لا شكّ أنّ انفراد العباس (عليه السلام) بمقامٍ خاص دون سائر الشهداء مع الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء تدلّ على مكانة خاصة ومميزة لذلك العبد الصالح عند الله عزّ وجلّ، ولا شكّ بأنّ الكرامات المعروفة عنه أيضاً والمشهورة والذائعة الصيت بين الجماهير الموالية لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) تشير إلى ذلك، وكذلك انفراده بزيارةٍ خاصة إلى جانب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وعلي الأكبر والشهداء تدلّ بوضوح لا مزيد عليه على عظمة تلك الشخصية المتفرّعة من الشجرة العلوية المباركة صنو النبوة، وتوأمها في الجهاد الكبير المؤسّس لمسيرة الإسلام. وممّا يؤسف له أنّ سيرة العباس عليه السلام لا نملك منها الشيء الكثير من التفاصيل، إلّا أنّ مواقفه الرسالية الثابتة والقوية في كربلاء وتضحيته واستبساله في الذود عن الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهاده في المعركة تعطينا صورة واضحة لا غبار عليها، خاصة إذا لاحظنا أنّه كان حامل اللواء في معسكر الإمام (عليه السلام)، والمعلوم أنّ حامل اللواء عادة يكون من أوثق الناس وأشدّهم إيماناً بمبادئه وأقواهم مراساً وعراكاً وخبرة في القتال.
من هنا، نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يفرّط بالعباس من أول المعركة، وإنّما تركه إلى جانبه حتى المرحلة الأخيرة من مجرياتها، وكان أغلب من هم مع الإمام (عليه السلام) سواء من أصحابه أو من أهل بيته قد نالوا درجة الشهادة الرفيعة وارتحلوا إلى الله العلي القدير. أمّا الوقفات التاريخية التي سجّلتها وقائع السيرة الحسينية للعباس سلام الله عليه فهي ما يلي:
أولاً- رفضه لأمان الأمويين: وهذا ما تكرّر مرتين، ففي المرة الأولى أرسل ابن زياد أماناً للعباس وإخوته بسبب توسّط أحد أخوالهم، إلّا أنّ العباس (عليه السلام) أجاب عن ذلك بقوله: (أبلغ خالنا السلام وقل له أن لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية)، والمرة الثانية كانت في اليوم العاشر عندما نادى الشمر لعنة الله عليه: (أين بنو أختنا، أين العباس وإخوته؟ إلّا أنّهم أعرضوا عنه، فقال الإمام الحسين (عليه السلام): أجيبوه ولو كان فاسقاً، فأجابوه وقالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين (عليه السلام) والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد، فقال العباس (عليه السلام): “لعنك الله أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء). إنّ ذلك الموقف المشرّف من العباس (عليه السلام) حريٌّ بالمؤمنين الملتزمين المجاهدين أن يكون لهم درساً بليغاً عندما يكونون في ساحات القتال ضدّ الأعداء وتُعرض عليهم أمثال ذلك النوع من الأمان الكاذب من القتل، لأنّ الإستجابة لمثل تلك النداءات الخبيثة هي الخسارة الكبرى في الدنيا والآخرة، وكيف يمكن للعباس وهو شبل أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يقبل لنفسه بوصمة العار الأبدية في الدنيا والآخرة.
ثانياً- موقفه ليلة العاشر من المحرم: حيث أنّه في تلك الليلة الأخيرة لأصحاب الحسين (عليه السلام) في هذه الدنيا، كان الإمام (عليه السلام) قد جمعهم وخطب فيهم قائلاً: (أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً…. فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي…)، عند ذلك قام العباس (عليه السلام) وقال: (لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً)، إنّ تلك الكلمات لا ريب أنّها أثلجت قلب الإمام الحسين (عليه السلام) الذي أراد أن يكتشف مدى القوة والصلابة عند أولئك الأصحاب وعند أهل بيته، أولئك المقبلون عند انتهاء ذلك الليل على المعركة التي كانت نتيجتها العسكرية محسومة قبل البدء في القتال، ولا شكّ أنّ كلمات العباس (عليه السلام) قد شجَّعت الكثير من الأصحاب أيضاً على التعبير عن الوفاء وعن الإلتزام بالقتال إلى جانب الإمام الحسين (عليه السلام). فالعباس (عليه السلام) كان بإمكانه لو لم يكن يعيش الوفاء لدينه وإسلامه وإمامه، لكان رضي بذلك العرض السخي والكريم من الإمام (عليه السلام) ولحفظ حياته وحياة إخوته بذلك أيضاً، وفي هذا الموقف درس بليغ وموعظة لكلّ المجاهدين الثائرين الذين قد يصادفون مثل هذا الموقف من قادتهم حرصاً على حياتهم، ولهذا فإنّ المجاهدين الذين قد تُعرض عليهم مثل هذه القضايا أن لا يأخذوا من ذلك ذريعة للإنسحاب والتخلّف خاصة إذا كانت المعركة قائمة.
ثالثاً- موقفه عند مشرعة الماء: إنّ قطع الطريق من جانب الجيش الأموي أمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته، قد أوصل كلّ من في معسكر الإمام (عليه السلام) إلى حالةٍ شديدة من العطش في ذلك الجو اللاهب الناتج عن شدّة حرارة الشمس وسخونة رمال الصحراء، والعباس (عليه السلام) كان يحمل لقب “السقَّاء” لأنّه كان متكفّلاً لشدّة بأسه وشجاعته بإحضار الماء، وكان قد فعل ذلك قبل اليوم العاشر، فهنا تجمع روايات السيرة الحسينية أنّ العباس (عليه السلام) شقّ جموع ذلك الجيش ووصل إلى المشرعة عند حافة النهر، واغترف غُرفَة بيده لكي يشرب لإرواء بعض ظمأه الشديد، إلّا أنّه تدارك الأمر وتذكّر أنّ سيده وإمامه الحسين (عليه السلام) يعاني مثله العطش أيضاً، فما أسرع ما رمى الماء من يده، ومثَّل ذلك شعراً فقال:
(يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين)،
فحمل وهو شديد العطش قربة الماء ليوصلها إلى الإمام (عليه السلام) وأهل بيته لكي يشربوا، إلّا أنّ القوم الظالمين عاجلوه عبر كمين بقطع يده اليمنى فنقل الماء إلى يده اليسرى فبادروه بقطعها أيضاً، ومع ذلك لم ييأس من إيصال الماء، إلى أن أصابت السهام قربة الماء فأُرِيقَ ماؤها وانهمرت عليه السهام إلى أن سقط صريعاً إلى الأرض، ونادى الإمام الحسين (عليه السلام) فحضر عند جسده الشريف يريد حمله إلى المخيم، فإذا أبا الفضل العباس يرفض، إذ كيف سيواجه العطاشى من النساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون الماء الذي كان يحمله إليهم ليرتووا.
إنّ ذلك الموقف فيه من الإيثار الشيء الكبير والعظيم، فالقضية لم تكن إلّا قضية كف من الماء، إلّا أنّه كان يساوي في تلك اللحظات الحرجة حياة إنسان لشدّة الإحتياج إلى قطرةٍ من الماء لإرواء الأجساد التوّاقة، وهذا الموقف هو الذي ترمز إليه وتعبّر عنه الآية القرآنية: ﴿ … وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … ﴾ 1، فتلك الطاعة وذلك الوفاء هي النفسية المؤمنة التي ينبغي أن يكون عليها الشباب المؤمن المجاهد الذين يتحمّلون عبء الدفاع عن المقدّسات الإسلامية في هذا الزمن، لأنّ ذلك الإيثار من العباس هو الذي مدحه الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما كان في مقام تبيان الفضائل التي كانت عند أبي الفضل العباس، حيث قال (عليه السلام): (رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى). وبتلك المواقف الرسالية البليغة الوعظ والتأثير في النفوس وصل العباس عليه السلام إلى ذلك المقام السامي الذي جعل منه قبلة أنظار أتباع ومحبي أهل البيت (عليهم السلام) ليشفع لهم عند الله وليطلب منه قضاء حوائجهم التي يضعونها بين يديه، ويتحقّق بالتالي الكثير منها كما هو المعهود والمعروف منذ تلك العصور من بعد كربلاء، حتى صارت استجابة الله عزّ وجلّ لدعوات المؤمنين وطلباتهم التي يتوجّهون بها إليه من خلال أبي الفضل العباس أثراً مشهوداً عنه، وفي هذا كلّه من الدلالة على سمو الرفعة وعلو المنزلة ما لا يخفى على كلّ ذي عقلٍ وقلب. وممّا لا ريب فيه أنّ تلك الشخصية استحقّت بكلّ تقدير وعن جدارة تلك الزيارة الخاصة التي وردت عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) والتي جاء فيها: (السلام عليك أيّها العبد الصالح والصديق المواسي أشهد أنّك آمنت بالله ونصرت ابن رسول الله ودعوت إلى سبيل الله، وواسيت بنفسك فعليك من الله أفضل التحية والسلام، بأبي أنت وأمي يا ناصر دين الله، السلام عليك يا ناصر الحسين الصدّيق، السلام عليك يا ناصر الحسين الشهيد، عليك مني السلام ما بقيت وبقي الليل والنهار)2.
- 1. القران الكريم: سورة الحشر (59)، الآية: 9، الصفحة: 546.
- 2. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.