لا يتحقق التجديد في الفكر الإسلامي بطريقة المعادلات الرياضية الباردة، أو بطريقة القوانين العلمية الصارمة، ولا بطريقة آلية ميكانيكية جامدة، كما لا يتحقق التجديد من فراغ، أو بدون مقدمات وشروط، ولا بطريقة فورية، أو بمجرد التعبير عن الرغبة فيه، ولا بكثرة الحديث عنه، فالحديث عن التجديد ليس تجديداً بالضرورة.
ولا شك أن هذه الأمور هي من التقديرات الواضحة، والتي من السهولة تعقلها، والتسالم عليها، ولا تحتاج إلى جمع الأدلة للبرهنة عليها، فمن أين يبدأ التجديد إذاً؟
من الممكن القول، أن التجديد يبدأ منذ لحظة انبعاث روح جديدة متطلعة إلى التجديد في بنية الفكر، وسريان هذه الروح في جميع شرايينه، فمع انبعاث هذه الروح يتوثب الفكر نحو التجديد، فهذه اللحظة هي من لحظات اليقظة والوعي والإشعاع، حيث يكتشف الفكر فيها لحظته التاريخية للنهوض والانطلاق، وهي من اللحظات الفريدة التي لا تشرق على الفكر في أي وقت، ولا تمر عليه في كل حال، وهذا هو منشأ فرادة هذه اللحظة.
وحين تنبعث هذه الروح، فإنها تولد طاقة هائلة في الفكر، تدفع به نحو البقاء والاستمرار والتصميم على إنجاز مهمة التجديد، كما تتولد منه قوة، هي أشبه بقوة النمو التي لا تستطع أن تقف في طريقها أية قوة أخرى، فبقوة النمو يستطيع النبات أن يخترق الحجر وطبقة الإسفلت الصلبة، حتى يظهر إلى الوجود.
ومثل هذه اللحظة، ظهرت في الثقافة الإسلامية مع أول آية نزلت من الذكر الحكيم في قوله تعالى﴿ … اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ 1، فهذه الآية كانت بمثابة لحظة انبعاث روح جديدة في الأمة، وبهذه الروح تقدمت الأمة في مسيرتها نحو الحضارة والتقدم الحضاري.
وأمام هذه الآية توقف العديد من المفسرين والمفكرين، بحثاً وتأملاً في حكمة اختيارها، بوصفها نقطة الضوء الأولى، وبداية النور، ومنها نكتشف الروح العامة لهذا الدين العظيم، ولهذه الثقافة الإسلامية.
كما يمكن أن نكتشف مثل هذه اللحظة، في جميع الثقافات والحضارات التي نهضت وتقدمت وعرفت على ممر التاريخ بأطواره المختلفة.
والبحث عن التجديد في الفكر الإسلامي هو لإيقاظ هذه الروح في بنية هذا الفكر، لأن بدون إيقاظ هذه الروح لن يكون للتجديد فاعليته المنتظرة، ولن يكتب له البقاء والاستمرار، ولن يصل إلى مداه الذي يحقق فعل التجديد.
وهنا يأتي السؤال، كيف نوقظ روح التجديد في الفكر الإسلامي؟
في البدء لابد من القول بأن ليست هناك إجابة واحدة ونهائية، وتكون جازمة وقاطعة لهذا السؤال، لأن من الممكن أن تحدث هذه اليقظة بفعل عوامل وأسباب خارجة عن إرادة البشر، أو تكون بعيدة عن إدراكنا، كنفحة من السماء، وبحكم أن الإنسان ليست له سيطرة كاملة على عالم الكون، ولأن الأسباب المادية والحسية ليست هي الوحيدة والمؤثرة في حركة التاريخ ومسيرة الاجتماع الإنساني.
ومن العوامل والأسباب الدافعة وراء يقظة روح التجديد، ظهور شخصيات إصلاحية مؤثرة بطريقة غير عادية، بحيث يمتد تأثيرها بشكل واسع، ويكون راسخاً، وعابراً بين الأزمنة والمجتمعات، بحيث يعيد إلى الأمة حيويتها، وإلى الفكر يقظته. مثل ظهور السيد جمال الدين الأفغاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، الذي وصفته العديد من الكتابات والأدبيات العربية المعاصرة بأوصاف تشير إلى ذلك، كوصفه بموقظ الشرق، أو باعث الشرق، أو باعث النهضة الفكرية في الشرق، أو حكيم الشرق، ووصفه مالك بن نبي بضمير العالم الإسلامي، وقال عنه: (لقد كان جمال الدين رجلاً ذا ثقافة فريدة عدت فاتحة عهد رجل الثقافة والعلم في العالم الإسلامي الحديث، ولعل هذه الثقافة هي التي دفعت الشبيبة المثقفة على أثره في اسطنبول والقاهرة، وفي طهران، وهي الشبيبة التي سيكون من بينها قادة حركة الإصلاح)2
- 1. القران الكريم: سورة العلق (96)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 597.
- 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 17 صفر 1428هـ / 7 مارس 2007م، العدد 14802.