من الوالد الفان المقر للزمان المدبر العمر المستسلم للدهر الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى الظاعن عنها إليهم غدا إلى المولود المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك غرض الأسقام و رهينة الأيام و رمية المصائب و عبد الدنيا و تاجر الغرور و غريم المنايا و أسير الموت و حليف الهموم و قرين الأحزان و نصب الآفات و صريع الشهوات و خليفة الأموات أما بعد فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني و جموح الدهر علي و إقبال الآخرة إلي ما يزعني عن ذكر من سواي و الاهتمام بما ورائي غير أنه حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي فصدفني رأيي و صرفني هواي و صرح لي محض أمري فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب و صدق لا يشوبه كذب و وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني و كأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت فإني أوصيك بتقوى الله أي بني و لزوم أمره و عمارة قلبك بذكره و الاعتصام
تحف العقول ص : 69
بحبله و أي سبب أوثق من سبب بينك و بين الله إن أنت أخذت به أحي قلبك بالموعظة و موته بالزهد و قوه باليقين و ذلله بالموت و قرره بالفناء و بصره فجائع الدنيا و حذره صولة الدهر و فحش تقلب الليالي و الأيام و أعرض عليه أخبار الماضين و ذكره بما أصاب من كان قبله و سر في بلادهم و آثارهم و انظر ما فعلوا و أين حلوا و عما انتقلوا فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة و حلوا دار الغربة و ناد في ديارهم أيتها الديار الخالية أين أهلك ثم قف على قبورهم فقل أيتها الأجساد البالية و الأعضاء المتفرقة كيف وجدتم الدار التي أنتم بها أي بني و كأنك عن قليل قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك و لا تبع آخرتك بدنياك و دع القول فيما لا تعرف و الخطاب فيما لا تكلف و أمسك عن طريق إذا خفت ضلاله فإن الكف عن حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال و أمر بالمعروف تكن من أهله و أنكر المنكر بلسانك و يدك و باين من فعله بجهدك و جاهد في الله حق جهاده و لا تأخذك في الله لومة لائم و خض الغمرات إلى الحق حيث كان و تفقه في الدين و عود نفسك التصبر و ألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف حريز و مانع عزيز و أخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء و الحرمان و أكثر الاستخارة و تفهم وصيتي و لا تذهبن عنها صفحا فإن خير القول ما نفع
تحف العقول ص : 70
و اعلم أنه لا خير في علم لا ينفع و لا ينتفع بعلم حين لا يقال به أي بني إني لما رأيتك قد بلغت سنا و رأيتني أزداد وهنا بادرت بوصيتي إياك خصالا منهن أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي أو أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا فتكون كالصعب النفور و إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته و تجربته فتكون قد كفيت مئونة الطلب و عوفيت من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه و استبان لك منه ما ربما أظلم علينا فيه أي بني إني و إن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم و فكرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره و نفعه من ضره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله و توخيت لك جميله و صرفت عنك
تحف العقول ص : 71
مجهوله و رأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق و أجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك و أنت مقبل بين ذي النقية و النية و أن أبدأك بتعليم كتاب الله و تأويله و شرائع الإسلام و أحكامه و حلاله و حرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم أشفقت أن يلبسك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم مثل الذي لبسهم و كان إحكام ذلك لك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة و رجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك و أن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه و اعلم مع ذلك أي بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله و الاقتصار على ما افترض عليك و الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك و الصالحون من أهل ملتك فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر و فكروا كما أنت مفكر ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما كانوا علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم و تعلم لا بتورط الشبهات و علق الخصومات و ابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك عليه و الرغبة إليه في توفيقك و ترك كل شائبة أدخلت عليك شبهة و أسلمتك إلى ضلالة و إذا أنت أيقنت أن قد صفا لك قلبك فخشع و تم رأيك فاجتمع و كان همك في ذلك هما واحدا فانظر فيما فسرت لك و إن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك من فراغ فكرك
تحف العقول ص : 72
و نظرك فاعلم أنك إنما تخبط خبط العشواء و ليس طالب الدين من خبط و لا خلط و الإمساك عند ذلك أمثل و إن أول ما أبدأ به من ذلك و آخره أني أحمد إليك إلهي و إلهك و إله آبائك الأولين و الآخرين و رب من في السماوات و الأرضين بما هو أهله و كما هو أهله و كما يحب و ينبغي و نسأله أن يصلي عنا على نبينا ص و على أهل بيته و على أنبياء الله و رسله بصلاة جميع من صلى عليه من خلقه و أن يتم نعمه علينا فيما وفقنا له من مسألته بالإجابة لنا فإن بنعمته تتم الصالحات فتفهم أي بني وصيتي و اعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة و أن الخالق هو المميت و أن المفني هو المعيد و أن المبتلي هو المعافي و أن الدنيا لم تكن لتستقيم إلا على ما خلقها الله تبارك و تعالى عليه من النعماء و الابتلاء و الجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا نعلم فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به فإنك أول ما خلقت خلقت جاهلا ثم علمت و ما أكثر ما تجهل من الأمر و يتحير فيه رأيك و يضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك فاعتصم بالذي خلقك و رزقك و سواك و ليكن له تعمدك و إليه رغبتك و منه شفقتك و اعلم يا بني أن أحدا لم ينبئ عن الله تبارك و تعالى كما أنبأ عنه نبينا ص فارض به رائدا و إلى النجاة قائدا فإني لم آلك نصيحة و إنك لم تبلغ في النظر لنفسك و إن اجتهدت مبلغ نظري لك و اعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله و لرأيت آثار ملكه و سلطانه و لعرفت صفته
تحف العقول ص : 73
و فعاله و لكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ذلك أحد و لا يحاجه و أنه خالق كل شيء و أنه أجل من أن يثبت لربوبيته بالإحاطة قلب أو بصر و إذا أنت عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك في صغر خطرك و قلة مقدرتك و عظم حاجتك إليه أن يفعل مثله في طلب طاعته و الرهبة له و الشفقة من سخطه فإنه لم يأمرك إلا بحسن و لم ينهك إلا عن قبيح أي بني إني قد أنبأتك عن الدنيا و حالها و زوالها و انتقالها بأهلها و أنبأتك عن الآخرة و ما أعد لأهلها فيها و ضربت لك فيهما الأمثال إنما مثل من أبصر الدنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جدب فأموا منزلا خصيبا و جنابا مريعا فاحتملوا وعثاء الطريق و فراق الصديق و خشونة السفر في الطعام و المنام ليأتوا سعة دارهم و منزل قرارهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألما و لا يرون نفقة مغرما و لا شيئا أحب إليهم مما قربهم من منزلهم و مثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصب فنبا بهم إلى منزل جدب فليس شيء اكره إليهم و لا أهول لديهم من مفارقة ما هم فيه إلى ما يهجمون عليه و يصيرون إليه و قرعتك بأنواع الجهالات لئلا تعد نفسك عالما فإن ورد عليك شيء تعرفه أكبرت ذلك فإن العالم من عرف أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل فعد نفسه بذلك جاهلا فازداد بما عرف من ذلك في طلب العلم اجتهادا فما يزال للعلم طالبا و فيه راغبا و له مستفيدا و لأهله خاشعا مهتما و للصمت لازما و للخطإ حاذرا و منه مستحييا و إن ورد عليه ما لا يعرف لم ينكر ذلك لما قرر به نفسه من الجهالة و إن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالما و برأيه مكتفيا فما يزال للعلماء مباعدا و عليهم زاريا و لمن خالفه مخطئا و لما لم يعرف من الأمور مضللا فإذا ورد عليه من الأمور ما لم يعرفه أنكره و كذب به و قال بجهالته
