الله من حال بينك وبين ماء الفرات . أشهد انك قتلت مظلوما ، وان الله منجز لكم ما وعدكم ” .
والشهادة بأن أبا الفضل قتل مظلوما ، شهادة على ان مسيرة أبي الفضل كانت مسيرة حق ؛ وان كل من قتل مظلوما وفي سبيل الدفاع عن الحق ، فان الله منجز له ما وعده من نصره في الدنيا ببلاغ التاريخ انه كان مظلوما ، وفي الآخرة بالجنة خالدا فيها .
وبعد بينت الزيارة المأثورة مقام سيدنا العباس ـ عليه السلام ـ ومنهجه الالهي ، أخذت تبين موقف المؤمن ما ينبغي ان يكون عليه موقف الموالي الواقف امام ضريحه ، تلقاء سيده ومولاه العباس ـ عليه السلام ـ ، فتقول الزيارة : ” جئتك يا ابن أمير المؤمنين وافدا اليكم ، وقلبي مسلم لكم وتابع ، وانا لكم تابع ، ونصرتي لكم معدة ، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . فمعكم معكم ، لا مع عدوكم . اني بكم وبايابكم من المؤمنين ، وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين . قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن ” .
هكذا يجب ان نجدد ـ نحن الموالين ـ عهد الولاء والبيعة لخط أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، ولنهجهم في الحياة . ونعلن بصراحة بأننا مستعدون لان نضحي بانفسنا في أية لحظة من أجل تطبيق احكام الدين ، أما الواجبات المفروضة علينا ، والتي تشكل ميثاق الولاء ، وعهد البيعة فهي التالية :
الف : الولاء والتسليم ؛ اي الطاعة التامة دون تردد لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ ولخطهم الرسالي .
باء : والاستعداد للدفاع عن حرمات الاسلام بالمال والنفس ، وبكل وسيلة ممكنة .
جيم : الاستقامة على نهجهم ، والبراءة من نهج اعدائهم .
دال : الثقة بانتصار الحق المتمثل في الأئمة عاجلا أم آجلا .
وهذا هو ما نجده في هذه الزيارة ، كما نقرءه في سائر الزيارات المأثورة عند أضرحة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ .
ثم تستمر الزيارة بالقول : ” السلام عليك ايها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين صلى الله عليهم وسلم . السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، ومغفرته ورضوانه ، وعلى روحك وبدنك . أشهد وأشهد الله أنك مضيت على ما مضى به البدريون ، والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون في جهاد اعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابون عن أحبائه ” .
وهذه شهادة حق تنبعث من فم الإمام المعصوم ؛ الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ، على ان طريق العباس ـ عليه السلام ـ كان طريق أهل بدر ، ومن هم البدريون ؟
انهم الذين ساهموا في ترسيخ دعائم الرسالة الالهية ، واستبسلوا في الدفاع عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وهم قلة قليلة و واجهوا عدوا يفوقهم عددا وعدة . وكذلك العباس ـ عليه السلام ـ وانصار الحسين ـ عليه السلام ـ ساهموا في ترسيخ اصول الحق في مواجهة الردة التحريفية لبني أمية ، وواجهوا الأعداء الشرسين ، وقاتلوا حتى قتلوا ، وكان التقدير الالهي ان يجعل من شهادتهم نصرا لرسالتهم ، ومن دمائهم شهادة على صدقهم .
وكانت المواجهة بحاجة إلى أسمى درجات النصيحة والصبر ، والمبالغة في الدفاع عن الحق ، والذب عن أحباء الله . وهكذا كانت أعظم معركة ، وأسمى ملحمة ، وأعلى درجات الشهادة .
وبعد هذه الشهادة الرائعة نقرأ قول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في زيارة عمه العباس ـ عليه السلام ـ : ” فجزاك الله أفضل الجزاء ، وأكثر الجزاء ، وأوفر الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفى ببيعته ، واستجاب له دعوته ، واطاع ولاة أمره “وهنا نجد مرة اخرة التأكيد على صفة التسليم ، والطاعة لولي الأمر .
وتقول الزيارة : ” أشهد أنك قد بالغت في النصحية ، وأعطيت غاية المجهود “وهذه دلالة أخرى على المقام الأسمى لأبي الفضل العباس ، حيث قدم غاية المجهود ، وبالغ في النصيحة حتى المنتهى .
ثم تقول الزيارة : ” فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك من جناته أفسحها منزلا ، وأفضلها غرفا ، ورفع ذكرك في عليين ، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ” .
وهكذا ترسم الزيارة منهج المجاهدين ، وان هدفهم ليس بلوغ السلطة ، ولا الحصول على مقام رفيع ؛ وانما هدفهم الأسمى ان ينعموا بالجنة ، وانما يتنافسون بينهم للحصول على أعلى درجات الجنة وأسماها .
ثم نقرء في بقية الزيارة : ” أشهد أنك لم تهن ولم تنكل ، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك ” .
وهنا تأكيد على صفة البصيرة التي كانت لأبي الفضل العباس ، وهي صفة تتصل باليقين . والشهادة بالاستقامة التامة للعباس ـ عليه السلام ـ درس لنا بأن نقتدي به في ذلك ، كما انه اقتدى بمن سبقه ، حيث تضيف الزيارة : ” مقتديا بالصالحين ، ومتبعا للنبيين . فجمع الله بيننا وبينك وبين رسوله واوليائه في منازل المخبتين ، فإنه ارحم الراحمين ” .
ونعلم ان المخبتين لهم المنزلة السامية ، والدرجة الرفيعة . وحينما يدعو الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في زيارته لعمه ان يرزقه الله منازل المخبتين ، فإن ذلك يعني دعوة تتناسب مع مقام أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ . ذلك المقام الأسمى ، وهو مقام الاخبات .
ويبدو ان الاخبات من درجات الايمان والتسليم العالية ، حيث قال سبحانه :
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ … ﴾ 16 وقال سبحانه :
﴿ … فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ 17 وهكذا جاءت صفة الاخبات بعد صفة الايمان وصفة التسليم .
وفي الجانب الآخر من هذه الزيارة نقرأ : ” السلام عليك يا أبا الفضل العباس ابن أمير المؤمنين ، السلام عليك يابن سيد الوصيين ، السلام عليك يابن أول القوم اسلاما واقدمهم ايمانا واقومهم بدين الله ” .
وهنا ذكر لمقام أبي الفضل من ناحية وراثته لصفات والده . فإذا سمى أبو الفضل إلى ذروة التسليم والنصيحة والجهاد والدفاع عن أخيه الحسين ـ عليه السلام ـ وعن الاسلام ، فلا غرو فإنه ابن أول القوم اسلاما واقدمهم ايمانا واقومهم بدين الله واحوطهم على الاسلام. فمن ذلك الأسد هذا الشبل وان ذلك الاب يكون والد حق لمثل هذا النجل العظيم .
ثم يمضي الإمام في زيارته لأبي الفضل العباس قائلا : ” أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك ، فنعم الاخ المواسى . فلعن الله أمة قتلتك ، ولعن الله أمة ظلمتك ، ولعن الله أمة استحلت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الاسلام ” .
اترى كيف ، والى أي مدى بلغ مقام أبي الفضل ، حيث ان انتهاك حرمته كان انتهاكا لحرمة الاسلام ؟
” فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر ، والاخ الدافع عن اخيه المجيب إلى طاعة ربه الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل ” .
لقد كان أبو الفضل هو الصابر المجاهد والمحامي الناصر ، والمدافع عن أخيه ، ولكن ليس دفاعا عن عصبيته ، وانما استجابة لدعوة ربه ، ورغبة في ثواب ربه . وكل هذه الصفات التي تذكر في الزيارة هي القيم المثلى التي ينبغي للمؤمن بنهج أهل البيت ـ عليهم السلام ـأن يقتدي بالعباس فيها .
ثم تستمر الزيارة : ” وألحقك الله في درجة آبائك في جنات النعيم ” .
ثم يدعو المؤمن ربه بالكلمات التالية : ” اللهم اني تعرضت لزيارة أوليائك رغبة في ثوابك ، ورجاء لمغفرتك ، وجزيل احسانك ؛ فأسألك ان تصلي على محمد وآله الطاهرين ، وان يجعل رزقي بهم دارا ، وعيشي بهم قارا ، وزيارتي بهم مقبولة ، وحياتي بهم طيبة ، وأدرجني ادراج المكرمين ، واجعلني ممن ينقلب من زيارة مشاهد احبائك مفلحا منجحا قد استوجب غفران الذنوب ، وستر العيوب ، وكشف الكروب ، انك أهل التقوى وأهل المغفرة ” .

الرسالة بين الإمام والنصير

دور الشخص الثاني في مسيرة الدفاع عن الرسالة دور هام وجدي ، ألا ترى كيف ان الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان دوره العظيم في الدفاع عن الاسلام ، وعن القرآن ، وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ دورا اساسيا ؟ وكذلك كان دور أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ بالنسبة إلى أخيه الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ ، وكما كان دور مالك الاشتر للدفاع عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، وفيما يتصل في حياة الانبياء كان هكذا دور هارون بالنسبة إلى موسى ابن عمران ـ عليهما السلام ـ .
ان الشخص الثاني في مسيرة الرسالة حينما يذوب وينصهر في شخصية القائد الاول ويدافع عنه ، ويبالغ في احترامه ، ونصرته والنصيحة له ، يضرب المثل الصالح للآخرين ، ولما يجب ان يكونوا عليه تجاه القائد . فلقد ضرب الإمام علي ـ عليه السلام ـ أروع الأمثلة للمنهج الذي كان ينبغي للمسلمين ان يتعاملوا به مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ . وهذا كان أمرا مهما ، لان الناس يمكنهم ان يقتدوا برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في أمور كثيرة ، ما عدا أمر واحد ، وهو كيفية احترام الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ونوعية الدفاع عنه ، ومنهجية التعامل معه . ففيما يتصل بهذا الجانب ، تحتاج الامة إلى قدوة عملية ، وكان الإمام علي ـ عليه السلام ـ هو ذلك القدوة ، حيث علم الناس كيفية التعامل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وكيف ينبغي احترام مقامه ، وكيف ينبغي انه يفديه بنفسه في منامه في فراشه في ليلة الهجرة ، وفي دفاعه عنه في الحروب وكيف كان يذب عنه ، ويقي نفسه بنفسه .. ولولا الإمام علي ـ عليه السلام ـ وهذه المنهجية ، لم يعلم المسلمون كيف يتعاملون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولعلهم كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته ، ويتقدمون عليه ، وربما يخاطبونه كما يخاطب بعضهم بعضا ، وقد مرت عشرات السنين على رحيل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ . وسئل الإمام علي ـ عليه السلام ـ لم لا يختضب ؟ فقال ـ عليه السلام ـ : نحن في عزاء رسول الله .
وقبيل شهادته يسأله اصبغ بن نباته ويقول له : أنت أفضل أم محمد ؟ فيقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ له : انا عبد من عبيد محمد .
لقد كان الإمام علي تجليا لشخصية رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ واخلاقه وعلمه ، وآية لصدق رسالته ، ومبالغا في الدفاع عن رسالته ..
وهكذا كان سيدنا العباس ـ عليه السلام ـ بالنسبة إلى اخيه وامامه وحجة الله عليه والسبط المنتجب الحسين ـ عليه السلام ـ .
كان العباس ـ عليه السلام ـ فقيها من فقهاء أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، وكان القائد الشجاع والكريم المضياف ، والعــابد الزاهد ، وكان بالتالي شخصية متكاملة من جميع الجهات ، ولكنه كان منصهرا في شخصية أخيه الحسين ـ عليه السلام ـ ، ومبالغا في طاعته والنصيحة له ، وهكذا عرف الناس كيف ينبغي ان يتعاملوا مع الإمام ـ عليه السلام ـ .
لقد عرفهم عمليا مقام أبي عبد الله الحسين ـ عليه السلام ـ ، ذلك لان أكثر الناس لا تسمو البصيرة بهم إلى معرفة مقام الأئمة المعصومين ، ومقام ولايتهم . وهكذا نجد النبي موسى ـ عليه السلام ـ يدعو ربه ان يجعل له وزيرا من أهله حيث يذكر لنا القرآن ذلك بالقول :
﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ 18 وهكذا علينا ان نفقه مقام الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ ، ومن نصبهم الأئمة من العلماء الربانيين ، نفقه مقامهم ، ومنهج التعامل معهم من خلال معرفة سيرة أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ والتي نعرفها من خلال زيارته التي تلوناها آنفا . ذلك لانه لا يسمو كل الناس إلى مستوى القيادة ، ولكن كل الناس يتعاملون مع القيادة ؛ وأبو الفضل العباس ـ عليه السلام ـ يعطيك المنهج الأمثل في الدفاع عن الدين ، وعن أهل بيت الرسالة ، وعن القيادات الشرعية التي فرض عليك طاعتهم واتباعهم والدفاع عنهم . وهذا درس عظيم نتعلمه من أبي الفضل ، وانه لدرس هام لانه يساهم في بناء التجمع الرسالي ، والبنيان التوحيدي بناءا رصينا قويا قادرا على تحدي اعاصير الفتنة ، وعواصف الشهوات .
فسلام الله عليك يا أبا الفضل العباس يوم ولدت للدفاع عن الحسين ويوم استشهدت في سبيل الإسلام تحت راية الحسين ، وحين تبعث حيا مع الحسين سلام الله عليكما ورحمته وبركاته .

الوداع

حينما انطلق أبو الفضل العباس ـ عليه السلام ـ كالسهم إلى المشرعة ، يحمل السقاء والسيف واللواء ، وقف الحسين ـ عليه السلام ـ على مقربة من المخيم يستشرف المعركة ، ولعل بعض النسوة من أهل البيت كن يرمقن وجه الحسين ـ عليه السلام ـ ، لان في وجهه كانت ترتسم صورة تلك المعركة الفاصلة .
يقتحم العباس المشرعة ، يفر المدافعون عنها فرار المعزى عن الأسد الهصور ، يحمل الماء ويأتي به . ولعل هذه الصور المشرقة كانت ترتسم في ملامح سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ فتزداد اشراقا وانشراحا ..
ولكن العباس ـ عليه السلام ـ يختار طريقا قريبا إلى المخيم ، وهو طريق النخيل . فيكمن له الاعداء بينها ، وينادي عمر بن سعد بجنده البالغ عددهم ثلاثين ألفا ؛ لا تدعو العباس يصل إلى أصحاب الحسين ، فإنهم لو شربوا الماء لم ينج احد منكم من المقتل .
وهكذا تتعبأ كل القوات ضد البطل ؛ أربعة آلاف من الرماة يوجهون نبالهم على العباس .. وينتشر سائر المقاتلين بين النخيل ليحولوا بين العباس وبين المخيم . فيكمن بعضهم له بين النخيل ، ويقطعون يمينه ثم يساره ، ولكن العباس ينطلق كالسهم إلى المخيم لعله ينجح في مهمته التي أمره بها الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ .
كانت لحظات حاسمة ، وكانت السهام تتقاطر عليه كوابل من المطر ، وكان العباس ـ عليه السلام ـ يرتجز ويقول :
لا أرهب المـوت اذا الموت رقا *** حتى أوارى في المصاليت لقى
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا *** اني أنـا العباس اغدو بالسقا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى 19
فجاء سهم فأصاب القربة واريق ماؤها ، ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين : أدركني .
فلما رأه صريعا بكى . وقال : ” الان انكسر ظهري وقلت حيلتي ” .
وقالت رواية : ضربه ملعون بعمود من حديد ، فلما رأه الحسين ـ عليه السلام ـ انشأ يقول :
تعديتم يا شـر قـوم ببغيكـم *** وخالفتم ديـن النبـي محمــد
اما كان خير الرسل اوصاكم بنا *** اما نـحن من نجل النبي المسـدد
اما كانت الزهراء أمي دونـكم *** اما كان من خير البريـة أحمـد
لعنتم وأخزيتـم بمـا قد جنيتـم *** فسوف تلاقوا حر نـار توقـد 20
وعاد الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ إلى المخيم ، وارتسمت على محياه علامات حزينة .
لقد فقد نصيره الأول ، وصاحب لواءه ، والعلامة من عسكره . تقول الرواية انه لم يخبر النسوة بمصرع أخيه العباس وانما تقدم نحو خيمته ، وأنام عمودها وبهذه العلامة عرفت النسوة ان صاحب هذه الخيمة قد استشهد .
وقد أجاد الشاعر حين قال :
عمد الحديد بكربلاء خسف القمر من هاشم فلتبكه عليا مضرفمشى اليه السبط ينعــاه كسر ت الان ظهري يأ أخي ومعيني
فسلام الله عليك يا أبا عبد الله ، وسلام الله على أخيك وناصرك العباس ، وعلى الدماء السائلات بين يديك ورحمة الله وبركاته .

أبو الفضل في أدب الرثاء

ملاحم البطولة عند أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ، أثارت كوامن الحب عند الشعراء ففاضت منها القصائد الرائعة التي لازالت المنابر الحسينية ترددها فترتوي منها القلوب العامرة بحب أهل البيت والظامنة إلى ذكرهم العطر ونحن نختار في نهاية كتابنا بعضا من تلك القصائد التي تنير درب أصحاب البصائر .

والعباس ضاحك مستبشر

عبست وجـــوه القــوم *** والـعـباس فيهم ضاحـك متبسم
قلب اليمين على الشمال وغاص *** في الاوساط يحصد في الرؤوس ويحطم
وثنا أبو الفضل الفوارس نكـصا *** فرأوا أشد ثباتهم ان يهزموا
ما كر ذو بـأس له متقدمــا *** إلا وفر ورأسه المتقدم
صبغ الخــيول بــرمحه حتى *** غدا سيان اشقر لونها والادهم
بطـل تورث عن ابيه شجـاعة *** فيها انوف بني الضلالة ترغم
عرف المواعظ لا تفيد بمعـشر *** صموا عن النبأ العظيم كما عموا
فانصاع يخطب بالجماحم والكلا *** فالسيف ينثر والمثقف ينظم
أوتشتكي العطش الفواطم عنده *** وبصدر صعدته الفرات المفعم
في كفه اليسرى السقاء يقله *** وبكفه اليمنى الحسام المخذم
قسما بصارمه الصقيل وانني *** في غير صاعقة السما لا اقسم
لولا القضا لمحى الوجود بسيفه *** والله يقضي ما يشاء ويحكم
حسمت يديه المرهفات وانه *** وحسامه من حدهن لأحسم
فغدا يهم بان يصول فلم *** يطق كالليث إذ اضفاره تتقلم
وهوى بجنب العلقمي فليته *** للشاربين به يداف العلقم
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه *** بين الخيام وبينه متقسم
ألفاه محجوب الجمال كأنه *** بدر بمنحطم الوشيج ملثم
فأكب منحنيا عليه ودمعه *** صبغ البسيط كأنما هو عندم
قد رام يلثمه فلم ير موضعا *** لم يدمه عض السلاح فيلثم
اليوم بان عن اليمن حسامها *** اليوم آل إلى التفرق جمعنا
اليوم نامت أعين بك لم تنم *** وسهرت اخرى فعز منامها21

أحمى الضائعات

يا ابا الفضل قم ألست الذي *** قد كنت لي مسعدا إذا الدهر نابا
أولست الذي إذا ما مهيب *** هب للحرب لم تكن هيابا
كسر اليوم بافتقادك ظهري *** وقناتي فلت وظني خابايا
بني هاشم وآل نزار بدركم *** قد هوى فقوموا غضابا
فل حدي وثل مجدي فقوموا *** وأزيلوا عن الرؤوس الترابا
وانثنى للخبا محدودب الظهر *** تردى من الأسى جلبابا
فراته مخدرات بني الوحيي *** فشقت من الخدور حجابا
نادبات بالندب اين حمانا *** أين ما كان في الخطوب المآبا
فدعا يا بنات احمد صبرا *** عظم الله أجركم والثوابا
ان دهري علي فوق سهما *** ورمى كف عزمتي فأصابا
فدعت والعيون تذرف دمعا *** يخجل السيل صوبه والسحابا
أحمى الضائعات من لو دعاه *** فوق هام السهى مروع أهابا
اوحش الحرب فقده في نهار *** وبليل قد اوحش المحرابا22

إستجار به الهدى

يا للرجال لحادث متفاقم *** لو حل هابطة لدن شمامها
فانهض إلى الذكر الجميل مشمرا *** فالذكر أبقى ما اقتنته كرامها
أو ما اتاك حديث وقعة كربلا *** انى وقد بلغ السماء قتامها
يوم أبو الفضل استجار به الهدى *** والشمس من كدر العجاج لثامها
فحمى عرينته ودمدم دونها *** ويذب من دون الشرى ضرغامها
والبيض فوق البيض تحسب وقعها *** زجل الرعود اذا اكفهر غمامها
من باسل يلقى الكتيبة باسما *** والشوس يرشح بالمنية هامها
واشم لا يحتل دار هضيمة او *** يستقل على النجوم رغامها
أولم تكن تدري قريش انه *** طلاع كل ثلية مقدامها
بطل أطل على العراق مجليا *** فاعصوصبت فرقا تمور شئامها
وشى الكرام فلا ترى من أمة *** للفخر الا ابن الوصي أمامها
هو ذاك موئل رايها وزعيمها *** لو جل حادثها ولد خصامها
وأشدها باسا وارجحها حجا *** لو ناص موكبها وزاغ قوامها
من مقدم ضرب الجبال بمثلها *** من عزمه فتزلزلت أعلامها
ولكم له من ضربة مضرية قد *** كاد يلحق بالصحاب ضرامها
أغرت به عصب ابن حرب فانثنت *** كامي الجباه مطاشة احلامها
ثم انثنى نحو الفرات ودونه *** حلبات عارية يصل لجامها
فكأنه صقر باعلى جوها *** جلا فحلق ما هناك حمامها
فهنا لكم ملك الشريعة واتكى *** من فوق قائم سيفه قمقامها
فأبت نقيبته الزكية ريها وحشا *** ابن فاطمة يشب ضرامها
حصمت يديه يد القضاء بمبرم *** ويد القضا لم ينتقض أبرامها
واعتاقه شرك الردى دون الورى*** ان المنايا لا تطيش سهامها
الله اكبر أي بدر خر عن *** أفق الهداية واستشاط ظلامها
فمن المعزى السبط سبط محمد *** بفتى له الاشراف طأطأ هامها
واخ كريم لم يخنه بمشهد *** حيث السرات كبابها اقدامها
تالله لا انس ابن فاطم اذ جلا *** عنه العجاجة يكفهر قتامها
ولقي به نحو المخيم حاملا *** من شاهقي علياء عز مرامها
وهوى عليه ما هنالك قائلا *** اليوم بان عن اليمين حسامها
اليوم سار عن الكتائب كبشها *** اليوم بان عن الهداة امامها
اليوم آل إلى التفرق جمعنا *** اليوم حل عن البنود نظامها
اليوم نامت أعين بك لم تنم *** وتسهدت أخرى فعز منامها
أشقيق روحي هل تراك علمت اذا *** غودرت وانثالت عليك لئامها
ان خلت اطبقت السماء على الثرى *** أود كدكت فوق الربى أعلامها
لكن أهان الخطب عندي انني *** بك لاحق أمرا قضى علامها23

