مكّن جيش بني اُميّة من قتل وإبادة أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) إبادة تامة كما رأينا , ومَن قُطعت يده أو رجله منهم وسقط بينهم , ووقع أسيراً بأيديهم ذبحوه صبراً كما تُذبح الأضاحي , وجزّوا رأسه .
والجرم الذي ارتكبه أصحاب الإمام (عليهم السّلام) أنهم بذلوا كلَّ جهودهم للحيلولة بين جيش بني اُميّة وبين هدفه الرامي إلى قتل الإمام الحسين بن فاطمة بنت محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وإلى إبادة آل محمّد وأهل بيته وذوي قرباه .
أمّا وقد قُتل أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) عن بكرة أبيهم فإنّ الجيش الاُموي وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) الذين صمّموا تصميماً نهائياً على أن يخوضوا لُجج المنايا ؛ جهاداً في سبيل الله , وإعلاء لكلمته , وطمعاً برضوانه .
علي الأكبر أوّل البارزين للقتال
كان أوّل البارزين للقتال من أهل بيت الحسين (عليه السّلام) بعد مقتل أصحابه ابنه الأكبر علي , وكان له من العمر يومئذ سبع وعشرون سنة , وكان من أكثر أهل البيت شبهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وكان شجاعاً مهاباً , وجواداً معدوداً في أسخياء العرب , وكانت داره موئلاً للضيوف وأصحاب الحاجات .
يقول الشاعر في مدحه :
لـم تـرَ عينٌ نظرت مثلَه من محتفٍ يمشي ومن ناعلِ
يـغلي بـنيء الـلحمِ حتّى إذا أُنـضج لـمْ يـغلِ عـلى الآكلِ
كــان إذا شـبّـت لـه نـارُه أوقـدهـا بـالـشرفِ الـقـابلِ
كـيـما يـراها بـائسٌ مُـرملٌ أو فــردُ حـيٍّ لـيس بالآهلِ
لا يـؤثـر الـدنيا عـلى ديـنهِ و لا يـبيع الـحقَّ بـا لـباطلِ
أعني ابنَ ليلى ذا الندى والسَّدى أعـني ابنَ بنت الحسب الفاضلِ
وبعد أن أذن له الإمام (عليه السّلام) بالخروج , تقدّم صوب العدو وهو يرتجز قائلاً :
أنـا عليُّ بنُ الحسين بن علي نـحنُ و بيتِ الله أولى بالنبي
واللهِ لا يـحكم فينا ابنُ الدعي أضربُ بالسيفِ اُحامي عن أبي
ضـربَ غُـلامٍ هاشميٍّ علوي
ولمّا رآه الإمام الحسين (عليه السّلام) رفع شيبته نحو السماء وقال : (( اللّهمَّ اشهد على هؤلاء القوم , فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله) , وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه . اللّهمَّ امنعهم بركات الأرض , وفرّقهم تفريقاً , ومزّقهم تمزيقاً , واجعلهم طرائقَ قِدداً , ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً ؛ فإنهم دعونا لينصرونا , ثمَّ عدوا علينا يقاتلوننا )) .
وصاح الإمام الحسين (عليه السّلام) بأعلى صوته : (( يا عمر بن سعد , ما لك ؟! قطع الله رحمك , ولا بارك الله لك في أمرك , وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي , ولم تحفظ قرابتي من رسول الله )) .
ولمح الإمام (عليه السّلام) ابنه عليّاً وهو يصول ويجول , فرفع الحسين (عليه السّلام) صوته بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [آل عمران : 33، 34].
ورجع علي بن الحسين إلى أبيه (عليه السّلام) فقال : يا أبتِ , العطش قد قتلني , وثقل الحديد أجهدني , فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟
فبكى الإمام الحسين (عليه السّلام) , ثمَّ قال : (( يا بُني , يعزّ على محمّد , وعلى علي , وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يُجيبونك , وتستغيث بهم فلا يغيثونك ! يا بُني , هات لسانك )) .
فأخذ بلسانه فمصّه , ودفع إليه خاتمه وقال : (( خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك ؛ فإنّي أرجو أنك لا تُمسي حتّى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً ))(1) .
وقال أبو الفرج الأصفهاني : إنّ أوّل قتيل من ولد أبي طالب مع الحسين ابنه علي (عليه السّلام) .
وقال : لما برز علي بن الحسين إليهم أرخى الحسين عينيه وبكى , وقال : (( اللّهمَّ أنت الشهيد عليهم , فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الخلق برسول الله )) . فجعل يشدّ عليهم , ثمَّ يرجع إلى أبيه فيقول : يا أبه , العطش ! فيقول له الحسين (عليه السّلام) : (( اصبر حبيبي ؛ فإنك لا تمسي حتّى يسقيك رسول الله بكأسه )) .
وجعل يكرّ كرّة بعد كرة حتّى رُمي بسهم في حلقه فمزّقها , وأقبل يتقلّب في دمه , ثمَّ نادى : يا أبتاه ! عليك السّلام , هذا جدي رسول الله يُقرئك السّلام ويقول : (( عجّل القدوم علينا )) . ثمَّ شهق ومات(2) .
قال الطبري : قال حميد بن مسلم : فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور , وتقول : وا حبيباه ! يا ثمرة فؤاداه ! يا نور عيناه ! فسألت عنها , فقيل : هي زينب بنت علي . وجاءت وانكبّت عليه , فجاء الحسين (عليه السّلام) وأخذ بيدها إلى الفسطاط , وأقبل على فتيانه وقال : (( احملوا أخاكم )) . فحملوه من مصرعه , فجاؤوا به حتّى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه(3) .
قال أبو مخنف : ثمَّ إنه وضع ولده في حجره , وجعل يمسح الدم عن ثناياه , وجعل يلثمه ويقول : (( أمّا أنت فقد استرحت من همِّ الدنيا وغمِّها وشدائدها ,
وصرت إلى رَوحٍ وريحان , وبقي أبوك , وما أسرع اللحوق بك ))(4) .
قال القندوزي : إنّ الإمام (عليه السّلام) قال : (( لعن الله قوماً قتلوك يا ولدي , ما أشدّ جرأتهم على الله , وعلى انتهاك حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ! )) .
وأهملت عيناه بالدموع , وصرخت النساء فسكتهنّ الإمام (عليه السّلام)(5) , وقال : (( اسكتن ؛ فإنّ البكاء أمامكنّ )) , وفي رواية اُخرى أنّ الإمام (عليه السّلام) لما رأى ولده الشهيد قال : (( يا ثمرة فؤاداه ! يا قرّة عيناه ! ))(6) .
القاسم بن الحسن (عليه السّلام)
وخرج من بعد علي الأكبر ابن الحسين القاسمُ بن الحسن , وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم , فلما نظر إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) اعتنقه , وجعلا يبكيان حتّى غُشي عليهما , فاستأذن الغلام , فأبى الحسين (عليه السّلام) أن يأذن له , فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتّى أذن له . فخرج الغلام ودموعه تسيل على خديه , وهو يقول :
إن تـنكروني فأنا ابنُ الحسنْ سبطِ النبي المصطفى والمُؤتمنْ
هـذا حـسينٌ كالأسير المُرتهنْ بين اناس لا سُقوا صوب المُزنْ
وكان وجهه كفلقة القمر , فقاتل قتالاً شديداً , وقتل خمسة وثلاثين رجلاً .
قال حميد بن مسلم: كنت في عسكر ابن سعد , فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص وإزار , ونعلان قد انقطع شسع أحدهما , ما أنسى أنه اليسرى , فقال عمرو بن سعد الأزدي : والله , لأشدن عليه .
فقلت : سبحان الله ! وما تُريد بذلك ؟! والله , لو ضربني ما بسطت إليه يدي , يكفيه هؤلاء الذين احتوشوه .
فقال : والله لأفعلنّ .
فشدّ عليه وضرب رأسه بالسيف , ووقع الغلام لوجهه ونادى : يا عمّاه ! فجاء الحسين (عليه السّلام) كالصقر المنقضّ , فتخلل الصفوف , وشدّ شدة الليث وضرب عمراً قاتله بالسيف , فاتقاه بيده فقطعها من المرفق , وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمراً من الحسين , فاستقبلته بصدورها , وجرحته بحوافرها , ووطأته حتّى مات .
فانجلت الغبرة وإذا بالحسين (عليه السّلام) قائم على رأس الغلام , وهو يفحص برجليه , فقال الحسين (عليه السّلام) : (( عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يُجيبك , أو يُجيبك فلا يُعينك , أو يُعينك فلا يُغني عنك . بُعداً لقوم قتلوك ! ))(7) . ثم احتمله حتّى ألقاه بين القتلى من أهل بيته .
ثمَّ رفع الإمام (عليه السّلام) يده إلى السماء وقال : (( اللّهمَّ أحصهم عدداً , واقتلهم بدداً , ولا تغادر منهم أحداً , ولا تغفر لهم أبداً . صبراً يا بني عمومتي , لا رأيتم [هواناً] بعد هذا اليوم أبداً ))(8) .
مقتل آل عقيل بن أبي طالب
1 ـ استأذن عبد الله بن مسلم بن عقيل الإمامَ ليخرج للقتال , فقال له الإمام (عليه السّلام) : (( أنت في حلٍّ من بيعتي , حسبك قتل أبيك مسلم , خذ بيد اُمّك واخرج من هذه المعركة ))(9) .
فقال عبد الله : لستُ ممن يؤثر دنياه على آخرته . وما زال بالإمام (عليه السّلام) حتّى أذن له , فخرج وقاتل حتّى قُتل , فلما نظر إليه الإمام (عليه السّلام) قال : (( اللّهمَّ اقتل قاتلَ آل عقيل )) . ثمّ قال : (( احملوا عليهم , بارك الله فيكم , وبادروا إلى الجنّة التي هي دار الإيمان ))(10) .
2 ـ وبرز جعفر بن عقيل بن أبي طالب فقاتل حتّى قُتل(11) .
3 ـ وبرز عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقاتل حتّى قُتل(12) .
4 ـ وبرز عبد الله بن عقيل بن أبي طالب فقاتل حتّى قُتل(13) .
5 ـ وبرز محمّد بن سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقاتل حتّى قُتل(14) .
مقتل آل جعفر بن أبي طالب
1 ـ برز محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقاتل حتّى قُتل(15) .
2 ـ وبرز عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقاتل حتّى قُتل(16) .
مقتل أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)
1 ـ برز أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب , فقاتل حتّى قتله عبد الله بن عقبة الغنوي , أو عقبة الغنوي(17) .
2 ـ وبرز القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب , فقاتل حتّى قتله عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي(18) . 3 ـ وبرز عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب , فقاتل حتّى قُتل , وكان عمره إحدى عشرة سنة , قتله حرملة بن كاهل الأسدي(19) .
مصرع العباس بن علي وسائر إخوة الحسين (عليهم السّلام)
استشهد في كربلاء خمسة من إخوة الحسين (عليه السّلام) , وهم : العباس , وعبد الله , وجعفر , وعثمان , ومحمّد الأصغر .
وكان العباس أكبر هؤلاء الأبرار الذين ضربوا أروع الأمثال في التضحية والفداء , لا من منطلق صلة الرحم والقرابة القريبة التي تربطهم بأخيهم فحسب , بل من منطلق نصرة الحق ومقاومة الطغيان والباطل في المقام الأوّل .
وقد كان للعباس يومئذ من العمر أربعة وثلاثون سنة , وكان ـ كما يقول صاحب مقاتل الطالبيِّين ـ رجلاً وسيماً , يركب الفرس المطّهم ورجلاه تخطّان في الأرض , وكان يقال له : قمر بني هاشم . وكان لواء الحسين (عليه السّلام) معه يوم قُتل , وكان آخرَ مَن قُتل من إخوته لاُمّه وأبيه(20) .
وقد ضم ديوان بطولات العباس (عليه السّلام) ومواقفه الكريمة الشجاعة في واقعة كربلاء صفحات كثيرة مضيئة , لكن أكثرها إضاءة وشهرة مواساته لأخيه الحسين (عليه السّلام) بنفسه ؛ إذ أبى أن يذوق الماء , وقد كان واقفاً في لجّته , وكبده تتلظى من العطش ؛ لآن الحسين (عليه السّلام) وعياله عطاشى لم يذوقوا قطرة منه منذ أيام .
وقد شهد له بهذه المواساة الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السّلام) حينما وقف على قبره وقال : (( أشهدُ لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك , فنعم الأخ المواسي )) .
كما شهد له بها الإمام محمّد بن الحسن المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في الزيارة المعروفة عنه بزيارة الناحية : (( السّلام على أبي الفضل العباس , المواسي أخاه بنفسه , الآخذ لغده من أمسه , الواقي له , الساعي إليه بمائه , المقطوعة يداه )) .
وقد روى أصحاب المقاتل في كيفية مصرعه : إنه لم يستطع صبراً على البقاء بعد استشهاد صحبه وأهل بيته , وطلب الأذن من الحسين (عليه السّلام) , فأمره الحسين (عليه السّلام) أن يطلب الماء للأطفال , فذهب إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبار , فلم ينفع .
ثمَّ رجع إلى أخيه يخبره , فسمع الأطفال يتصارخون من العطش , فلم تتطامن نفسه على هذه الحال , وثارت به الحمية الهاشميّة , وركب جواده وأخذ القربة , فأحاط به أربعة آلاف مقاتل ورموه بالنبال , فلم ترعه كثرتهم , وأخذ يطردهم , ونزل إلى الفرات مطمئناً , ولما اغترف من الماء ليشرب تذكّر عطش الحسين (عليه السّلام) ومَن معه , فرمى الماء وأبى أن يشرب ؛ مواساةً لأخيه الحسين (عليه السّلام) .
ثمَّ ملأ القربة وركب جواده وتوجّه نحو المخيم , فقُطع عليه الطريق , وجعل يضرب حتّى أكثر القتل فيهم , وكشفهم عن الطريق , فكمن له عدوّ من الأعداء من وراء نخلة فضربه على يمينه فبراها , فقال عندئذ :
واللهِ إن قـطعتموا يميني إنّي اُحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادقِ اليقيني نجلِ النبي الطاهر الأمينِ
فلم يعبأ بيمينه بعد أن كان همّه إيصال الماء إلى أطفال الحسين (عليه السّلام) وعياله , لكن حكيم بن طفيل كمن له من وراء نخلة , فلما مرّ به ضربه على شماله فقطعها , وتكاثروا عليه , وأتته السهام كالمطر ؛ فأصاب القربة سهم واُريق ماؤها , وسهم أصاب صدره , وضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته , وسقط على الأرض ينادي : عليك منّي السّلام أبا عبد الله .
فأتاه الحسين (عليه السّلام) وقال عند مصرعه : (( الآن انكسر ظهري , وقلّت حيلتي )) .
1ـ برز عبد الله بن علي بن أبي طالب , فقاتل حتّى قتله هاني بن الحضرمي(21) .
2 ـ وبرز جعفر بن علي بن أبي طالب , فقاتل حتّى قُتل وعمره 19 سنة , وقتله قاتل أخيه عبد الله نفسه(22) .
3ـ وبرز عثمان بن علي بن أبي طالب , وكان عمره 21 عاماً , فقاتل حتّى رماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم فأضعفه , ثمَّ شدّ عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله(23) .
4 ـ وبرز محمّد «الأصغر» ابن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , وقاتل حتّى قتله رجل من تميم من بني أبان بن دارم(24) .
5 ـ العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , وهو حامل اللواء , وأكبر إخوة الإمام (عليه السّلام) , وسنفرد له بحثاً(25) .
نداء مؤثّر , ومصرع طفل الحسين الرضيع
ولما فُجع الإمام الحسين (عليه السّلام) بأهل بيته وولده , ولم يبق غيره وغير النساء والأطفال , وغير ولده المريض , أشرف على جيش بني اُميّة , ونادى بأعلى صوته : (( هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟ هل من مُعين يرجو ما عند الله في إعانتنا ؟ )) .
سمع جيش الفرعون كله هذه الاستغاثات , وعلى إثرها ارتفعت أصوات الأطفال بالعويل , وكان جيش الخلافة يسمع ويرى كل شيء .
ثمّ بعد ذلك دعا ابنه عبد الله ( الرضيع ) , فجعل يقبّله وهو يقول : (( ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان جدّك محمّد المصطفى خصمهم ! )) . وكان الصبي في حجر أبيه الحسين (عليه السّلام) , وكان جيش الخلافة وقادته يتفرّجون , فأراد أحدهم أن يثبت للجيش دقته بالرماية , وهو حرملة بن كاهل الأسدي , فسدّد سهماً إلى رقبة الصبي فذبحه وهو في حجر أبيه الحسين (عليه السّلام) , فتلقّى الحسين (عليه السّلام) دمه حتّى امتلأت كفّه , ثمَّ رمى به إلى السماء , ثمَّ قال : (( هوّن عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله )) .
قال الإمام محمّد الباقر (عليه السّلام) : (( فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض )) .
قالوا : ثمَّ قال : (( لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح . اللّهمَّ إن كنت حبست عنّا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا ))(26) .
وقالوا : إنه قال : (( اجعل ذلك لما هو خير , وانتقم لنا من هؤلاء
الظالمين(27) , واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل . اللّهمَّ أنت الشاهد على قومٍ قتلوا أشبه الناس برسولك محمّد … ))(28) .
مصرع طفل مذعور , ونموذج من أخلاق جيش بني اُميّة
روى الطبري في تاريخه عن هانيء بن ثبيت الحضرمي , قال : كنت ممّن شهد قتل الحسين . قال : فو الله , إنّي لواقف عاشر عشرة ليس من رجل إلاّ على فرس , وقد جالت الخيل وتضعضعت , إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية , عليه إزار وقميص , وهو مذعور يتلفّت يميناً وشمالاً , فكأني أنظر إلى درّتين في اُذنيه تذبذبان كلّما التفت , إذ أقبل رجل يركض حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه , ثمَّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف .
قال الراوي : هانيء بن ثبيت هذا هو الذي قطع الغلام بالسيف , فلما عتب عليه كنّى عن نفسه .
مقتل الإمام الحسين (عليه السّلام)
تقدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) نحو القوم مصلتاً سيفه , آيساً من الحياة , ودعا جيش الخلافة إلى المبارزة , فلم يزل يقتل كلَّ مَن برز إليه حتّى قتل جمعاً كثيراً(29) , ثمَّ حمل الإمام (عليه السّلام) على ميمنة القوم وهو يقول :
الموتُ أولى من ركوبِ العارِ والعارُ أولى من دخولِ النارِ(30)
ثمَّ حمل على الميسرة وهو يقول :
أنـا الـحسينُ بـنُ علي آلــيـت ألاّ أنـثـنـي
أحـمـي عـيالاتِ أبـي أمضي على دينِ النبي (31)
قال عبد الله بن عمار بن يغوث : ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده , وأهل بيته وصحبه أربط جأشا منه , ولا أمضى جناناً , ولا أجرأ مقدماً ! ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها , ولم يثبت له أحد(32) .
صاح عمر بن سعد بن أبي وقاص بجيشه قائلاً : هذا ـ يعني الحسين (عليه السّلام) ـ ابن الأنزع البطين ـ يعني عليّاً (عليه السّلام) ـ هذا ابن قتّال العرب , احملوا عليه من كلِّ جانب .
فأتته أربعة آلف نبلة(33) , وحال الرجال بينه وبين رحله .
صيحة الحسين (عليه السّلام)
فصاح الإمام الحسين (عليه السّلام) بجيش الخلافة قائلاً : (( يا شيعة آل أبي سفيان , إنْ لم يكن لكم دين , وكنتم لا تخافون المعاد , فكونوا أحراراً في دنياكم , وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كُنتم عُرباً كما تزعمون )) .
فناداه شمر بن ذي الجوشن : ما تقول يابن فاطمة ؟
فأجابه الإمام (عليه السّلام) : (( أنا الذي اُقاتلكم , والنساء ليس عليهنّ جناح , فامنعوا عتاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً )) .
فقال شمر بن ذي الجوشن : لك ذلك .
استمرار القتال , ومحاولة لشرب الماء
وقصد جيش الخلافة الإمامَ (عليه السّلام) , واشتد القتال , الجيش «الإسلامي» كلّه يواجه رجلاً واحداً وهو ابن بنت الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وقاتل الإمام (عليه السّلام) بقدرة خارقة , واشتد به العطش ؛ لأنّ جيش الفرعون منع عنه وعن أهل بيته وأصحابه الماء منذ قرابة اُسبوع , فحمل الإمام (عليه السّلام) من نحو نهر الفرات على عمرو بن الحجاج , وكان في أربعة آلاف , فكشفهم من الماء .
ولغ الفرس ليشرب , قال الإمام (عليه السّلام) : (( أنت عطشان وأنا عطشان , فلا أشرب حتّى تشرب أنت )) . فرفع الفرس رأسه كأنه قد فهم كلام الإمام (عليه السّلام) , ولمّا مدّ الإمام يده ليشرب قال له رجل : أتلتذّ بالماء وقد هُتكت حرمُك ؟
فرمى الماء ولم يشرب , وقصد الخيمة(34) .
الإمام (عليه السّلام) يودّع أهله ثانية
ودّع الإمام (عليه السّلام) عياله ثانية , وأمرهم بالصبر , وطلب منهم أن يستعدّوا للبلاء , وقال : (( اعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم , وسينجيكم من شرِّ الأعداء , ويجعل عاقبة أمركم إلى خير , ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة , فلا تشكوا , ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص من أقداركم )) .
عمر بن سعد يصدر أمراً عسكرياً جديداً , ودعاء للإمام (عليه السّلام)
قال عمر بن سعد : ويحكم ! اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه , والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم .
فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتّى تخالفت السهام بين أطناب الخيم , فحمل عليهم الإمام (عليه السّلام) كالليث الغضبان , فلا يلحق أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله , والسهام تأخذه من كلِّ ناحية , وهو يتّقيها بصدره ونحره , ثمَّ رجع إلى مركزه وأكثر من قول : (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم )) .
وطلب في هذه الحال ماءً , فقال شمر بن ذي الجوشن : لا تذوقه حتّى ترد النار . وناداه رجل : يا حسين , ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيات , فلا تشرب منه حتّى تموت عطشاً .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اللّهمَّ أمته عطشاً )) . فكان ذلك الرجل يطلب الماء , فيُؤتى به حتّى يخرج من فيه , وما زال كذلك إلى أن مات عطشاً(35) .
ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته , فنزعه وسالت الدماء على وجهه , فقال الإمام : (( اللّهمَّ إنك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة , اللّهمَّ أحصهم عدداً , واقتلهم بدداً , ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً , ولا تغفر لهم أبداً )) .
وصاح الحسين (عليه السّلام) بأعلى صوته : (( يا اُمّة السوء , بئسما خلفتم محمّداً في عترته ! أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله , بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي . وأيم الله , إنّي لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة , ثمَّ ينتقم لي منكم من
حيث لا تشعرون )) .
فقال الحصين : وبماذا ينتقم لك منا يابن فاطمة ؟
قال الإمام (عليه السّلام) : (( يلقي بأسكم بينكم , ويسفك دماءكم , ثمَّ يصبّ عليكم العذاب صبّاً ))(36) .
ووقف الإمام (عليه السّلام) عن القتال , ووقف يستريح , فرماه رجل بحجر على جبهته فسال دمه , فأخذ الثوب ليمسح دمه عن عينيه , وجاءه سهم له ثلاث شعب فوقع على قلبه , فقال الإمام (عليه السّلام) : (( باسم الله وبالله , وعلى ملة رسول الله )) . ورفع رأسه إلى السماء : (( إلهي , إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره )) .
وجاءه سهم في قفاه فأخرجه , وانبعث الدم كالميزاب(37) , فوضع يده الشريفة تحت الجرح , فلما امتلأت رمى بها نحو السماء وقال : (( هوّن عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله )) .
فلم تسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض(38) , ثمّ ملأ يده بالدم ولطخ به رأسه ووجهه ولحيته , وقال : (( هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسول الله وأنا مخضّب بدمي … ))(39) .
نداء الحسين (عليه السّلام) للأصحاب
نظر الإمام الحسين (عليه السّلام) يميناً وشمالاً فلم يرَ أحداً من أهله وأصحابه وأنصاره , فنادى : (( يا مسلم بن عقيل , ويا هاني بن عروة , يا حبيب بن مظاهر , يا زهير بن القين , يا يزيد بن مظاهر … )) , وسمّى الكثير من أصحابه , ثمَّ قال : (( يا علي بن الحسين , يا أبطال الصفا , ويا فرسان الهيجاء , ما لي اُناديكم فلا تجيبون , وأدعوكم فلا تسمعون ؟ أنتم نيّام ؟ أرجوكم تنتبهون , أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصرونه ؟ فهذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهنّ النحول , فقوموا من نومتكم أيها الكرام , وادفعوا عن حرم رسول الله الطغاة اللئام … )) .
ثمَّ أنشأ يقول :
قـومٌ إذا نـودوا لدفعِ ملمةٍ والخيلُ بين مدعّس ومكردسِ
لـبسوا القلوبَ على الدروعِ وأقبلوا يـتهافتون عـلى ذهـاب الأنـفسِ
نـصروا الـحسينَ فيا لهم من فتيةٍ عافوا الحياةَ و اُلبسوا من سندسِ (40)
قبل أن يُقتل الإمام (عليه السّلام)
قال أبو مخنف : إنّ حميد بن مسلم قال : سمعته يقول قبل أن يُقتل , وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع ؛ يتّقي الرمية , ويفترص العورة , ويشد على الخيل وهو يقول : (( أَعلى قتلي تحاثون ؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله أسخط عليكم لقتله منّي . وأيم الله , إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثمَّ ينتقم لي منكم )) .
أوامر قيادة جيش بني اُميّة
صاح شمر بن ذي الجوشن بجيش بني اُميّة : ويحكم ! ماذا تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم اُمّهاتكم ! فحمل عليه جيش الخلافة من كل جانب ؛ فضُربت كفه اليسرى ضربةً ضربها شريك التميمي , وضُرب على عاتقه , ثمَّ انصرفوا عنه .
وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح حتّى وقع , ونادت زينب بنت علي بن أبي طالب (عليهما السّلام) : وا أخاه ! وا سيّداه ! وا أهل بيتاه ! ليت السماء انطبقت على الأرض , وليت الجبال تدكدكت على السهل(41) .
وانتهت نحو الحسين (عليه السّلام) , وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه , والحسين (عليه السّلام) يجود بروحه الطاهرة , فصاحت زينب : أي عمر , أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته(42) .
وقالت السيدة زينب : ويحكم ! أما فيكم مسلم ؟! فلم يجبها أحد(43) .
ثمّ صاح ابن سعد بجيش بني اُميّة : انزلوا إليه وأريحوه . فبدر إليه شمر بن ذي الجوشن وضربه بالسيف اثني عشرة ضربة , واحتزّ رأسه المقدّس .
سلب الإمام بعد موته
وأقبل جيش بني اُميّة ليسلبوا الإمام القتيل ؛ فأخذ إسحاق بن حويه قميصه , وأخذ الأخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي عمامته , وأخذ الأسود بن خالد نعليه , وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأوردي , ويقال : إنّ الذي أخذ السيف رجل من بني تميم اسمه الأسود بن حنظلة .
ورأى أحدهم الخاتم في إصبع الإمام (عليه السّلام) والدماء عليه , فقطع إصبعه , وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته(44) , وسمي لذلك بقيس قطيفة(45) .
وحاول جيش الخلافة أن ينهب سروال الإمام (عليه السّلام) ويتركوه عارياً , ولكنهم فشلوا بمعجزة(46) .
قاتل الإمام يطلب الجائزة !
قال الناس لسنان بن أنس : قتلت الحسين بن علي , وابن فاطمة بنت رسول الله أعظم العرب خطراً , جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم , فأتِ اُمراءك فاطلب ثوابك منهم , إنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلاً !
فأقبل على فرسه , وكان [سجّاعاً] وبه لوثة حتّى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد , ثمَّ نادى بأعلى صوته :
أوقر ركابي فضةً أو ذهبا أنـا قتلتُ الملكَ المحجبا
قتلتُ خيرَ الناس اُمّاً وأبا وخيرهمْ إذ يُنسبون نسبا
فقال عمر بن سعد : أشهد أنك لمجنون , ما صححت قط ! أدخلوه عليَّ .
فلما اُدخل حذفه بالقضيب , ثمَّ قال : يا مجنون , أتتكلم بهذا الكلام ! أما والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك(47) .
لقد انصب اعتراض ابن سعد على مدح القاتل للحسين (عليه السّلام) .
جيش بني اُميّة يسلب وينهب ذرّية الرسول (صلّى الله عليه وآله)
لمّا قُتل الإمام الحسين (عليه السّلام) مال الجيش على ثقله ومتاعه , وانتهبوا ما في الخيام(48) , وأضرموا النار فيها , وتسابق القوم على سلب حرائر الرسول ؛ ففرّت حرائر الزهراء (عليها السّلام) حواسرَ مسلباتٍ باكيات(49) , وإنّ المرأة لتُسلب مقنعتها من رأسها , وخاتمها من إصبعها , وقرطها من اُذنها , والخلخال من رجلها(50) !
وساق رجال جيش بني اُميّة النساء بأكعاب رماحهم , وهنّ يلذن بعضهن ببعض(51) , وأقبل ابن سعد , فبكت النساء , وكان القوم قد أخذوا كلَّ ما معهنّ , ولم يردّوا عليهنّ شيئاً(52) .
الخيل توطئ صدر الإمام (عليه السّلام) وظهره وهو ميّت
نادى ابن سعد : ألا مَن يُنتدب إلى الحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره ؟
فقام من الجيش عشرة(53) فداسوا بخيولهم جسد الإمام (عليه السّلام) , وأقبل العشرة على ابن زياد يرتجزون :
نحن رضضنا الصدرَ بعد الظهرِ بـكلِّ يـعبوبٍ شـديد الأسـرِ
فأمر لهم بجائزة(54) .
قطع رؤوس الشهداء , واقتسام قبائل العرب لهذا الشرف !
بعد ذلك أمر ابن سعد بقطع رأس الإمام الحسين (عليه السّلام) ورؤوس الشهداء من أهل بيته وأصحابه(55) , وأخذت كلُّ قبيلة من قبائل العرب رؤوس ضحاياها .
قال أبو مخنف : فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً , وصاحبهم قيس بن الأشعث , وجاءت هوازن بعشرين رأساً , وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن , وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً , وجاءت بنو أسد بستة رؤوس , وجاءت مذحج بسبعة رؤوس , وجاء سائر الجيش بسبعة رؤوس(56) .
وحمل جيش بني اُميّة المنتصر الرؤوس على أطراف الرماح(57) .
وساقوا حرم الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما تُساق الاُسارى
قال ابن أعثم في الفتوح , والخوارزمي في مقتل الحسين (عليه السّلام) وغيرهما : وساق القوم حرم رسول الله كما تُساق الاُسارى , حتّى إذا بلغوا الكوفة خرج الناس ينظرون إليهم , وجعلوا يبكون ويتوجعون , وعلي بن الحسين مريض مغلول , مكبّل بالحديد , قد نهكته العلة , فقال (عليه السّلام) : (( ألا إنّ هؤلاء يبكون ويتوجعون من أجلنا , فمَن قتلنا إذاً ؟! )) .
خطبة السيدة زينب (عليها السّلام) في أهل الكوفة
لمّا وصلت ركب اُسارى آل محمّد إلى الكوفة , خرج أهل الكوفة يتفرّجون ويبكون , فوقفت السيدة زينب وألقت كلمة جاء فيها : يا أهل الكوفة , يا أهل الختل والخذل والغدر , أتبكون ؟! … أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم , وأيَّ دمٍّ له سفكتم , وأيَّ كريمة له أبرزتم , وأيَّ حريم له أصبتم , وأيَّ حرمة له انتهكتم ؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ! أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ! ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى وأنتم لا تُنصرون …
قال بشير : فوالله , لقد رأيت الناس يومئذ حيارى , كأنهم كانوا سكارى ؛ يبكون ويحزنون , ويتفجّعون ويتأسّفون , ونظرت إلى شيخ من أهل الكوفة كان واقفاً إلى جانبي قد بكى حتّى اخضلّت لحيته بدموعه , وهو يقول : صدقتِ بأبي واُمّي ! كهولكم خير الكهول , وشبّانكم خير الشبان , ونساؤكم خير النساء , ونسلكم خير نسل(58) .
خطبة فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام)
ثمَّ وقفت فاطمة بنت الحسين وألقت كلمة في أهل الكوفة , جاء فيها : … فكذّبتمونا , ورأيتم قتالنا حلالاً , وأموالنا نهباً , كأنّا أولاد ترك أو كابل , فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا , ونالت أيديكم من أموالنا , فكأن العذاب قد حلّ بكم , ألا لعنة الله على الظالمين(59) .
إرسال الاُسارى إلى (خليفة المسلمين) بغير وطاء
روى الطبري أنّ عبيد الله أمر بنساء الحسين (عليه السّلام) وصبيانه فجُهّزن , وأمر بعلي بن الحسين فغُلّ بغلٍّ إلى عنقه , ثمَّ سرح بهم .
وقال ابن أعثم : دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي فسلّم إليه رأس الحسين بن علي , ورؤوس إخوته , ورأس علي بن الحسين , ورؤوس أهل بيت النبوة , ورؤوس شيعة الإمام الحسين , ودعا علي بن الحسين فحمله وحمل إخوته , وعماته وجميع نسائهم إلى يزيد بن معاوية , وسار القوم بحرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من
الكوفة إلى بلاد الشام , على محامل بغير وطاء , من بلد إلى بلد , ومن منزل إلى منزل كما تُساق اُسارى الترك والديلم(60) .
ووضعت الرؤوس بين يدي (أمير المؤمنين) !
ولما وُضعت رؤوس الشهداء بين يدي (أمير المؤمنين وخليفة رسول ربِّ العالمين) يزيد بن معاوية بن أبي سفيان , جعل يتمثّل بأبيات ابن الزبعرى :
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا … إلخ(61)
وظهر يزيد بن معاوية على حقيقته , وتجاهلت الجموع الذليلة عفوية يزيد بإظهار حقيقة مشاعره , وتابعت سيرها على درب الطاعة لتضمن استمرار العطاء والرزق الشهري الذي يصلها من خزائن دولة الخلافة . واستُجيبت دعوة الإمام (عليه السّلام) , وسقط نظام الخلافة , وصارت الاُمّة أذلّ أمم الأرض .
_____________
(1) راجع الفتوح 5 / 13 , ومقتل الخوارزمي 2 / 30 , وأعيان الشيعة 1 / 607 , وبحار الأنوار 45 / 42 , والعوالم 17 / 285 , ومثير الأحزان / 69 , واللهوف / 49 , والفتوح لابن أعثم 5 / 131 , والموسوعة / 460 ـ 461 .
(2) مقاتل الطالبيِّين / 115 لأبي الفرج الأصفهاني , وبحار الأنوار 5 / 45 , وأعيان الشيعة 1 / 907 , والموسوعة / 462 .
(3) تاريخ الطبري 3 / 331 , والإرشاد / 239 , وذريعة النجاة / 128 , ومقتل الحسين لأبي مخنف / 129 , ومقتل الحسين للخوارزمي 2 / 31 , وبحار الأنوار 45 / 43 , والعوالم 17 / 285 , ووقعة الطفِّ / 241 , والبداية والنهاية 8 / 201 , ومثير الأحزان / 69 واللهوف / 49 , وأعيان الشيعة 1 / 607 .
(4) الدمعة الساكبة 4 / 331 .
(5) ينابيع المودة / 415 .
(6) ناسخ التواريخ 2 / 355 , والموسوعة / 461 ـ 463 .
(7) مقتل الحسين للخوارزمي 2 / 27 , وبحار الأنوار 45 / 35 , والعوالم 17 / 278 , والدمعة الساكبة 4 / 317 .
(8) مقاتل الطالبيِّين / 88 , وتاريخ الطبري 3 / 331 , والإرشاد / 239 , والكامل لابن الأثير 2 / 570 , والبداية والنهاية 8 / 202 , واللهوف / 50 , ومثير الأحزان / 69 , وأعيان الشيعة 1 / 608 .
(9) معالي السبطين 1 / 402 , وناسخ التواريخ 2 / 317 , والموسوعة / 469 .
(10) ينابيع المودة / 412 , ومعالي السبطين 1 / 403 , والموسوعة / 469 .
(11) ذكره الطبري في تاريخه , والمفيد في الإرشاد , والأصفهاني في المقاتل , والخوارزمي في مقتل الحسين . (انظر في كتاب أنصار الحسين / 133) .
(12) ذكرهم الطبري , والمفيد , والأصفهاني , والخوارزمي , والمسعودي (انظر أنصار الحسين / 130) .
(13) المصدر نفسه .
(14) المصدر نفسه.
(15) المصدر نفسه .
(16) المصدر نفسه.
(17) المصدر نفسه .
(18) المصدر نفسه .
(19) المصدر نفسه .
(20) المصدر السابق / 84 .
(21) ذكره الطبري , والمفيد , والأصفهاني , والخوارزمي . ( انظر أنصار الحسين / 13) .
(22) المصدر نفسه .
(23) المصدر نفسه .
(24) المصدر نفسه.
(25) المصدر نفسه .
(26) بحار الأنوار 45 / 46 , والعوالم 17 / 288 , واللهوف / 116 .
(27) تاريخ الطبري 3 / 331 , والكامل لابن الأثير 2 / 570 , ووقعة الطفِّ / 245 والإرشاد للمفيد / 240 , ومثير الأحزان / 70 .
(28) مقتل الحسين للمقرّم / 343 , وحياة الحسين 3 / 276 , والموسوعة / 476 .
(29) العوالم / 97 , ومثير الأحزان / 37 .
(30) في البيان والتبيين للجاحظ 3 / 171 طُبع تحت عنوان «كلام في الأدب» .
(31) المناقب لابن شهر آشوب 2 / 223 .
(32) تاريخ الطبري 6 / 259
(33) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 223 .
(34) البحار 10 / 104 , ومقتل العوالم / 98 , ونفس المهموم / 188 , والخصائص الحسينية / 46 , باب «خصائص الحيوانات» ، ومقتل المقرّم / 347
(35) مقاتل الطالبيِّين لأبي الفرج الأصفهاني / 47 .
(36) مقتل العوالم / 98 , ونفس المهموم / 189 , ومقتل الحسين للخوارزمي 2 / 24 .
(37) نَفَس المهموم / 189 , ومقتل الحسين للخوارزمي 2 / 24 , واللهوف / 18.
(38) تهذيب ابن عساكر .
(39) مقتل الحسين للخوارزمي / 34 , واللهوف / 70 .
(40) ناسخ التواريخ 2 / 277 , ومعالي السبطين 2 / 19 , ومقتل الحسين لأبي مخنف / 223 , والموسوعة / 483 ـ 484 .
(41) اللهوف / 73 .
(42) الكامل لابن الأثير 4 / 32 .
(43) الإرشاد للمفيد / 6 , ومقتل العوالم / 10 , ومقتل الحسين للخوارزمي 2 / 37 , وراجع معالم المدرستين 3 / 132 وما فوق , ومقتل الحسين (عليه السّلام) للمقرم / 350 وما فوق .
(44) اللهوف / 73 .
(45) مقتل الحسين 2 / 38 , والكامل لابن الأثير 4 / 32 .
(46) مقتل الحسين للخوارزمي 2 / 102 .
(47) راجع معالم المدرستين 3 / 135 ـ 136 نقلاً عن أبي مخنف .
(48) الكامل لابن الأثير 4 / 32 .
(49) تاريخ الطبري 6 / 160 .
(50) مثير الأحزان لابن نما / 40 .
(51) سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 204 .
(52) الكامل لابن الأثير 4 / 32 .
(53) تاريخ الطبري 6 / 161 , والكامل لابن الأثير 4 / 33 , ومروج الذهب للمسعودي 2 / 91 , والخطط للمقريزي 2 / 281 , والبداية والنهاية لابن كثير 8 / 189 , وتاريخ الخميس 3 / 333 , ومناقب ابن شهر آشوب 2 / 224 .
(54) اللهوف / 75 , ومثير الأحزان / 41 , ومقتل الخوارزمي 2 / 39 .
(55) راجع تاريخ الطبري 5 / 455 ـ 456 , ومثير الأحزان / 65 , والأخبار الطوال / 259 , والإرشاد للمفيد / 43 , وبحار الأنوار 45 / 62 , واللهوف / 60.
(56) تاريخ الطبري 5 / 467 ـ 468 .
(57) الأخبار الطوال / 259 .
(58) الفتوح لابن أعثم 5 / 221 ـ 226 , ومقتل الخوارزمي 2 / 40 ـ 41 .
(59) مثير الأحزان / 66 ـ 69 .
(60) الفتوح لابن أعثم 5 / 236 .
(61) تقدّم ذكر هذه الأبيات في الفصل الخامس من الباب الثالث .
المصدر: http://h-najaf.iq