تحف العقول ص : 74
ما أعرف هذا و ما أراه كان و ما أظن أن يكون و أنى كان و ذلك لثقته برأيه و قلة معرفته بجهالته فما ينفك بما يرى مما يلتبس عليه رأيه مما لا يعرف للجهل مستفيدا و للحق منكرا و في الجهالة متحيرا و عن طلب العلم مستكبرا أي بني تفهم وصيتي و اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك و اكره له ما تكره لنفسك و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم و أحسن كما تحب أن يحسن إليك و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك و ارض من الناس لك ما ترضى به لهم منك و لا تقل بما لا تعلم بل لا تقل كلما تعلم و لا تقل ما لا تحب أن يقال لك و اعلم أن الإعجاب ضد الصواب و آفة الألباب فإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك و اعلم أن أمامك طريقا ذا مشقة بعيدة و أهوال شديدة و أنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد و قدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر فلا تحملن على ظهرك فوق بلاغك فيكون ثقلا و وبالا عليك و إذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك زادك فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه و اغتنم من استقرضك في حال غناك و اجعل وقت قضائك في يوم عسرتك و اعلم أن أمامك عقبة كئودا لا محالة مهبطا بك على جنة أو على نار المخف
تحف العقول ص : 75
فيها أحسن حالا من المثقل فارتد لنفسك قبل نزولك و اعلم أن الذي بيده ملكوت خزائن الدنيا و الآخرة قد أذن بدعائك و تكفل بإجابتك و أمرك أن تسأله ليعطيك و هو رحيم لم يجعل بينك و بينه ترجمانا و لم يحجبك عنه و لم يلجئك إلى من يشفع إليه لك و لم يمنعك إن أسأت التوبة و لم يعيرك بالإنابة و لم يعاجلك بالنقمة و لم يفضحك حيث تعرضت للفضيحة و لم يناقشك بالجريمة و لم يؤيسك من الرحمة و لم يشدد عليك في التوبة فجعل النزوع عن الذنب حسنة و حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا و فتح لك باب المتاب و الاستئناف فمتى شئت سمع نداءك و نجواك فأفضيت إليه بحاجتك و أنبأته عن ذات نفسك و شكوت إليه همومك و استعنته على أمورك و ناجيته بما تستخفي به من الخلق من سرك ثم جعل بيدك مفاتيح خزائنه فألحح في المسألة يفتح لك باب الرحمة بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه فألحح و لا يقنطك إن أبطأت عنك الإجابة فإن العطية على قدر المسألة و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون أطول للمسألة و أجزل للعطية و ربما سألت الشيء فلم تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا و آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته و لتكن مسألتك فيما يعنيك مما يبقى لك جماله أو ينفى عنك وباله و المال لا يبقى لك و لا تبقى له فإنه يوشك أن ترى عاقبة أمرك حسنا أو سيئا أو يعفو العفو الكريم
تحف العقول ص : 76
و اعلم أنك خلقت للآخرة لا للدنيا و للفناء لا للبقاء و للموت لا للحياة و أنك في منزل قلعة و دار بلغة و طريق إلى الآخرة و أنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه و لا بد أنه يدركك يوما فكن منه على حذر أن يدركك على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك فيها بالتوبة فيحول بينك و بين ذلك فإذا أنت قد أهلكت نفسك أي بني أكثر ذكر الموت و ذكر ما تهجم عليه و تفضي بعد الموت إليه و اجعله أمامك حتى يأتيك و قد أخذت منه حذرك و لا يأخذك على غرتك و أكثر ذكر الآخرة و ما فيها من النعيم و العذاب الأليم فإن ذلك يزهدك في الدنيا و يصغرها عندك و قد نبأك الله عنها و نعت لك نفسها و كشفت عن مساويها فإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهلها إليها و تكالبهم عليها و إنما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية يهر بعضها على بعض يأكل عزيزها ذليلها و كبيرها صغيرها قد أضلت أهلها عن قصد السبيل و سلكت بهم طريق العمى و أخذت بأبصارهم عن منهج الصواب فتاهوا في حيرتها و غرقوا في فتنتها و اتخذوها ربا فلعبت بهم و لعبوا بها و نسوا ما وراءها فإياك يا بني أن تكون قد شانته كثرة عيوبها نعم معقلة و أخرى مهملة
تحف العقول ص : 77
قد أضلت عقولها و ركبت مجهولها سروح عاهة بواد وعث ليس لها راع يقيمها رويدا حتى يسفر الظلام كأن قد وردت الظعينة يوشك من أسرع أن يئوب و اعلم أن من كانت مطيته الليل و النهار فإنه يسار به و إن كان لا يسير أبى الله إلا خراب الدنيا و عمارة الآخرة أي بني فإن تزهد فيما زهدك الله فيه من الدنيا و تعزف نفسك عنها فهي أهل ذلك و إن كنت غير قابل نصيحتي إياك فيها فاعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك و لن تعدو أجلك و أنك في سبيل من كان قبلك فاخفض في الطلب و أجمل في المكتسب فإنه رب طلب قد جر إلى حرب و ليس كل طالب بناج و كل مجمل بمحتاج و أكرم نفسك عن كل دنية و إن ساقتك إلى رغبة فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك الله حرا و ما خير خير لا ينال إلا بشر
تحف العقول ص : 78
و يسر لا ينال إلا بعسر و إياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة و إن استطعت أن لا يكون بينك و بين الله ذو نعمة فافعل فإنك مدرك قسمك و آخذ سهمك و إن اليسير من الله تبارك و تعالى أكثر و أعظم من الكثير من خلقه و إن كان كل منه و لو نظرت و لله المثل الأعلى فيما تطلب من الملوك و من دونهم من السفلة لعرفت أن لك في يسير ما تصيب من الملوك افتخارا و إن عليك في كثير ما تصيب من الدناة عارا فاقتصد في أمرك تحمد مغبة عملك إنك لست بائعا شيئا من دينك و عرضك بثمن و المغبون من غبن نصيبه من الله فخذ من الدنيا ما أتاك و اترك ما تولى فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب و إياك و مقاربة من رهبته على دينك و باعد السلطان و لا تأمن خدع الشيطان و تقول متى أرى ما أنكر نزعت فإنه كذا هلك من كان قبلك من أهل القبلة و قد أيقنوا بالمعاد فلو سمت بعضهم بيع آخرته بالدنيا لم يطب بذلك نفسا ثم قد يتخبله الشيطان بخدعه و مكره حتى يورطه في هلكته بعرض من الدنيا حقير
تحف العقول ص : 79
و ينقله من شر إلى شر حتى يؤيسه من رحمة الله و يدخله في القنوط فيجد الوجه إلى ما خالف الإسلام و أحكامه فإن أبت نفسك إلا حب الدنيا و قرب السلطان فخالفت ما نهيتك عنه بما فيه رشدك فاملك عليك لسانك فإنه لا ثقة للملوك عند الغضب و لا تسأل عن أخبارهم و لا تنطق عند إسرارهم و لا تدخل فيما بينك و بينهم و في الصمت السلامة من الندامة و تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك و حفظ ما في الوعاء بشد الوكاء و حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك و لا تحدث إلا عن ثقة فتكون كاذبا و الكذب ذل و حسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الإسراف و حزن اليأس خير من الطلب إلى الناس و العفة مع الحرفة خير من سرور مع فجور و المرء أحفظ لسره و رب ساع فيما يضره من أكثر أهجر و من تفكر أبصر و من خير حظ امرئ قرين صالح فقارن أهل الخير تكن منهم و باين أهل الشر تبن عنهم و لا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يدع بينك و بين خليل صلحا و قد يقال من الحزم سوء الظن بئس الطعام الحرام و ظلم الضعيف أفحش الظلم و الفاحشة كاسمها التصبر على
تحف العقول ص : 80
المكروه نقص للقلب [يعصم القلب] و إن كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا و ربما كان الدواء داء و الداء دواء و ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح و إياك و الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى و تثبط عن خير الآخرة و الدنيا ذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب و لا تكن كحاطب الليل و غثاء السيل و كفر النعمة لؤم و صحبة الجاهل شؤم و العقل حفظ التجارب و خير ما جربت ما وعظك و من الكرم لين الشيم بادر الفرصة قبل أن تكون غصة من الحزم العزم من سبب الحرمان التواني ليس كل طالب يصيب و لا كل راكب يئوب و من الفساد إضاعة الزاد و لكل أمر عاقبة رب يسير أنمى من كثير سوف يأتيك ما قدر لك التاجر مخاطر و لا خير في معين مهين لا تبيتن من أمر على غرر من حلم ساد و من تفهم ازداد و لقاء أهل الخير عمارة القلوب ساهل الدهر ما ذل لك قعوده و إياك أن تجمع بك
تحف العقول ص : 81
مطية اللجاج و إن قارفت سيئة فعجل محوها بالتوبة و لا تخن من ائتمنك و إن خانك و لا تذع سره و إن أذاعه و لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه و اطلب فإنه يأتيك ما قسم لك خذ بالفضل و أحسن البذل و قل للناس حسنا و أي كلمة حكم جامعة أن تحب للناس ما تحب لنفسك و تكره لهم ما تكره لها إنك قل ما تسلم ممن تسرعت إليه أن تندم أو تتفضل عليه و اعلم أن من الكرم الوفاء بالذمم و الدفع عن الحرم و الصدود آية المقت و كثرة العلل آية البخل و لبعض إمساكك عن أخيك مع لطف خير من بذل مع جنف و من التكرم صلة الرحم و من يرجوك أو يثق بصلتك إذا قطعت قرابتك و التحريم وجه القطيعة احمل نفسك مع أخيك عند صرمه على الصلة و عند صدوده على اللطف و المسألة و عند جموده على البذل و عند تباعده على الدنو و عند شدته على اللين و عند جرمه على الاعتذار حتى كأنك له عبد و كأنه ذو نعمة عليك و إياك أن تضع ذلك في غير موضعه و أن تفعله بغير أهله لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك و لا تعمل بالخديعة فإنها خلق اللئام و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة و ساعده على كل حال و زل معه حيث زال و لا تطلبن مجازاة أخيك و لو حثا
تحف العقول ص : 82
التراب بفيك و خذ على عدوك بالفضل فإنه أحرى للظفر و تسلم من الناس بحسن الخلق و تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة و لا تصرم أخاك على ارتياب و لا تقطعه دون استعتاب و لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك ما أقبح القطيعة بعد الصلة و الجفاء بعد الإخاء و العداوة بعد المودة و الخيانة لمن ائتمنك و خلف الظن لمن ارتجاك و الغدر بمن استأمن إليك فإن أنت غلبتك قطيعة أخيك فاستبق لها من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا ذلك له يوما ما و من ظن بك خيرا فصدق ظنه و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك و لا ترغبن فيمن زهد فيك و لا تزهدن فيمن رغب إليك إذا كان للخلطة موضعا و لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان و لا على البخل أقوى منك على البذل و لا على التقصير أقوى منك على الفضل و لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه إنما يسعى في مضرته و نفعك و ليس جزاء من سرك أن تسوءه و الرزق رزقان رزق تطلبه و رزق يطلبك فإن لم تأته أتاك
تحف العقول ص : 83
و اعلم أي بني أن الدهر ذو صروف فلا تكونن ممن تشتد لائمته و يقل عند الناس عذره ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك فأنفق في حق و لا تكن خازنا لغيرك و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك و استدلل على ما لم يكن بما كان فإنما الأمور أشباه و لا تكفرن ذا نعمة فإن كفر النعمة من ألأم الكفر و اقبل العذر و لا تكونن ممن لا ينتفع من العظة إلا بما لزمه فإن العاقل ينتفع بالأدب و البهائم لا تتعظ إلا بالضرب اعرف الحق لمن عرفه لك رفيعا كان أو وضيعا و اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر و حسن اليقين من ترك القصد جار و نعم حظ المرء القناعة و من شر ما صحب المرء الحسد و في القنوط التفريط و الشح يجلب الملامة و الصاحب مناسب و الصديق من صدق غيبه و الهوى شريك العمى و من التوفيق الوقوف عند الحيرة و نعم
تحف العقول ص : 84
طارد الهم اليقين و عاقبة الكذب الذم و في الصدق السلامة و عاقبة الكذب شر عاقبة رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد و الغريب من لم يكن له حبيب لا يعدمك من حبيب سوء ظن و من حمى طنى و من تعدى الحق ضاق مذهبه و من اقتصر على قدره كان أبقى له نعم الخلق التكرم و ألأم اللؤم البغي عند القدرة و الحياء سبب إلى كل جميل و أوثق العرى التقوى و أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين الله و منك من أعتبك و الإفراط في الملامة يشب نيران اللجاج و كم من دنف قد نجا و صحيح قد هوى و قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا و ليس كل عورة تظهر و لا كل فريضة تصاب و ربما أخطأ البصير قصده و أصاب الأعمى رشده ليس كل من طلب وجد و لا كل من توقى نجا أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته و أحسن إن أحببت أن يحسن إليك و احتمل أخاك على ما فيه و لا تكثر العتاب فإنه يورث الضغينة و يجر إلى البغضة
تحف العقول ص : 85
و استعتب من رجوت إعتابه و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل و من الكرم منع الحزم من كابر الزمان عطب و من ينقم عليه غضب ما أقرب النقمة من أهل البغي و أخلق بمن غدر ألا يوفى له
زلة المتوقي أشد زلة و علة الكذب أقبح علة و الفساد يبير الكثير و الاقتصاد يثمر اليسير و القلة ذلة و بر الوالدين من كرم الطبيعة و الزلل مع العجل و لا خير في لذة تعقب ندما و العاقل من وعظته التجارب و الهدى يجلو العمى و لسانك ترجمان عقلك ليس مع الاختلاف ائتلاف من حسن الجوار تفقد الجار لن يهلك من اقتصد و لن يفتقر من زهد بين عن امرئ دخيله رب باحث عن حتفه لا تشترين بثقة رجاء ما كل ما يخشى يضر رب هزل عاد جدا من أمن الزمان خانه و من تعظم عليه أهانه و من ترغم عليه أرغمه و من لجأ إليه أسلمه و ليس
تحف العقول ص : 86
كل من رمى أصاب إذا تغير السلطان تغير الزمان و خير أهلك من كفاك و المزاح يورث الضغائن و ربما أكدى الحريص رأس الدين صحة اليقين و تمام الإخلاص تجنبك المعاصي و خير المقال ما صدقه الفعال و السلامة مع الاستقامة و الدعاء مفتاح الرحمة سل عن الرفيق قبل الطريق و عن الجار قبل الدار و كن من الدنيا على قلعة احمل لمن أدل عليك و اقبل عذر من اعتذر إليك و خذ العفو من الناس و لا تبلغ إلى أحد مكروهه أطع أخاك و إن عصاك و صله و إن جفاك و عود نفسك السماح و تخير لها من كل خلق أحسنه فإن الخير عادة و إياك أن تذكر من الكلام قذرا أو تكون مضحكا و إن حكيت ذلك عن غيرك و أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك و إياك و مشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن و عزمهن إلى وهن و اكفف عليهن من أبصارهن بحجبك إياهن فإن شدة الحجاب خير لك و لهن
تحف العقول ص : 87
و ليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن ذلك أنعم لحالها و أرخى لبالها و أدوم لجمالها فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة و لا تعد بكرامتها نفسها و لا تطمعها أن تشفع لغيرها فتميل مغضبة عليك معها و لا تطل الخلوة مع النساء فيملنك أو تملهن و استبق من نفسك بقية من إمساكك فإن إمساكك عنهن و هن يرين أنك ذو اقتدار خير من أن يظهرن منك على انتشار و إياك و التغاير في غير موضع غيرة فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم و لكن أحكم أمرهن فإن رأيت ذنبا فعاجل النكير على الكبير و الصغير و إياك أن تعاقب فتعظم الذنب و تهون العتب و أحسن للمماليك الأدب و أقلل الغضب و لا تكثر العتب في غير ذنب فإذا استحق أحد منهم ذنبا فأحسن العذل فإن العذل مع العفو أشد من الضرب لمن كان له عقل و لا تمسك من لا عقل له و خف القصاص و اجعل لكل امرئ منهم عملا تأخذه به فإنه أحرى أن لا يتواكلوا و أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير و أصلك الذي إليه
تحف العقول ص : 88
تصير و بهم تصول و هم العدة عند الشدة فأكرم كريمهم و عد سقيمهم و أشركهم في أمورهم و تيسر عند معسور لهم و استعن بالله على أمورك فإنه أكفى معين أستودع الله دينك و دنياك و أسأله خير القضاء لك في الدنيا و الآخرة و السلام عليك و رحمة الله
المصدر : تحف العقول /دار العرفان