كان طالوت رجلاً طويلَ القامةِ ، ضخماً، حسنَ التركيب، متينَ الأعصاب قويّها، ذكيًّا، عالمًا، مدبّرًا
يقول البعض: إنّ اختيار اسم »طالوت« له كان لطوله، ولكنّه مع كلّ ذلك لم يكن معروفاً، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر، ويرعى ماشية أبيه ويشتغل بالزراعة.
أضاع يوماً بعض ماشيته في الصحراء، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة أيّام حتّى اقتربا من مدينة (صوف) .
قال له صاحبه : لقد اقتربنا من (صوف) مدينة النبيّ (اشموئيل) ، فتعال نزوره لعلّه يدلّنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالّتنا. والتقيا باشموئيل عند دخولهما المدينة .
ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتّى تعارف قلباهما، وعرف اشموئيل طالوت وأدرك أنّ هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة . وعندما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل : أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها. ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل.
فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية، ولكنّه قَبِل المهمّة مسروراً فقال اشموئيل لقومه : لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعاً أن تطيعوه، وأن تستعدوا للجهاد ومحاربة الأعداء.
كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ قائدهم يجب أن تتوفّر فيه بعض المميّزات من حيث نسبه وثروته، ممّا لم يجدوا منها شيئاً في طالوت، فانتابتهم حيرة شديدة لهذا الاختيار، فطالوت لم يكن من أَسرة (لاوي) التي ظهر منها الأنبياء، ولا كان من أسرتي (يوسف) أو (يهودا) اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أُسرة بنيامين المغمورة الفقيرة، فاعترضوا قائلين : كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحقّ منه بالحكم !
فقال اشموئيل ـ الذي رآهم على خطأ كبير ـ : إنّ الله هو الذي اختاره أميراً عليكم ، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفّرة في طالوت، وهو يفوقكم فيها. إِلّا أنّهم لم يقبلوا بهذا القول، وطلبوا دليلاً على أنّ هذا الاختيار إنّما كان من الله سبحانه.
فقال اشموئيل : الدليل هو أنّ التابوت _ صندوق العهد _ الذي هو أثرٌ مهمٌّ من آثار أنبياء بني إسرائيل، وكان مدعاةً لثقتكم واطمئنانكم في الحروب ، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة. ولم يمضِ وقت طويل حتّى ظهر الصندوق، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.
طالوت في الحكم
تسلّم طالوت قيادةَ الجيش، وخلال مدة قصيرة أثبت لياقته وجدارته للاضطلاع بمهام إدارة المُلك وقيادة الجيش، ثمّ طلب من بني إسرائيل أن يعدّوا العدّة لمحاربة عدوّ كان يهدّدهم من كلّ جانب. قال لهم مؤكّداً إنّه لا يريد أن يسير معه للقتال إلاَّ الّذين ينحصر كلّ تفكيرهم في الجهاد، أمّا الذين لهم عمارة لم تتم، أو معاملة لم تكمل، وأمثالهم، فليس لهم الاشتراك في الجهاد. وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة، وتحرّكوا صوب العدو.
وفي المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش. فأراد طالوت _ بأمر من الله _ أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم : سوف نصل قريباً إلى نهر في مسيرتنا، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي، ومن لا يشرب إلَّا قليلاً منه فهو منّي. ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا، إلاَّ نفرٌ قليلٌ منهم ظلّوا على العهد.
أدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أُناس ضعفاء الإرادة وعديمي العهد ، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع النفر المؤمن القليل خارجاً من المدينة إلى ميادين الجهاد.
إلّا أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته، فقالوا لطالوت : إننا لا طاقة لنا بمقابلة جيش قويّ كثير العدد . غير أنّ الذين كان لهم إيمانٌ راسخ بيوم القيامة، وكانت محبّة الله قد ملأت قلوبهم ، لم يرهبوا كثرةَ العدوّ وقلّة عددهم، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين : قرّر ما تراه صالحاً، فنحن معك حيثما ذهبت، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين.
فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات، وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته. في تلك اللحظة خرج شابٌ اسمه داود من بين جنود طالوت، ولعلّه لصغر سنّه، لم يكن قد خاض حرباً من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها ، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين _ بمهارة شديدة _ فأصابا جبهته ورأسه، فسقط على الأرض ميّتاً وسط تعجّب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل