الحج عنوان لموسم روحي اجتماعي، يتفاعل معه كل المسلمين، الذين يربو عددهم الآن على المليار نسمة، في مختلف انحاء العالم.
صحيح ان من يشارك فعلا في مناسك الحج في حدود المليوني شخص، لكنهم ينتمون لمختلف الاعراق والشعوب والمجتمعات الاسلامية، كما ان انظار جميع المسلمين في هذا الموسم، تشخص باتجاه مكة والمشاعر المقدسة.
والحج عنوان لرحلة مادية معنوية، يقوم بها الانسان المسلم، بروحه وجسده وافكاره واحاسيسه، يقطع فيها مسافات المكان والزمان، ليتعلق بأستار الكعبة اول بيت وضع للناس، وليصافح الحجر الاسود (يمين الله تعالى في الارض)، وليصلي عند مقام ابراهيم اب الانبياء، وليترسم خطوات رسول الاسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث نشأ في بطاح مكة وانطلق بدعوته من غار حراء.
وإذا كان الحج معناه اللغوي: القصد على جهة التعظيم، ومعناه الشرعي: القصد الى بيت الله الحرام بأعمال مخصوصة في اوقات مخصوصة، حسب تعريف (ابو البقاء) في الكليات. فإنه في الاساس من الظواهر الدينية العامة والقديمة، تقول الموسوعة العربية الميسرة: عرف الحج منذ القدم، ودعت اليه الاديان السماوية الثلاثة، وكذلك عرف في سائر الديانات كالديانة الهندوسية التي من طقوسها الدينية الحج الى نهر الغانج (مهَفه) الذي يقع في الجزء الشمالي من الهند، يخرج من جبال الهملايا، ويجري جنوبا بشرق ليصب في خليج البنغال. ولشهرة الحج كظاهرة دينية اشتهر تعريفه في الموسوعات الثقافية ودوائر المعارف العامة بأنه: رحلة الى مكان مقدس لغرض ديني. والاغراض الدينية التي يهدف اليها المتدينون من القيام بالحج تختلف باختلاف المعتقد 1.
فلسفة الحج
١- اعمال الحج ومناسكه تدرب الانسان على الخضوع لله تعالى، فيما يأمر به وينهي عنه، وتؤكد في النفس حالة العبودية والانقياد لأوامره تعالى، على اختلاف اصنافها واشكالها، ومهما استلزمت من تعب وعناء، وحتى لو لم يعرف الانسان مقاصدها واغراضها المباشرة.
بدءا من عملية الاحرام، حيث ينزع الحاج ما كان اعتاد عليه من الملابس، ليرتدي قطعتي الاحرام ازارا ورداء، ومن ثم يتقيد بمحظورات الاحرام، والتي تصل الى حوالي ٥٢ محظوراً، على اختلاف في بعضها وفي تفاصيلها بين فقهاء المسلمين. ومرورا بواجب الطواف والسعي، والتقصير او الحلق، ورمي الجمار والذبح او النحر، والوقوف بعرفة ضمن زمن محدد، وكذلك المزدلفة، والمبيت بمنى، الى سائر شعائر الحج ومناسكه، والتي تشكل بمجملها دورة تدريبية، تربي الانسان على الطاعة والخضوع لخالقه، في مسائل الزمان والمكان، وما يرتبط بجسده، وحركته وسائر تصرفاته وممارساته. يقول الامام علي عليه السلام: »وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للانام.. وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، واذعانهم لعزته«.
٢- والحج ارتباط واتصال بالمسيرة الايمانية في بعد الزمان والمكان، والرموز والقيادات التاريخية، فلا يكون الدين مجرد عقيدة نظرية فكرية، بل حركة مستمرة عبر التاريخ، يرتبط بها المسلم، فيرى موقع انطلاقها، ويعيش في رحاب انبثاقها، ويتفقد الاماكن التي شهدت احداثها المصيرية، ويخترق الزمان ليتواصل مع حياة الانبياء، وسيرة الائمة والاولياء، ومواقف الصحابة والسلف الصالح، فهنا مقام ابراهيم، وهنا حجر اسماعيل، وهنا سعت هاجر، وهنا ولد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي هذا الغار – غار حراء- كان بدء نزول الوحي والبعثة النبوية، وهنا اختبأ الرسول – في غار ثور – مع صاحبه ابي بكر عند هجرته الى المدينة، وهنا مسرح بطولات علي بن ابي طالب في بدر وأحد وخيبر والخندق، وهنا تضحيات الصحابة وشهداء الاسلام الاوائل.
ويشير الى هذه الحكمة الامام جعفر الصادق عليه السلام في حديثه عن الحج حيث يقول: »ولتعرف آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعرف اخباره، ويذكر ولا ينسى«.
٣- وفي الحج تتجسد امام المسلم عالمية الاسلام، ويشعر بانتمائه الى الامة الاسلامية العريضة، حيث يؤدي مناسك الحج ضمن حشد بشري، من مختلف الاعراق والقوميات والشعوب والقبائل والمذاهب والتوجهات المتعددة، التي يجمعها اطار الاسلام، وتوحدها شعائره واصوله واركانه، فقد يعيش المسلم في بلده وبين قومه، فلا يدرك اتساع رقعة الاسلام، ولا تنوع المجتمعات الاسلامية في انتماءاتها ومذاهبها، لكنه في الحج يلحظ هذا التنوع والتعدد تحت لواء واحد، وفي ظل راية الاسلام الواحدة، فكلهم مسلمون يطوفون حول كعبة واحدة، ويتجهون اليها في صلاتهم، ويرددون هتاف الاستجابة لأوامر الله: لبيك اللهم لبيك، ويقومون بنسك موحد، فنحن جزء من أمة كبيرة، تعيش تنوعا وتعددية، ضمن المبدأ الواحد، ولا تؤثر تلك الانتماءات الاجتماعية والمذهبية المختلفة، على حقيقة وحدة الامة، واجتماعها على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
٤ – وللحج منافعه ومكاسبه العظيمة في جميع مجالات حياة الامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك يتحدث الخالق تعالى عن منافع الحج بشكل مفتوح مطلق، يقول تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ … ﴾ 2. وتنكير (منافع) للتعظيم والمراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية 3.
ويسأل الربيع بن خيثم الامام جعفر الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ … ﴾ 4 منافع الدنيا او منافع الآخرة؟ فقال: الكل5.
- 1. مبادئ علم الفقه، الدكتور عبدالهادي الفضلي.
- 2. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 27 و 28، الصفحة: 335.
- 3. تفسير التنوير والتحرير، محمد الطاهر ابن عاشور.
- 4. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 28، الصفحة: 335.
- 5. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله، نقلا ع ن جريدة الأيام البحرينية 14 / 1 / 2005م – 9:21 م.