الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) هو الإمام الرابع من سلسلة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من آل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، أطل على هذه الدنيا في اليوم الخامس من شهر شعبان من سنة 37 أو 38 للهجرة، وعاصر خلال حياته عدداً من الخلفاء الأمويين، أولهم “يزيد بن معاوية” لعنة الله عليه، وآخرهم “الوليد بن عبد الملك بن مروان” ورحل عن هذه الدنيا في سنة 95 للهجرة بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء في سبيل إعلاء شأن الرسالة وخدمة الأمة الإسلامية.
تميزت شخصيته من بين الأئمة (عليه السلام) بالحزن والدموع والبكاء على أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء (عليه السلام)، حتى ورد أنه أحد البكّائين الخمسة عبر التاريخ الرسالي العام، إلا أن أشهر أوصافه وألقابه هو: “زين العابدين” وبه يعرف عند إطلاق هذا الوصف.
وقد عاش الإمام (عليه السلام) في كنف والده الإمام الحسين (عليه السلام) زمن طفولته وفي ظل إمامة عمه الحسن (عليه السلام)، ثم عاش في فترة شبابه في ظل إمامة أبيه الحسين (عليه السلام)، وتولى الإمامة بعد واقعة كربلاء وكان له من العمر ثلاث وعشرون سنة كما تشير الروايات، حمل الإرث الإلهي في ظرف عصيب جداً زمن الخلافة الأموية التي كانت تسعى بكل قواها إلى توطيد سلطانها على حساب الأمة الإسلامية وقدسية الرسالة ونقاوتها، وكان من نتائج ذلك التوجه الأموي قتل الشخصيات الأساسية من أهل البيت (عليهم السلام) الذين كان يرى فيهم الحكم الأموي الخطر الأكبر على خلافتهم، والإمام زين العابدين (عليه السلام) يرى كل ذلك أمام ناظريه، فمن سب أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر، مروراً باستشهاد عمه الإمام الحسن (عليه السلام)، وصولاً إلى المجزرة الدموية التي كان من نتائجها استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وقسم كبير من أهل بيته وأصحابه في أرض الكرب والبلاء، وصولاً إلى مرحلة الأسر القصيرة من عمر الإمام السجاد (عليه السلام) مع البقية الباقية من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين سار بهم الجيش الأموي إلى الكوفة والشام، ولعل في مرض الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي منعه من المشاركة في القتال إلى جانب أبيه وأهل بيته عناية وحكمة إلهيتين، لأنه بعد مرحلة الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن بمقدور أحد كالإمام زين العابدين (عليه السلام) نقل صورة مأساة كربلاء للأمة، وتوضيح الأبعاد الصحيحة لمقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وتثوير الناس ضد الحكم الأموي.
في مرحلة الإمام زين العابدين (عليه السلام) عم الرعب والذعر والخوف قلوب أتباع أئمة أهل البيت (عليه السلام) والمسلمين عموماً بعد هذه المجازر التي كشفت عن عدم تورع الأمويين عن استعمال أي أسلوب للحفاظ على عرشهم وسلطانهم، وقد كان مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) أوضح دليل على ذلك، وما شهدته المدينة من استباحة دماء أبنائها وأعراض نسائها على يد الجيش الأموي أثناء خلافة يزيد اللعين أيضاً ما جعل الأمة ترضخ مرغمة لذلك الحكم الدموي الظالم.
ذلك كله دفع الإمام (عليه السلام) إلى ابتكار أساليب جديدة في الدعوة إلى الله ونشر الأنصار والمؤيدين في كل أنحاء العالم الإسلامي، وبنحو لا يؤدي إلى لفت أنظار السلطة الحاكمة، وابتعد عن التدخل في الحياة السياسية بنحو مباشر، إلا أن الأساليب التي انتهجها كانت تهدف إلى تهيئة الأرضية المناسبة للثورة على الحكم القائم الذي سفك الدماء وانتهك الأعراض وأباح المحرمات ودنس المقدسات.
ومن أهم الأساليب التي ابتدعها الإمام (عليه السلام) تمثلت في “الصحيفة السجادية” التي تشير بظاهرها إلى أنها أدعية يتوجه بها المسلم إلى ربه طلباً للمغفرة ونيل القرب منه، إلا أن المتأمل فيها يرى أنها تشتمل على تعاليم متعددة ومتنوعة، تبدأ من الأدعية التي تقوّي العلاقة بين الإنسان وربه، إلى الأدعية التي تمثل برنامج عمل للحياة اليومية للإنسان المسلم وكيف ينبغي عليه أن يتحرك في الحياة، وإلى الأدعية التي ترمز إلى رفض الظلم والتبعية لغير الله عز وجل، وانتهاء بالأدعية التي تدعو إلى إقامة الحكومة الإلهية التي تحقق العدل والمساواة وتحفظ الحقوق بين الحاكم والمحكوم.
إن هذا الأسلوب المبتكر للإمام (عليه السلام) في إعادة التوجه الصحيح عند الأمة بعد الانحرافات الخطيرة التي طرأت على حياة المسلمين، هي التي دفعت بالبعض من الكتّاب والباحثين إلى القول بأن الإمام (عليه السلام) ترك السياسة والعمل من أجل الحكومة الإسلامية وانصرف إلى العبادة والانقطاع عن الحياة العامة، مع أن هذا القول بعيد عن الصواب عندما نراجع سيرة هذا الإمام (عليه السلام) ونجمع كل مفرداتها وتفاصيلها لنضعها ضمن كلياتها العامة، حيث نلمس الحرص الكامل على الاهتمام بتلك القضايا، ولكن بنحو غير مباشر حسبما كانت تقتضي الأوضاع والظروف في عهده.
ومن الأساليب المميزة التي استعملها الإمام (عليه السلام)، كانت قضية الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث عمل على نشر هذه المسألة بنحو عاطفي ووجداني يثير في النفوس الأسى والحزن للطريقة المأساوية التي قُتل بها الإمام الحسين (عليه السلام) ويحرك عوامل الثورة والانتفاض ضد الحكم الأموي الغاشم، من هنا اشتهرت بين المسلمين مسألة بكائه على الإمام الحسين (عليه السلام) طوال الفترة المتبقية من حياته الشريفة بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا ريب بأن هذا الأسلوب يلعب دوراً مؤثراً عند الناس لأنه يستثير فيهم العواطف والمشاعر، حتى رُوي عن الإمام السجاد (عليه السلام) بأنه مرَّ على جزار يذبح ذبيحة فسأله “هل سقيتها ماءً؟”
فأجابه “نعم” فبادره الإمام (عليه السلام) بأن الإمام الحسين (عليه السلام) قد مات عطشاناً ومنعه الأعداء من شربة ماء طلبها منهم قبل استشهاده.
ومن الأساليب المبتكرة أيضاً والتي كان لها أثر كبير أيضاً في توسيع دائرة الشيعة وأتباع أهل البيت (عليه السلام) هي “مسألة تحرير العبيد والأرقاء” حيث ورد أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان يشتري العبيد ثم يبقيهم عنده لفترة محدودة ثم يعتقهم لوجه الله، وكان هؤلاء ينتشرون طول العالم الإسلامي وعرضه، يوضحون للناس سيرة وحياة ذلك الإمام العظيم الشأن والجليل القدر سليل بيت النبوة والإمامة، وما يظهر هذه الحقيقة بوضوح القضية المعروفة التي جرت في عهد هشام بن عبد الملك عندما كان حاجاً لبيت الله الحرام ومعه زبانيته وأتباعه، ولم يستطع الوصول إلى البيت العتيق ليطوف حوله، وإذا بالإمام السجاد (عليه السلام) يدخل في تلك اللحظة، وإذا بالجموع بعدما رأته تفتح له طريقاً يوصله إلى الكعبة المشرفة، مما لفت نظر الوفد المرافق لعبد الملك فسألوه عن هذا الشخص الذي انكشفت الناس من أمامه وفتحت له الطريق ليطوف حول البيت العتيق، وأراد عبد الملك تمويه حقيقة ذلك الشخص ونسبه، فما كان من الشاعر الفرزدق المعروف أن ثارت حميته كونه موالياً لأهل البيت (عليهم السلام) وانطلق لسانه بتلك القصيدة الحية المعروفة التي يمتدح فيها الإمام زين العابدين ويبين فيها فضل تلك الشخصية وعظمتها وامتدادها للخط النبوي المحمدي، ومن الأبيات الواردة في مطلع تلك القصيدة:
هذا الذي تـعرف البطحاء وطأتـه والبيـت يعرفه والحل والحـرم
هذا ابـن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
يكاد يمسكه عرفان راحـته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
إذا رأتـه قـريـش قال قائلها إلى مكارم هـذا ينتهـي الكرم
هذا ابن فاطمة إن كـنت جاهله بجـده أنبـياء الله قـد خـتموا
وليس قـولـك مـن هذا بـضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
يفضي حياء ويفضى من مهابته فـما تكلم إلا حين يبتسم
ينمى إلى ذورة المجد التي قصرت عنها الأكف وعن إدراكها القدم
من جده وان فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت له الأمم
ينشق نور الهدى عن صبح غرته كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
إلى أن يقول الفرزدق ذلك البيت الرائع:
ما قال “لا” قط إلا في تشهده لولا التشهد لكانت لاؤه “نعم”
ويُروى أن هشام بن عبد الملك أمر بسجن الفرزدق بسبب هذه القصيدة التي امتدح فيها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهي بذاتها ذم وهجاء لذلك الخليفة الأموي الذي أراد أن ينكر المعرفة بالإمام (عليه السلام) حتى لا يُفتضح أمره بين جماعته.
إن تلك الأساليب المبتكرة التي ابتدعها الإمام السجاد (عليه السلام) كان لها الأثر البالغ عند عموم المسلمين على مستوى إعادة الصلة الحقيقية بين المسلمين والعقيدة الإسلامية، وهذا ما دفع بالسلطة الأموية لأن تتخلص من الإمام (عليه السلام) عبر دس السم له كما تقول بذلك أغلب الروايات الواردة عندنا، وهذا يثبت أن الدور الذي قام به الإمام (عليه السلام) كان له الأثر البالغ على الأوضاع، وهذا ما تشهد به الثورات الكثيرة التي قام بها المسلمون ضد السلطة الأموية للإنتقام منها بسبب قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وإزالتها عن حكم المسلمين، ولا يمكن أن لا يكون للإمام (عليه السلام) دور فيها، وإن كان من وراء الستار طبقاً للأسلوب الذي اتبعه الإمام (عليه السلام) حتى لا يكون مورداً للانتقام والبطش من جانب تلك السلطة التي لم تكن تتورع عن شيء على الإطلاق.
والحمد لله رب العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.