كان الإمام الصادق عليه السلام أفضل الناس وأعلمهم بدين الله ، وكان أهل العلم إذا رووا عنه قالوا : أخبرنا العالم ، واعترف له المنصور بالفضل ورجاحة العلم حيث قال فيه بعد وفاته : إنّ جعفراً كان ممّن قال الله فيه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (۱) وكان ممّن اصطفى الله ، وكان من السابقين بالخيرات (۲).
من هنا كان المنصور يراجعه حيثما يعييه أمر ما ، وكان الإمام عليه السلام يجيبه طالما يتعلّق الأمر بمصالح المسلمين ، فحين أراد المنصور أن يزيد في المسجد الحرام ، وقد شكا الناس ضيقه ، فكتب إلى زياد بن عبيدالله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه ، فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك للإمام الصادق عليه السلام ، فقال : « سلهم ، أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم ؟ فكتب بذلك إلى زياد ، فقال لهم زياد بن عبيدالله ذلك ، فقالوا : نزلنا عليه ، فقال الإمام عليه السلام : فإن للبيت فناءه. فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه » (۳).
ولما جُمع للمنصور القضاة ، قال لهم : « رجل أوصى بجزء من ماله ، فكم الجزء ؟ فأشكل ذلك عليهم ، فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة أن يسأل الصادق عليه السلام فأتى والي المدينة أبا عبدالله عليه السلام ، فقال له : هذا في كتاب الله بيّن ، إن الله تعالى يقول : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) إلى قوله : ( عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) (٤) فكانت الطير أربعة ، والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كلّ عشرة أجزاءٍ جزءاً واحداً » (٥).
ومثل هذه المواقف التي يضطرّ إليها المنصور ، لا تعكس حقيقة دخيلته وما يضمره تجاه الإمام عليه السلام وشيعته ، من حقد وبغض وعداوة ، تجلّت في مراقبته واتّهامه وتهديده له بالقتل تارة وبالحبس أخرى ، وروي أنّه استدعاه مرّات متعدّدة يريد قتله فيصرفه الله عنه في كلّ مرة (٦).
وإذ لم يحتمل المنصور ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادق عليه السلام بين أوساط الناس ، ـ فلم يهدأ خاطره ، ولم يزل يقلب وجوه الرأي ، ويدير الحيل للتخلص منه ، لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علميّة بعيدة المدى ، فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة ـ (۷).
وكان المنصور يتحيّن الفرص ويختلق الذرائع للإيقاع بالإمام عليه السلام ، فاستدعاه إلى العراق بعد وقعة باخمرى ، ليوقفه بين يديه ، ولم تكفه الدماء التي أراقها من آل النبي صلّى الله عليه وآله.
قال عليه السلام : « لما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بباخمرى حُسرنا عن المدينة ، ولم يترك فيها منّا محتلم ، حتّى قدمنا الكوفة ، فمكثنا فيها شهراً نتوقّع فيها القتل ، ثمّ خرج إلينا الربيع الحاجب فقال : أين هؤلاء العلويّة ؟ أدخلوا على أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى. قال : فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد ، فلمّا صرت بين يديه قال لي : أنت الذي تعلم الغيب ؟ قلت : لا يعلم الغيب إلّا الله. قال : أنت الذي يجبى إليك هذا الخراج. قلت : إليك يجبى الخراج. قال : أتدرون لم دعوتكم ؟ قلت : لا. قال : أردت أن أهدم رباعكم ، وأروّع قلوبكم ، وأعقر نخلكم ، وأترككم بالسراة لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق ، فإنّهم لكم مفسدة. فقلت له : إنّ سليمان أُعطي فشكر ، وإن أيّوب ابتُلي فصبر ، وإن يوسف ظُلم فغفر ، وأنت من ذلك النسل. قال : فتبسّم وقال : أعد عليّ ، فأعدت ، فقال : مثلك فليكن زعيم القوم ، وقد عفوت عنكم ، ووهبت لكم جرم أهل البصرة ـ إلى أن قال ـ سرحنا إلى المدينة ، وكفى الله مؤنته » (۸). وذلك أوضح شاهد على الأجواء الخانقة التي عاشها الإمام عليه السلام وعموم أهل بيته وعمومته ، وهو يكشف أيضاً مساحة واسعة من سريرة المنصور تجاه أهل البيت عليهم السلام.
وتلك الأجواء اضطرّت الإمام الصادق عليه السلام إلى أن يتحاشى الصراحة في النصّ على إمامة ولده الكاظم عليه السلام إلّا لخواص أصحابه خوفاً من السلطات الحاكمة التي شددت المراقبة عليه في السنين الأخيرة من حياته المباركة ، وهددت بقتل الإمام الذي ينصّ عليه ، فأوصى الإمام الصادق عليه السلام إلى خمسة أشخاص ـ وروي إلى ثلاثة ـ حذراً على الإمام الذي بعده وعلى شيعته ، وتوفّي الإمام الصادق عليه السلام مسموماً بعنب دسّه إليه المنصور لعنه الله سنة ـ ١٤٨ هـ ـ (۹).
الهوامش
۱. سورة فاطر : ٣٥ / ٣٢.
۲. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨١.
۳. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩.
٤. سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.
٥. تفسير العياشي ١ : ٢٦٦ / ٥٧٧.
٦. راجع : مهج الدعوات : ١٩٨ ـ ٢٠٢.
۷. الإمام الصادق / د. حسين الحاج : ٨.
۸. مقاتل الطالبيين : ٢٣٢.
۹. الفصول المهمّة : ٢٣٠ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٢٤٦ ، الإعتقادات / الشيخ الصدوق : ٩٨ ، مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٩٩.
مقتبس من كتاب : [ الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ ] / الصفحة : ۳۸ ـ ٤۱