كسرت الآن ظهري

هيهات ان تجفو السهاد جفوني *** او ان داعية الأسى تجفوني
أنى ويوم الطف أضرم في الحشا*** جذوات وجد من لضى سجين
يوم أبو الفضل استفزت بأسه *** فتيات فاطم من بني ياسين
في خير انصار براهم ربهم *** للدين أول عالم التكوين
فرقى على نهد الجزارة هيكل *** أنجبن فيه نتائج الميمون
متقلدا عضبا كأن فرنده *** نقش الأراقم في خطوط بطون
حتى إذا قطعوا عليه طريقه *** بسداد جيش بارز وكمين
فثنى مكردسها نواكص وانثنى *** بنفوسها سلبا قرير عيون
ودعته أسرار القضا لشهادة *** رسمت له في لوحها المكنون
حسموا يديه وهامه ضربوه في *** عمد الحديد فخر خير طعين
ومشى اليه السبط ينعاه كسـ *** رت الآن ظهري يا أخي ومعيني
عباس كبش كتيبتي وكنانتي *** وسري قومي بل أعز حصوني
يا ساعدي في كل معترك به *** أسطو وسيف حمايتي بيميني
لمن اللوا أعطي ومن هو جامع *** شملي وفي ضنك الزحام يقيني
أمنازل الأقران حامل رايتي *** ورواق أخ بيتي وباب شؤوني
لك موقف بالطف أنسى أهله *** حرب العراق بملتقى صفين
أو لست تسمع زينب تدعوك من *** لي يا حماي إذا العدى نهروني
أو لست تسمع ما تقول سكينة *** عماه يوم الأسر من يحميني
كان الرجا بك ان تحل وثاقهم *** لي بالحبال المؤلمات متوني
وتجيرني في اليتم من ضيم العدى *** واليوم خابت من رجاك ظنون
يعماه إن أدنو لجسمك أبتغي *** تقبيله بسياطهم ضربون
يعماه ما صبري وأنت مجدل *** عار بلا غسل ولا تكفين
من مبلغ أم البنين رسالة *** عن واله بشجائه مرهون
لا تسأل الركبان عن أبنائها *** في كربلاء وهم أعز بنين
تأتي لأرض الطف تنظر ولدها ثاوين بين مبضع وطعين 2425 .

  • 1. يقول المؤرخون : كان العباس وسيما جميلا ، يركب الفرس المطهم ، ورجلاه يخطان الأرض ، ويقال له قمر بني هاشم ( العباس ـ للاستاذ عبد الرزاق المقرم ـ ص 140 ، عن مقاتل الطالبين ص 33 ) .
  • 2. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 90 ، الصفحة : 246 .
  • 3. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 109 و 110 ، الصفحة : 450 .
  • 4. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 162 ، الصفحة : 150 .
  • 5. عبد الرزاق المقرم ـ في كتابه العباس عن عمدة الطالب وسر السلسلة لأبي النصر ص 357 .
  • 6. المصدر ص 194 عن كتاب : الكبريت الأحمر ج 3 ص 144 ، وكتاب : اسرار الشهادة ص 387 .
  • 7. العباس للمقرم : ص 138 ـ عن كتاب قمر بني هاشم ص 21 .
  • 8. المصدر عن تاريخ الطبري ج 6 ص 237 .
  • 9. المصدر ص 172 عن كتاب : اسرار الشهادة ص 324 . قال : جاء المأثور عن المعصومين عليه السلام ان العباس بن علي زق العلم زقا .
  • 10. المصدر ص 193 عن كتاب : تذكرة الخواص ص 142 ، وكتاب : اعلام الورى ص 120 .
  • 11. المصدر ص 208 .
  • 12. المصدر ص 168 نقلا عن مستدرك الوسائل ج 3 ص 815 .
  • 13. المصدر ص 275 .
  • 14. المصدر ص 223 نقلا عن الخصال ج 1 ص 68 .
  • 15. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 128 ، الصفحة : 20 .
  • 16. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 54 ، الصفحة : 338 .
  • 17. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 34 ، الصفحة : 336 .
  • 18. القران الكريم : سورة طه ( 20 ) ، الآيات : 25 – 32 ، الصفحة : 313 .
  • 19. بحار الانوار ج 45 ص 40 ـ طبعة بيروت .
  • 20. المصدر ص 42 .
  • 21. للشاعر الموالي السيد جعفر الحلي ( رحمه الله ) .
  • 22. للشاعر الموالي الشيخ عبد الحسين شكر ( رحمه الله ) .
  • 23. للشاعر الأديب الشيخ محمد رضا الأزري ( رحمه الله ) وقد أخذنا من القصيدة بعض أبياتها .
  • 24. للشاعر الأديب الشيخ حسن قفطان ( رحمه الله ) .
  • 25. كتاب : العباس نصير الحسين ، للسيد محمد تقي المدرسي .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى