قَالَ طَاوُسٌ الْفَقِيهُ رَأَيْتُهُ 1 يَطُوفُ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى سَحَرٍ وَ يَتَعَبَّدُ، فَلَمَّا لَمْ يَرَ أَحَداً رَمَقَ السَّمَاءَ بِطَرْفِهِ وَ قَالَ: “إِلَهِي غَارَتْ نُجُومُ سَمَاوَاتِكَ وَ هَجَعَتْ عُيُونُ أَنَامِكَ، وَ أَبْوَابُكَ مُفَتَّحَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، جِئْتُكَ لِتَغْفِرَ لِي وَ تَرْحَمَنِي وَ تُرِيَنِي وَجْهَ جَدِّي مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه و آله ) فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ”.
ثُمَّ بَكَى وَ قَالَ: “وَ عِزَّتِكَ وَ جَلَالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ، وَ مَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَ أَنَا بِكَ شَاكٌّ، وَ لَا بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ، وَ لَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَ لَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَ أَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سَتْرُكَ الْمُرْخَى بِهِ عَلَيَّ، فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي، وَ بِحَبْلِ مِنَ أَعْتَصِمُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي، فَوَا سَوْأَتَاهْ غَداً مِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِذَا قِيلَ لِلْمُخِفِّينَ جُوزُوا وَ لِلْمُثْقِلِينَ حُطُّوا، أَ مَعَ الْمُخِفِّينَ أَجُوزُ، أَمْ مَعَ الْمُثْقِلِينَ أَحُطُّ، وَيْلِي كُلَّمَا طَالَ عُمُرِي كَثُرَتْ خَطَايَايَ وَ لَمْ أَتُبْ، أَ مَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي”.
ثُمَّ بَكَى وَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
“أَ تُحْرِقُنِي بِالنَّارِ يَا غَايَةَ الْمُنَى *** فَأَيْنَ رَجَائِي ثُمَّ أَيْنَ مَحَبَّتِي
أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ زَرِيَّةٍ *** وَ مَا فِي الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِي”
ثُمَّ بَكَى وَ قَالَ: “سُبْحَانَكَ تُعْصَى كَأَنَّكَ لَا تَرَى، وَ تَحْلُمُ كَأَنَّكَ لَمْ تُعْصَ، تَتَوَدَّدُ إِلَى خَلْقِكَ بِحُسْنِ الصَّنِيعِ، كَأَنَّ بِكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهِمْ وَ أَنْتَ يَا سَيِّدِي الْغَنِيُّ عَنْهُمْ”.
ثُمَّ خَرَّ إِلَى الْأَرْضِ سَاجِداً، قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَ شُلْتُ بِرَأْسِهِ وَ وَضَعْتُهُ عَلَى رُكْبَتِي، وَ بَكَيْتُ حَتَّى جَرَتْ دُمُوعِي عَلَى خَدِّهِ، فَاسْتَوَى جَالِساً وَ قَالَ: “مَنِ الَّذِي أَشْغَلَنِي عَنِ ذِكْرِ رَبِّي”؟
فَقُلْتُ: أَنَا طَاوُسٌ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا هَذَا الْجَزَعُ وَ الْفَزَعُ؟! وَ نَحْنُ يَلْزَمُنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا وَ نَحْنُ عَاصُونَ جَانُونَ.
أَبُوكَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَ أُمُّكَ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ، وَ جَدُّكَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله )!
قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، وَ قَالَ: “هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، يَا طَاوُسُ دَعْ عَنِّي حَدِيثَ أَبِي وَ أُمِّي وَ جَدِّي، خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَ أَحْسَنَ وَ لَوْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيّاً، وَ خَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَ لَوْ كَانَ وَلَداً قُرَشِيّاً، أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ 2 ، وَ اللَّهِ لَا يَنْفَعُكَ غَداً إِلَّا تَقْدِمَةٌ [أي هديّة] تُقَدِّمُهَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ” 3 .
- 1. أي الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السَّلام ) رابع أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
- 2. القران الكريم : سورة المؤمنون ( 23 ) ، الآية : 101 ، الصفحة : 348 .
- 3. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 46 / 81 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .