نص الشبهة:
فإن قال قائل: ما العذر له في خلع نفسه من الإمامة وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة وتعريه من صفات مستحقها، ثم في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته، هذا مع وفور أنصاره واجتماع أصحابه ومتابعيه من كان يبذل عنه دمه وماله، حتى سموه مذل المؤمنين وعاتبوه في وجهه عليه السلام؟
الجواب:
قلنا قد ثبت انه عليه السلام الإمام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة والأدلة القاهرة، فلابد من التسليم لجميع أفعاله وحملها على الصحة، وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفوس عنه وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا.
وبعد، فإن الذي جرى منه عليه السلام كان السبب فيه ظاهرا والحامل عليه بيا جليا لان المجتمعين له من الأصحاب وان كانوا كثيري العدد وقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية وامراحه من أحب في الأموال من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له (عليه السلام) النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه، وأحس عليه السلام بهذا منهم قبل التولج والتلبس، فتخلى من الأمر وتحرز من المكيدة التي كادت تتم عليه في سعة من الوقت وقد صرح (عليه السلام) بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة بألفاظ مختلفة، وقال إنما هادنت حقنا للدماء وصيانتها وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي، فكيف لا يخاف أصحابه ويتهمهم على نفسه وأهله، وهو عليه السلام لما كتب إلى معاوية يعلمه أن الناس قد بايعوه بعد أبيه عليه السلام ويدعوه إلى طاعته، فأجابه معاوية بالجواب المعروف المتضمن للمغالطة فيه والمواربة وقال له فيه: لو كنت أعلم أنك أقوم بالأمر واضبط للناس وأكيد للعدو وأقوى على جميع الأحوال مني لبايعتك، لأني أراك لكل خير أهلا.
وقال في كتابه ان أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأبيك وأمركم بعد وفاة رسول الله دعاه إلى أن خطب خطبة بأصحابه بالكوفة يحثهم على الجهاد ويعرفهم فضله، وما في الصبر عليه من الأجر، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكر فما أجابه أحد، فقال لهم عدي بن حاتم: سبحان الله ألا تجيبون إمامكم؟ أين خطباء مصر؟ فقام قيس بن سعد وفلان وفلان فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول. ونحن نعلم ان من ضمن بكلامه أولى بأن يضن بفعاله.
أو ليس أحدهم قد جلس له في مظلم ساباط وطعنه بمغول كان معه أصاب فخذه، فشقه حتى وصل إلى العظم وانتزع من يده وحمل عليه السلام إلى المداين وعليها سعيد بن مسعود عم المختار، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولاه إياها فأدخل منزله، فأشار المختار على عمه ان يوثقه ويسير به إلى معاوية على أن يطعمه خراج جوخي سنة. فأبي عليه وقال للمختار: قبح الله رأيك أنا عامل أبيه وقد أئتمنني وشرفني، وهبني نسيت بلاء أبيه أأنسى رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أحفظه في ابن بنته وحبيبه ثم أن سعد بن مسعود أتاه عليه السلام بطبيب وقام عليه حتى برئ وحوله إلى بعض المدائن.
فمن ذا الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم عن النصرة والمعونة ؟ وقد أجاب (عليه السلام) حجر بن عدي الكندي 1 لما قال له سودت وجوه المؤمنين، فقال عليه السلام ما كل أحد يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، وإنما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم.
وروى عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن أبي الكنود عبدالرحمن بن عبيدة، قال لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له (عليه السلام) سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجبنا من بيعتك لمعاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد ولا حظا من العطية فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتابا بأن الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر. ولكنه أعطاك شيئا بينك وبينه لم يف به ثم لم يلبث ان قال على رؤوس الأشهاد أني كنت شرطت شروطا ووعدت عداة إرادة لإطفاء نار الحرب ومداراة لقطع الفتنة، فأما إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة فإن ذلك تحت قدمي، والله ما عنى بذلك غيرك، ولا أراد بذلك إلا ما كان بينه وبينك، قد نقض.
فإذا شئت فأعدت للحرب عدة، وأذن لي في تقدمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عاملها وأظهر خلعه نبذه، على سواء أن الله لا يحب الخائنين.
وتكلم الباقون بمثل كلام سليمان، فقال الحسن عليه السلام: أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أربض وأنصب، ما كان معاوية بأشد مني بأسا ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكني أرى غير ما رأيتم وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله وسلموا لأمره وألزموا بيوتكم وامسكوا. أو قال: كفوا أيديكم حتى يستريح برأ ويستراح من فاجر. وهذا كلام منه عليه السلام يشفي الصدور ويذهب بكل شبهة.
وقد روي انه عليه السلام لما طالبه معاوية بأن يتكلم على الناس ويعلمهم ما عنده في هذا الباب، قام (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ان أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور. أيها الناس انكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلس رجلا جده رسول الله صلى الله عليه وآله ما وجدتموه غيري، وغير أخي الحسين عليه السلام، وان الله قد هداكم بأولنا محمد صلى الله عليه وآله، وان معاوية نازعني حقا هو لي فتركته لصلاح الأمة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على ان تسالموا من سالمت وقد رأيت ان أسالمه ورأيت ان ما حقن الدماء خير مما سفكها، وأردت صلاحكم وان يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر، وان ادري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
وكلامه عليه السلام في هذا الباب الذي يصرح في جميعه بأنه مغلوب مقهور ملجأ إلى التسليم دافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين أشهر من الشمس وأجلى من الصبح. فأما قول السائل انه خلع نفسه من الإمامة فمعاذ الله، لان الإمامة بعد حصولها للإمام لا تخرج عنه بقوله. وعند أكثر مخالفينا أيضا في الإمامة أن خلع الإمام نفسه لا يؤثر في خروه من الإمامة، وإنما ينخلع من الإمامة عندهم وهو حي بالأحداث والكبائر، ولو كان خلعه نفسه مؤثرا لكان انما يؤثر إذا وقع إختيارا.
فأما مع الإلجاء والإكراه، فلا تأثير له لو كان مؤثرا في موضع من المواضع، ولم يسلم أيضا الأمر إلى معاوية بل كف عن المحاربة والمغالبة لفقدان الأعوان وإعواز النصار وتلافي الفتنة على ما ذكرناه، فتغلب عليه معاوية بالقهر والسلطان مع أنه كان متغلبا على أكثره، ولو أظهر التسليم قولا لما كان فيه شئ إذا كان عن إكراه واضطهاد.
وأما البيعة فإن أريد به الصفقة وإظهار الرضا والكف عن المنازعة فقد كان ذلك لكنا قد بينا جهة وقوعه والأسباب المحوجة إليه، ولا حاجة في ذلك عليه عليه السلام.
كما لم يكن في مثله حجة على أبيه عليه السلام لما بايع المتقدمين عليه، وكف عن نزاعهم وامسك عن خلافهم، وإن أريد بالبيعة الرضى وطيب النفس، فالحال شاهدة بخلاف ذلك، وكلامه المشهور كله يدل على انه (عليه السلام) أحوج وأحرج، وأن الأمر له وهو أحق الناس به.
وإنما كف عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين. وأما أخذ العطاء فقد بينا في هذا الكتاب عند الكلام فيما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك من أخذه من يد الجائر الظالم المتغلب جائز، وأنه لا لوم فيه على الأخذ ولا حرج.
وأما أخذ الصلات فسايغ بل واجب لان لكل مال في يد الجائر المتغلب على أمر الأمة يجب على الإمام وعلى جميع المسلمين انتزاعه من يده كيف ما أمكن بالطوع أو الإكراه، ووضعه في مواضعه.
فإذا لم يتمكن من إنتزاع جميع ما في يد معاويه من أموال الله تعالى وأخرج هو شيئا منها إليه على سبيل الصلة، فواجب عليه أن يتناوله من يده ويأخذ منه حقه ويقسمه على مستحقه لان التصرف في ذلك المال بحق الولاية عليه لم يكن في تلك الحال إلا له، وليس لأحد أن يقول أن الصلات التي كان يقبلها من معاوية إنما كان ينفقها على نفسه وعياله، ولا يخرجها إلى غيره وذلك ان هذا مما لا يمكن أحد أن يدعي العلم به والقطع عليه ولا شك أنه عليه السلام كان ينفق منها لان فيها حقه وحق عياله وأهله، ولا بد من أن يكون قد أخرج منها إلى المستحقين حقوقهم وكيف يظهر ذلك وهو عليه السلام كان قاصدا إلى إخفائه ستره لمكان التقية، والمحوج إليه إلى قبول تلك الأموال على سبيل الصلة هو المحوج له إلى ستر إخراجها وإخراج بعضها إلى مستحقها من المسلمين. وقد كان عليه السلام يتصدق بكثير من أمواله ويواسي الفقراء ويصل المحتاجين. ولعل في جملة ذلك هذه الحقوق.
فأما إظهاره (عليه السلام) موالاته، فما أظهر عليه السلام من ذلك شيئا كما لم يبطنه. وكلامه فيه بمشهد معاوية ومغيبه معروف ظاهر يشهد بذم معاوية ومعائبه، ولو فعل ذلك خوفا واستصلاحا وتلافيا للشر العظيم لكان واجبا، فقد فعل أبوه عليه السلام مثله مع المتقدمين عليه وأعجب من هذا كله دعوى القول بإمامته ومعلوم ضرورة منه (عليه السلام) خلاف ذلك، وأنه كان يعتقد ويصرح بأن معاوية لا يصلح أن يكون بعض ولاة الإمام ولا تباعه فضلا عن الإمامة نفسها، وليس يظن مثل هذه الأمور الا عامي حشوي قد قعد به التقليد.
وما سبق إلى اعتقاده من تصويب القوم كلهم عن التأمل وسماع الأخبار المأثورة في هذا الباب فهو لا يسمع إلا بما يوافقه. وإذا سمع لم يصدق إلا بما أعجبه والله المستعان 2.
- 1. حجر بن عدي الكندي: من صلحاء الصحابة. قاتل في فتوح فارس. كان مع علي في الجمل والنهروان وصفين. قاوم معاوية. قبض عليه وأمر معاوية بقتله في مرج عذراء شرقي دمشق.
- 2. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 221 ـ 226.