ممّا لا شكّ فيه أنّ أبا الفضل العباس كان الشخصية الرئيسية الثانية بعد الإمام الحسين (عليه السلام) فهو أخوه، وحامل لوائه، والثائر معه ضدّ الظلم والطغيان المتمثلَيْنِ بالحكم الأموي الذي كان على رأسه يزيد الفاسق الفاجر.
ولا شكّ أن تميُّزَ العباس بمقامٍ خاص دون سائر شهداء كربلاء يشير إلى منزلةٍ خاصة ومرتبة رفيعة عند الله عزّ وجلّ، وهذه المنزلة لم تكن له لمجرّد أنّه أخو الحسين (عليه السلام)، بل لما هو أهم من ذلك وفق مقاييسنا الإسلامية القائمة على ميزان الصلاح والتقوى طبقاً لقوله: ﴿… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ … ﴾ 1.
وممّا يؤسف له أنّ سيرة العباس (عليه السلام) ليست متوافرة بشكلٍ كافٍ حتى يستطيع الإنسان أن يعطي صورة تفصيلية من حياة ذلك المجاهد المضحّي، إلّا أنّ مواقفه في كربلاء بالخصوص يمكن أن تلقي ضوءاً لا بأس به يشير بوضوحٍ إلى عظمة تلك الشخصية التي وقفت مع الحسين (عليه السلام) في أصعب الظروف إلى أن نالت درجة الشهادة الرفيعة والعظيمة في سبيل الله.
فالحسين (عليه السلام) قائد الثورة الهادفة إلى الإصلاح في مسيرة أمة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعباس ثائر على خطى قائده وسيده، يطيع الأمر المتوجّه إليه من موقع التابع الناصر لا من موقع الأخ المتابع لأخيه من دون وضوح السبب والرؤية، مع كمال التقدير منه والإحترام لموقع الإمام الحسين (عليه السلام) القيادي للأمة بالنص النبوي الخالد.
فالعباس الذي عاش أعلى درجات الوفاء لإمامه وقائده كما في الحادثة المعروفة عندما ذهب لإحضار الماء من نهر الفرات، حيث دفع جيش يزيد ووصل إلى النهر ومدّ يده ليشرب الماء فتذكّر أن سيّده لم يذق الماء، فيدفع به الإيثار والإخلاص إلى رمي ذلك الماء وعدم تذوّقه مع الحاجة الماسة إليه تحسّساً منه بعطش أخيه الذي هو في موقع القائد والإمام.
فهذا التصرّف يثبت بلا شكّ أنّ الأخ في الحسب والنسب عندما يتكامل مع الأخ في الدين والمعتقد والأهداف الرسالية يمكن أن يكون خير معينٍ ونصير، لأنّ مثل هذا الأخ العارف والبصير سوف لن يفوّت أيّة فرصة من أجل مساعدة أخيه في كلّ ما يمكن أن يحقّق التقدّم نحو الآمال المنشودة.
ولهذا نجد العباس في كربلاء لا يترك مناسبة للتعبير عن ولائه ووفائه للحسين (عليه السلام) إلّا ويقدم عليها، فتارةً يرفض أمان الأمويين الذي أعطوه له ولإخوته من أمه لأنّ لهم قرابة مع أحد قادة الجيش الأموي “شمر بن ذي الجوشن” ويجيبه العباس (عليه السلام): (لعنك الله، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء!).
وكذلك من المواقف المشهودة له والتي يمكن اعتبارها من الدروس البليغة جداً للمجاهدين هو ما قام به ليلة العاشر من المحرم عندما طلب الإمام الحسين (عليه السلام) من أصحابه أن يتركوه وحيداً ويتسلّلوا في الصحراء آخذين معهم أهل بيته، باعتبار أنّ الأمويين إذا ظفروا بالحسين (عليه السلام) لم يعد الآخرون هدفاً مهماً لهم نجد أنّ العباس ينتفض أمام كلّ ذلك الجمع من الأنصار ليقول: (لِمَ نفعل ذلك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً)، وكان هذا الموقف مشجّعاً للباقين على البقاء، بينما لو كان موقف العباس هو غير ذلك لعلّه كان قد أثار بعض الخوف والقلق في نفوس الآخرين.
ولهذا نجد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يدفع بالعباس إلى القتال في أول وقت المعركة، بل تركه إلى أواخر أوقاتها، نظراً للإطمئنان الذي كان يشعر به الحسين (عليه السلام) لوجود العباس قربه بسبب رابطة الأخوة المتكاملة من كلّ أطرافها في شخصية العباس الأخ المدافع والمحامي والمناصر.
فهل بعد هذا كلّه تكون ولادة الحسين (عليه السلام) في الثالث من شهر رمضان وولادة أبي الفضل العباس في الرابع منه مجرّد مصادفة، أم التفاتة إلهية كاشفة عن هذا الإرتباط الوثيق في المسير والمصير بين هاتين الشخصيّتين اللتين ميّزتا خط الشهادة بعطائهما في كربلاء؟ والحمد لله ربّ العالمين2.
- 1. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
- 2. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.