مقالات

مرجعيَّة الحكم على سند النصِّ الدينيِّ

بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم

بقلم: زكريَّا بركات
14 ربيع الآخر 1446 هـ

من البحوث المهمَّة التي يلزم إنجازُها والانتباه لنتيجتها في عمليَّة التفكير الدينيِّ: مصدر الاعتبار لسند النص الديني، والمقصود بذلك: التساؤل عن المرجعيَّة التي يتمُّ على أساسها منحُ القيمة السنديَّة واعتبار (جهة الصدور) للنصِّ الدينيِّ كمقدِّمة للاستدلال به في البحث الدينيِّ، أو الحكم على السند بالضعف للقول بعدم صلاحيَّة النصِّ للتمسُّك والاستدلال.

السائد بين أبناء الطوائف الإسلاميَّة ـ على اختلافها ـ أنَّ كلًّا منهم يستند في معرفة حكم السند ـ بشكلٍ مُطلقٍ ـ إلى علماء الطائفة التي ينتمي إليها، وهذا السلوك يواجه إشكاليَّة عقليَّةً في جملة من البحوث الدينيَّة المهمَّة جدًّا؛ ممَّا يعرقل حركة البحث ويعيق الباحثين عن الوصول إلى الحقِّ في تلك البحوث.

وحتى تتَّضح الإشكاليَّةُ العقليَّةُ المشار إليها؛ ينبغي التدبُّر في ترتيب المراحل التالية:

1 ـ مرحلة البحث في الأدلَّة ـ عقليَّةً ونقليَّةً ـ عن الفكر الدينيِّ الصحيح. (في هذه المرحلة يتم البحث عن الفكر الديني الصحيح، وتكون الطوائف كلها في نظر الباحث على حدٍّ سواء) .

2 ـ مرحلة اكتمال البحث السابق، والقدرة على الاستنتاج. (في هذه المرحلة يتَّضح للباحث ما هو الفكر الدينيُّ الصحيح) .

3 ـ مرحلة البحث والتعرُّف على الطائفة المحقَّة، وهي الفرقة صاحبةُ الفكرِ الدينيِّ الذي تبيَّن في المرحلة السابقة أنَّه الفكر الصحيح.

4 ـ مرحلة التعرُّف والارتباط بعلماء الطائفة المحقَّة، وهم رجال الدِّين المؤهَّلون ـ نفسيًّا وعقليًّا ـ لخوض غمار البحوث الدينيَّة العميقة والإفتاء بالاستناد إلى العقل والنقل وفق قواعد الطائفة المحقَّة.

5 ـ مرحلة الاستناد إلى آراء علماء الطائفة المحقَّة في الحكم على أسانيد النصوص الدينيَّة.

ومن هذا البيان للمراحلة يتَّضح أنَّ كلَّ استناد إلى علماء الطائفة التي ينتمي إليها الباحثُ من أجل معرفة حكم سند النصِّ الديني، يكون صحيحاً في المرحلة الخامسة فقط، أي إذا كان النصُّ الديني ـ نظراً إلى موضوعه ـ ممَّا يناسب أن يقع في المرحلة الخامسة، كما هو الحال في النصوص الدينيَّة المرتبطة بالأحكام الفقهية ـ مثلاً ـ ، بخلاف النصوص الدينيَّة التي ترتبط بأمَّهات المواضيع العقديَّة، كالإمامة ـ مثلاً ـ ؛ والسرُّ في ذلك أنَّ هذا القبيل من النصوص يمثِّل الأدلَّة التي تدخل في عمليَّة الاستدلال والبحث في المرحلة الأولى التي تهدف إلى الكشف عن الفكر الديني الصحيح، فالنصوص التي من هذا القبيل هي التي توصلُ الباحثَ إلى الفكر الديني الصحيح، فإذا عرف الفكر الديني الصحيح، عرف الطائفة المحقَّة، فإذا عرف الطائفة المحقَّة عرفَ العلماء المعتبرين، وإذا عرف العلماء المعتبرين ساغ له الاستناد إلى آرائهم وأحكامهم.. فيتَّضح من ذلك أنَّ النصوص الدينيَّة العقديَّة (في المرحلة الأولى) هي المرجع للحكم على العلماءِ ومنحِهِمُ الاعتبارَ، فلا يصحُّ أن يكون العلماء هم مصدر الحكم على أسانيد هذه النصوص؛ لأنَّ هذا يستلزم الدَّور الباطل.

وأمَّا النصوص الفقهيَّة ـ مثلاً ـ فهي ليست من موادِّ الاستدلال في المرحلة الأولى؛ ولذلك هي ليست مصدر معرفة اعتبار العلماء، فيصحُّ الاستناد إلى العلماء ـ بعد إنجاز المراحل بالترتيب المذكور ـ لمعرفة حكم الأسانيد في النصوص التي من هذا القبيل.

قد تسأل وتقول: فإذا كان لا يصحُّ الرجوعُ إلى العلماء لمعرفة حكم أسانيد الأحاديث في بحوث العقيدة؛ فما هي المرجعيَّة العلميَّة التي يلزم الاستناد إليها لمعرفة حكم السند؟

فالجواب: أنَّ ذلك يتمُّ من خلال مرجعيَّة العقل والمناهج العقلائيَّة، مثل الاستناد إلى التواتر.

فإن قلتَ: إنَّ غير العلماء والمختصِّين يصعب عليهم تمييز المتواتر والمجمع عليه.

قلنا: لذلك يجب على كلِّ مكلَّف أن يبذل الجهد لتثقيف نفسه؛ ليفهم معنى التواتر وغيره من الأمور المرتبطة بالبحث، ويستطيعَ تمييزَ الصِّدقِ من الكذب، ويكونَ من أولي الألباب الذين لا يسهل خِداعُهم من قِبَل الدجَّالين.

ولكي تزداد الفكرةُ وضوحاً؛ يحسن بنا أن نطبِّقها ـ باختصار ـ على بحث الإمامة، فنقول:

كثيراً ما تُطرح أحاديث في مبحث الإمامة، فيقول أحد الأطراف: هذا الحديث ضعيف عندنا..! ويشترط صحَّة السند عند علماء الطائفة التي ينتمي إليها. وهذا الحكم بالتضعيف ليس له قيمة؛ لأنه نابع من مصدر لم تثبت حقَّانيَّته بعدُ حسب رتبة البحث الجاري؛ لأنَّ حقَّانيَّة العلماء وقيمتهم إنما تثبت بعد ثبوت حقَّانيَّة الطائفة، وحقَّانيَّة الطائفة إنما تثبت بعد الخروج بنتيجة واضحة وقطعيَّة في بحث الإمامة، فلا يصحُّ التمسُّك بحكم علماء طائفة مُعيَّنة بضعف الحديث في مبحث الإمامة.

ومن هنا يتَّضح السبب في أنَّ بعض العلماء حين يخوض بحث الإمامة، ويسوق الأحاديث والأسانيد للتدليل على صحَّة مُدَّعاه في بحث الإمامة، لا يهتمُّ بأحكام علماء بعض الطوائف على الأسانيد، وبعبارة أصحَّ: لا يُقصي حديثاً لضعفه عند خصمه؛ والسبب في ذلك هو أنه لا يرى تضعيف الخصم ذا قيمة علميَّة في مرتبة البحث الجاري، ويعتقد ـ بحقٍّ ـ أنَّ الاعتبار السندي يلزم أن يستند إلى الأسس العقلية والعقلائيَّة، وهذه الأُسس ـ هنا ـ تتجلَّى في استقراء الطرُق والأسانيد، وتجميع القرائن، والاستشهاد بمختلف النصوص؛ بُغيةَ الوصول إلى العلم أو الاطمئنان من خلال التواتر أو الاستفاضة أو القرائن والشواهد.

وبهذا يتَّضح أنَّ ضعف السند عند طائفة معيَّنة لا يجعل أتباعها معذورين عن قبول النصِّ الذي يحتج به خصمهم عليهم في بحث الإمامة، كما إنَّ صحة سند حديث عندهم ـ أيضاً ـ في بحث الإمامة لا يعني بالضرورة تمامية العذر والحجِّية لهم؛ لأنَّ الصحيح من الآحاد، وقد تكون الطائفة برمَّتها ليست من أهل الحقِّ، فلا تكون للصحة السندية أيَّةُ قيمة؛ لأنها نابعة من حكم علماء الطائفة نفسها.

ومن هذا القبيل ـ أيضاً ـ اعتذارُ بعض المنتمين إلى المذهب الزيدي بأنَّ النص على الأئمة الاثني عشر (بأسمائهم) ليس مروياً في كتبهم، فلا يصحُّ الاحتجاج به عليهم من قبل الاثناعشرية؛ فإنه اعتذار لا قيمة له؛ لأنَّ على الزيدي أن يبحث عن حقَّانيَّة النص الذي يدَّعيه الاثنا عشري بغضِّ النظر عن طبيعة المصادر التي رُوي فيها النصُّ؛ لأنَّ الاثنا عشري والزيدي ـ في رتبة بحث الإمامة ـ على حدٍّ سواء، ومادام بحث الإمامة لم يصل إلى مرحلة الاستنتاج اليقيني، يبقى الزيدية ـ كالإمامية ـ في حكم المدَّعين، ولا يمكن الحكم لأحد الطرفين بالحقَّانية قبل إنجاز البحث في ضوء الأدلَّة المورثة لليقين، وبالتالي لا يصحُّ الحكمُ على النصِّ بالضعف لمجرَّد كونه غير مرويٍّ في كتب طرف من الأطراف؛ لأنَّ ذلك الطرف إذا كان هو المجانب للصواب والبعيد عن الحق، فعدم وجود النص في كتبه لا يوهنه ولا يقلِّل من قيمته.

فإن قيل: فالذي لا يكون النصُّ في كتبه التي يثق بصدقها، كيف يمكن الاحتجاج به عليه؟!

قلنا: إنَّ وثوقه بكتبه قبل إتمام بحث الإمامة هو خطأ في حدِّ ذاته؛ لأنَّه يثق بصدق من لم يثبت عنده صدقُه، وإنَّما يحقُّ له الوثوقُ بعد أن يعرف أنَّ طائفته هم أهل الحقِّ، ولا يَعرف ذلك إلَّا بعد إتمام بحث الإمامة والخروج بنتيجةٍ قطعيَّةٍ فيه، ولعلَّ علماء طائفته ليسوا على حقِّ؛ ولذلك كتموا نصوص الإمامة التي تدَّعيها الاثناعشريَّة، أو لم تُرْوَ النصوص عندهم لعدم مخالطتِهِم أهلَ الحقِّ الرُّواةَ لهذه النصوصِ.. هذا أمرٌ محتمَلٌ قبل الانتهاء من بحث الإمامة والخروج بنتيجة قطعيَّة.

فيلزم أن ينظر في دعوى الاثناعشرية وكيفيَّة احتجاجهم، فإن كانت النصوص التي يبرزونها مُكتَنَفةً بقرائنَ من العقل أو القرآن أو غير ذلك، ممَّا يدلُّ على صدقها يقيناً، فيلزمه التصديق.

ولا ريب أنَّ هذا النوع من البحوث يتطلَّب مستوًى عالياً من التقوى؛ لأنَّ من يخاف الله تعالى لا يُقصِّر في التحرِّي والبحث، ويتوخَّى الإنصاف، سواء كانت النتيجة لصالح طائفته أو لصالح طائفة أُخرى. وأمَّا من لا يخاف الله ولا يراقبه في بحوثه، فإنَّما يهمُّه أن يبدو منتصراً في عيون الخلق فقط، ولهذا يخذله الله تعالى، وقد لا يكون مضِلًّا لنفسه فحسب، بل سبباً في ضلال كثير من الناس، فيُضاعَف له العذابُ، ونعوذ بالله من ذلك.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا توفيقَ الطاعة وبُعد المعصية، وأن يُنير أبصار قلوبنا، ويهدينا لما يحبُّ ويرضى.

والحمدُ للّٰه ربِّ العالمين.

https://chat.whatsapp.com/Ip9Ybjmpvt50fxj9uMMmac

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى