بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: زكريا بركات
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14] .
قد يتوهَّم بعضُ الباحثين أنَّ الآية الكريمة دليلٌ على خلود من ارتكب كبيرة في نار جهنَّم إذا كان من أهل القبلة ولم يتب، بخلاف ما يذهب إليه معظم الأمَّة الإسلامية ـ سُنَّة وشيعةً ـ من أنَّه قد يشمله عفو الله تعالى بعدَ زمنٍ فيخرج.
تقريبُ الاستدلال بالآية: أنَّ عنوان (معصية الله ورسوله) يصدق على اقتراف الكبيرة، والآية صريحة في الوعيد بإدخال مرتكب ذلك في نار جهنَّم مع التخليد الذي يعني البقاء الأبديِّ.
والجواب عن ذلك يتَّضح انطلاقاً من التدبُّر في كلمة (حدود) التي استُخدمت جمعاً في الآية الكريمة، والجمع ـ في اللغة ـ أقلُّه ثلاثةٌ، وأكثره ما استوعب جميع الأفراد في الخارج. وصحيح أن ارتكاب الكبيرة يصدق عليه تعدِّي الحدِّ، إلَّا أنَّنا يمكن أن نتصوَّر ارتكاب الكبيرة في ثلاث درجات:
1 ـ ارتكاب كبيرة واحدة أو كبيرتين.
2 ـ ارتكاب ثلاث كبائر أو أكثر بما لا يصل إلى حد يستوعب جميع الكبائر.
3 ـ ارتكاب المقدار الذي يستوعب جميع الكبائر بغير استثناء.
ومن الواضح أنَّ انطباق عنوان (تعدِّي الحدود) على الدرجة الثالثة هو انطباق لا ريب فيه، وكما يُعبِّر أهل العلم: هو القدر المتيقَّن من مصداق العنوان، فتكون الآية قطعية الدلالة في حكم مرتكب الكبيرة بهذه الدرجة، أي من يرتكب جميع الكبائر.
بينما الدرجة الثانية مشكوكة الانطباق؛ لأنَّها وإن كانت صالحة ـ من حيث الجمع ـ لتكون مصداقاً للعنوان، إلَّا أنها ليست المصداق الأتمَّ، وبالتالي قد لا تكون مقصودةً حقيقةً، وإذا ورد الاحتمالُ بطل الاستدلال.
وأمَّا الدرجة الأولى فهي معلومة الخروج من المراد؛ لأنَّ عنوان (الحدود) بما أنَّه جمع؛ لا يصلح للانطباق على المفرد أو المثنَّى.
وبناء عليه نقول: إنَّ الذين تمسَّكوا بالآية للاستدلال على فكرة الخلود في النار، لا يشترطون أن يكون العاصي لله وللرسول (الذي تنطبق عليه الآية) قد ارتكب ما يصدق على عدد كبائره مفهومُ الجمع اللغوي، أي لا يشترطون أن تكون كبائره ثلاثة فصاعداً، فضلاً عن أن يشترطوا أن يكون مرتكباً لجميع الكبائر؛ بل يقولون إن كبيرة واحدة يمكن أن تؤدِّي به إلى الخلود في النار أبداً.. فيتضح أنَّ الآية لا دلالة لها على مطلوبهم؛ لأنها تتحدَّث عن خلود من ارتكب عدداً من الكبائر يلزم أن تكون مُحقِّقة لعنوان تعدِّي الحدود جمعاً.. وقد عرفنا أنَّ المتيقَّن من ذلك من ارتكب جميع الكبائر، وأنَّ الآية لا تنطبق على من ارتكب كبيرةً واحدةً فقط، فلا تكون دالَّةً على مطلوب من تمسَّك بها.
فإن قيل: إنَّ مرتكب جميع الكبائر ـ مع فرض أنَّه مؤمن ـ يكاد يكون فرداً نادراً جدًّا، إن لم نقل بعدمه وقوعاً؛ فكيف يمكن أن يكون هو المقصود من الآية الكريمة؟!
قلنا: هذا صحيح؛ ولذلك يلزم أن يُقال إنَّ المتيقَّن من مدلول الآية هو الكافر بالله ورسوله؛ لأنَّه يستحلُّ جميعَ الحدودِ، فيكون ـ بتعدِّيه لبعضها ـ كالمتعدِّي لجميعها بإنكاره للشَّريعة برُمَّتها تبعاً لإنكاره للمشرِّع سبحانه وتعالى. ومن هنا يُعلم الوجهُ فيما حُكي عن بعض أهل العلم أنهم قالوا: إنَّ الآية بصدد الوعيد للكفار، وأنَّ معصية الله ورسوله يُقصد بها الكفر بالله ورسوله بقرينة جمع الحدود، فافهم واغتنم.
ويؤيِّده أنَّ الله تعالى استعمل عنوان (معصية ورسوله) بمعنى الكفر في قوله تعالى: ﴿…وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن: 23] .
فإن قيل: إنَّ سياق الآية (14) في سورة النِّساء يمنع من حمل المعصية على الكفر؛ لأنها في سياق بيان أحكام فقهيَّة فرعيَّة، لا أحكامٍ عقائديَّةٍ أصوليَّةٍ؛ فالسياق يقتضي ظهور كلمة المعصية في المعصية الفروعيَّة دون الأصوليَّة.
قُلنا: صحيح أنَّ السياق يقتضي ذلك، ولكنَّ الاستناد إلى الجمع لكلمة الحدود (كما أوضحنا) هو استناد إلى قرينة داخلية في الآية نفسها، وهو أقوى من الاستناد إلى السياق؛ ولذلك قال بعضُ أهل العلم إنَّ السياق قرينة ضعيفة، ولا سيما سياق نظم الآيات في القرآن الكريم؛ لأنه يحتمل أن يكون للآية نزول مستقل عن السياق، ثم وُضعت بأمر رسول الله (ص) في موضعها من القرآن الكريم لحكمةٍ ما تُصحِّح النظمَ وتحفظ البلاغة.
ويشهد لذلك أنَّ في القرآن الكريم آية أخرى تتحدَّث عن عنوان الحدود، مع تصريحها بعنوان الكفر، مع أنها في سياق آيات فقهيَّة أيضاً، وهي قوله تعالى: ﴿…فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 4] ، فلاحظ كيف وُضع عنوان (الإيمان بالله ورسوله) بدلاً من عنوان (طاعة الله ورسوله) ، وكيف تمَّ التصريح بعنوان الكفر، كلُّ ذلك في سياق أحكام فقهيَّة ترتبط بأحكام الظِّهار.. فتدبَّرْ جيِّداً.
فيتَّضح من ذلك أنَّ سياق الحكم الفقهي لا يمنع من الانتقال إلى الكلام عن عموم الحدود وحكم جاحدها جميعاً؛ تبعاً لعدم إيمانه بالله ورسوله، والذي يمكن أن يُعَبَّر عنه بمعصية الله ورسوله.
هذا كلُّه بغضِّ النظر عن أدلَّةٍ من العقل والنقل استند إليها أهل العلم والتحقيق للقول بصحة الخروج من النار لبعض من دخلها من أهل الكبائر، وليس هذا مقام تفصيلها، فإنَّ المطَّلع على هذه الأدلَّة يمتلك منحًى آخر لمعالجة مدلول الآية، وذلك بالقول بأنَّ عنوان (الخلود) غير آبٍ للحمل على المجاز، أي بجعله كنايةً عن طول المكث، وليس المقصود به حقيقة الخلود بمعنى البقاء غير المنقطع أبداً؛ وهذا التأويل وجيه بقرينة الأدلَّة العقليَّة والنقليَّة التامَّة المشار إليها والمذكورة في محلِّها.
والحمد لله ربِّ العالمين.