ظاهرة التشدد الديني عند جيل الشباب في مجتمعات العالم العربي والإسلامي، بدأت تلفت أنظار الباحثين والدارسين في ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية، بعد أن أخذت هذه الظاهرة في التزايد والاتساع الكمي والعددي، وبعد أن تحولت إلى ظاهرة تثير المخاوف والقلق حيث بات ينبعث منها سلوك التعصب والتطرف والعنف.
وفي ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية هناك من يغلب الأبعاد والتحليلات النفسية والسيكولوجية عند تفسير هذه الظاهرة حيث تربط بطبيعة البنية النفسية التي يمر بها الإنسان في مثل هذه المرحلة، إلى جانب ما يعترض الإنسان من مواقف ومؤثرات تبقى معه في ذاكرته، والأقرب إلى مثل هذه التحليلات بالطبع هم علماء النفس والمختصون في هذا المجال. وهناك من يغلب الأبعاد والتحليلات الاجتماعية والاقتصادية عند تفسير هذه الظاهرة، حيث تربط بطبيعة البيئة الاجتماعية التي تلقي بتأثيراتها السيالة على الفرد، وتدفع به نحو مسالك واتجاهات معينة، ومن الواضح أن الأقرب لمثل هذه التحليلات هم علماء الاجتماع والمختصون في هذا المجال. وهناك من يغلب الأبعاد الفكرية والدينية عند تفسير هذه الظاهرة، حيث تربط بانتشار طبيعة معينة من الأفكار والمفاهيم الثقافية والدينية. إلى جانب من يغلب الأبعاد والتحليلات السياسية.
ولا شك أن هناك حاجة إلى كل هذه الأبعاد والتحليلات، وإلى خبرة ومعارف هذه الميادين والمجالات، وإلى البحث عن العناصر المشتركة في تفسير وتحليل هذه الظاهرة، التي لا تخلو من تعقيد نتيجة تشابك وتفاعل الأبعاد والعناصر المؤثرة فيها.
وقد وصل نمو هذه الظاهرة إلى تجمعات المسلمين في الغرب، وهذه هي المفارقة المحيرة عند الباحثين الغربيين بالذات، خصوصاً مع ظهور التشدد الديني عند الجيل الثاني والثالث من أجيال المسلمين هناك، وهو الجيل الذي نشأ وترعرع من المهد في ظل الحياة الاجتماعية الغربية بكل مؤثراتها المكثفة والضاغطة، والتي تدفع في العادة نحو التعلق بمتع الدنيا، والبحث عن المال والمركز والشهرة والرفاه، كما أنه الجيل الذي قطع مراحل طويلة في التعليم الغربي، وإذا من داخل هذا الجيل تنبعث ظاهرة التشدد الديني، ويظهر فيها من يندفع نحو العنف، والقيام بأعمال تتطلب تفجير النفس، لقتل أناس حتى لو كان هؤلاء في باص أو قطار أو طائرة، لا ذنب لهم سوى أنهم ينتقلون من مكان إلى آخر بتلك الوسائط والمركبات.
والسؤال الذي يطرحه الغربيون على أنفسهم لماذا لم تستطع الحياة الغربية بكل ما فيها من تقدم وحداثة ورفاه، وبكل ما فيها من مؤثرات وجاذبية وصخب أن تؤثر في نفسيات أولئك الشباب الذين انشقوا عن تلك الحياة، واندفعوا نحو العنف والإرهاب، وتغير من أنماط حياتهم، ومنهجيات تفكيرهم، والغربيون حائرون ومنقسمون أمام هذا السؤال بين فرضيات وتصورات عديدة ومختلفة.
والمفارقة الخطيرة إننا في مجتمعات العالم العربي والإسلامي بين جيلين متصادمين من الشباب في الرؤية والطباع والسلوك، بين جيل يبالغ وبإسراف في الاندفاع نحو تقمص مظاهرة الحياة الغربية، بكل صخبها ولهوها وانحرافاتها، وبين جيل يبالغ وبإسراف في الاندفاع نحو التشدد، واقتحام عالم الموت، والبحث عن مفارقة الحياة. وهذا يكشف عن أزمة خطيرة ينبغي أن نفتش عنها في الثقافة1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 26 ابريل 2006م، العدد 14487.