مقالات

في كتاب مبين…

لا شك إن وراء المآسي التي تتوالى على الأمم ، والصعوبات والمحن التي تنتاب المجتمعات ، فلسفة وحكمة . على الرغم من إن البعض يزعم أن الصدفة تلعب دوراً أساسياً فيما يجري عليه، ونحن ـ كمسلمين ـ نرفض هذا الراي، ونرى إن كل شيء في هذا الكون بمقدار ؛ فما من سكون وحركة ، وضر ونفع ، إلاّ في كتاب مبين.

فنحن نؤمن ـ على سبيل المثال ـ بأن السحب لا تجري ، وإنما تزجى وتساق من قبل إرادة مدبّرة لها ، وإن الأرض لا تنبت وإنما تُزرَع ، وإننا لسنا نحن الزارعين ، بل ان الله جل وعلا هو الزارع ، وإنه لن يصيب الانسان إلاّ ما كتب له . . وبالتالي فان السنن الالهية والتقديرات الحكيمة ، هي التي تجري مقادير الكون الذي نعيش نحن فيه ، ونعد جزء منه .

ضرورة وعي الاحداث

وبناءً على ذلك ، فان علينا أن نتساءل عن أسباب الحوادث التي تجري حولنا وعلينا ، لأن الصدفة لا يمكن أن تلعب دوراً في تسبيب تلك الحوادث . فليس من الصدفة بمكان أن يأتي الطغاة الظالمون ليتحكّموا في مصائر بلداننا وشعوبنا . فقديماً أبتلي ـ على سبيل المثال ـ العراق بالحجاج ، وبزياد ابن أبيه ، وقديماً أبتلي الايطاليون في الزمن الغابر بطاغية مثل نيرون ، وقديماً نزلت القوارع على الأمم من أمثالنا فأبيدت ، واغرقت ، واحترقت . . .
إن تلك الأحداث وغيرها لم تقع صدفة ؛ لذا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البصيرة من وراء ذلك ، وما هي العبرة ، وكيف نستطيع أن نفهم الحياة الفهم اللائق بها ؟
أقول : إن من الجيد أن يفكر الإنسان في هذه الأمور ، وأن لا يحبس تفكيره في أطر ضيقة ، لأن التفكير في قضايا صغيرة وتافهة ليس من شأن الإنسان . فمن المفروض فيه أن يفكر ويعتبر ويخطط لمستقبله ، ويتطلع إلى الأفضل . فماذا ينفعه أن يصبّ تفكيره على القضايا الهامشية ، في حين يعيش حالة التغافل عن إنسان طاغية يتحكم في مصيره ويسلبه إراداته ، ويسومه الخسف والهوان ؟

حكمة المآسي

وهنا نعود لنتساءل : ما هي حكمة المآسي التي تتوالى على البشرية ؟
في آيات عديدة من القرآن الكريم يكشف لنا الله تعالى عن هذه الحكمة . ونحن اذا تدبرنا في هذه الآيات ، واستوعبنا تلك الحكمة ، وطبقناها على أنفسنا ، ولم ندع المآسي تتكرر ، فاننا سنعيش أحراراً في دنيانا ، مستقلين عن أية قوة داخلية أو خارجية تريد أن تستعبدنا.
ومن أبرز الحكم في مآسي الأمم ، دعوة الله عز وجل الإنسان أن يعود إليه . فالله يحب البشر ، ويحب أن يعود عباده إليه ، ولذلك فانه ينزل عليهم المآسي والمحن . وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال : “إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً وثجَّه بالبلاء ثجاً ، فإذا دعاه ، قال : لبيك عبدي ، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر ، ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك” 1 .
وهكذا فان من جملة الحكم أن الخالق جلّ شأنه يريد من عبده أن يدعوه ، وأن يتضرع إليه . فالله تبارك وتعالى يتحبب إلى العباد ، وهناك منهم من يستجيبون الى هذا التحبب ، فيتضرعون الى خالقهم . فان كان الإنسان يتمتع بكل شيء من طعام وشراب وما الى ذلك ، فانه سوف لا يجد في نفسه دافعاً أساسياً حتى الى العبادة ، فيستبدّ به الغرور . أمّا إذا أصابته مصيبة ، فان قلبه سينكسر ، وسيدعو الله جل جلاله بلسان التوسل والتضرع .
وفي هذا المجال يروى أن جبرائيل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال : يا محمد السلام يقرؤك السلام ويقول لك : إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة ، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة . قال : يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك ؟ قال : الموت ، فقال : إذاً لا حاجة لي في الدنيا ، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله ، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده . فقال له جبرئيل : وفقت لكل خير يا محمد” 2 .
إن الانسان الذي يجيء شبعه بعد جوعه ، فانه يشكر الله تبارك وتعالى . أما الانسان الذي لم يذق في حياته الجوع ولو لمرة واحدة ، فانه سوف لا يحس بأن هناك جائعاً على الأرض ، وبالتالي فانه سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق . ولذلك فان الانسان لا يشكر ربه ـ عادة ـ على النعم العظيمة التي أنعم بها عليه .
ومن حكمة المآسي على الشعوب ، أن سلبياتها تتراكم طبقة على طبقة ، وظلاماً فوق ظلام ، وإنحرافاً أيديولوجياً ، وشذوذاً في العادات والسلوكيات ، وإنحرافاً في الاخلاق والآداب والمفاهيم ، وتشوّشاً في الرؤية ، وفوضى في النظم السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها . . فاذا بهم يعيشون في شرنقة الانحرافات ، وزنزانة الفساد . وفي هذه الحالة لا تنفعهم نصيحة الناصحين ، ولا عبر ودروس التأريخ ، ولا تلاوة القرآن والروايات . . فتراهم يركضون وراء المادة ، فان لم يجدوها جروا وراء وهمها .
وفي هذه الحالة فان الله عز وجل ، وطبقاً لحكمته يعرّض هذه الشعوب للبلاء . ويشتد هذا البلاء ، ويتدرج في العنف والقسوة ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في البأساء والضراء ، فيجعل الله سبحانه بأسهم بينهم ، فيقتلون بعضهم البعض ، ويتسلّط عليهم أراذلهم وحقراؤهم .

هدف الابتلاء

وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة ؛ أي أن يستيقظوا ، وينتقدوا أنفسهم ، ويعودوا الى رشدهم ، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم ، ليعودوا الى الله جل وعلا ، والى القيم الحقة ، والصراط المستقيم ، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة . فان لم يصلوا الى هذا المستوى ، فان الخالق سوف ينـزل عليهم بلاءات أخرى أشدّ ، حتى تحين فرصتهم في الاعتبار من هذا البلاء . وحينئذ يفتح الله تعالى عليهم أبواب الرحمة ، وإذا بهم بعد ذلك يفرحون ، ويعلون في الأرض ، ويعيثون فيها الفساد ، وعند ذلك يأخذهم الخالق بأشدّ البلاء .
فعلى سبيل المثال ابتلى الله فرعون وقومه بسبع بلايا ، فكانوا كلما تأتيهم آية يقرّرون العودة الى بارئهم ، وبمجرّد أن تنتهي يعودون الى غيّهم وعدوانهم . وحينها كانوا يذهبون الى موسى ويقولون له : يا موسى ؛ أدع الله أن يرفع عنّا هذا البلاء ، فاننا عائدون الى دينه . وما كان من هذا النبي الكريم إلاّ أن يتوجه بالدعاء الى الخالق ليرفع عنهم البلاء ، فيستجيب الله لدعوته . ولكنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم . وفي نهاية المطاف أغدق الله عليهم بالنعم والخيرات ، ففرحوا واستبدّ بهم الغرور ، وعلوا وطغوا . وحينئذ أخذهم ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر ، ونبذهم في اليم فانتهوا وانقرضوا ، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر .

استعادة الوعي

والذي يصيبنا الآن ـ نحن المسلمين ـ هدفه وحكمته أن نستعيد وعينا ، وأن نقف موقف الناقد من أنفسنا ، وأن نسأل أنفسنا : لماذا هذه الابتلاءات ؟ فان انتبهنا ، واستيقظنا ، وعدنا الى رشدنا ، رفع الله تعالى عنّا البلاء . وإن لم نفعل ذلك ، فان هذا البلاء سوف يزداد ، وستأتي مراحل شديدة وصعبة إذا لم نتّعظ .
وفي هذا المجال يقول عز من قائل : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ 3.
إن الأمم السابقة لم تتضرع ، ولم تعد الى الله ، ولم تطبق حكمة الابتلاء في حياتها ؛ وبدل أن ينقذوا أنفسهم ، ويستعيدوا وعيهم ، وينتفعوا من المآسي ، تكرّست السلبيات في أنفسهم ، لأن قلوبهم كانت قاسية . والقلب عندما يقسو ، فان المواعظ البالغة ، والابتلاءات الشديدة لا يمكن أن تنفع معه .
وعلى الرغم من التذكير والابتلاءات المتواصلة ، فانهم نسوا التحذيرات الالهية ، فكانت النتيجة أن استدرجهم الله سبحانه وتعالى بالنعم حتى قطع دابرهم ، وأهلكوا عن آخرهم . فأين عاد ، وأين ثمود ، وأين أصحاب الأيكة وقوم لوط . . . ؟ لقد انقرضوا جميعاً ، وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم . فالله أتاح لهم الفرص الواسعة ، وفتح أمامهم الطريق للعودة ، ولم يبادرهم ويباغتهم بالعذاب .
ويبقى هنا السؤال المهم : بعد هذه المآسي والويلات والابتلاءات التي توالت وتتوالى علينا بين الحين والآخر ، هل انتفعنا منها وأخذنا الدروس والعبر ؟ وهل أدرك الناس إن التشرذم ، والتفكير المصلحي الخاص لا يمكن ان ينفعهم ؟ وهل أعادت مؤسساتنا النظر في إستراتيجياتها ، وفي اُسلوب عملها وتحرّكها ؟ وهل قمنا بما كان ينبغي لنا أن نقوم به ؟
إن علينا أن نقف وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا . ففي كثير من الأحيان يكون النقد البنّاء ، ومراجعة الماضي ، وإعادة النظر في المسيرة ، من صميم العمل الرسالي ، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كانسان ، فما بالك بالقيادات ، والعلماء والمفكّرين والطلائع الرسالية ؟

الى متى الهزائم ؟

إن المهم في كل ذلك أن نتضرع الى الله جل جلاله ، وأن نعود إلى أنفسنا ، ونتساءل عن الخطأ في سلوكنا وفكرنا وبصيرتنا ووعينا .
ومن العجيب في هذا المجال أننا نرى البعض يفتخرون بالهزائم ، في حين أن الناس يبحثون عادة عن إنتصار لكي يربطوا أنفسهم به . ولكن البعض منّا تراه يبحث عن هزيمة ليتقوقع وينطوي على نفسه في داخلها ، ويصبّ كل تبريراته في إطارها ، ويقول إن مصيرنا أن ننهزم وننهزم دون أن نستطيع تحقيق أي إنتصار . في حين أن المثل المعروف يقول : (الهزيمة يتيمة) ، ولكننا نرى أن هزيمتنا لها ألف أب وأب . الأمر الذي يدلّ على شدة فقرنا الفكري ، وانعدام الوعي بالبصائر القرآنية .
مما لا ريب فيه إن الله تبارك وتعالى عادل ، عندما يصيبنا بذنوبنا ، ويوجّه إلينا الصعقات القوية التي لم تصل لحد الآن الى المستوى الذي نصحو فيه على واقعنا . فعلى الرغم من المآسي والمصائب والويلات والمحن التي نزلت علينا ، فاننا ما نزال نياماً . ونحن نعوذ بالله تعالى من أن تنطبق علينا الآية الكريمة التي تقول :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا … ﴾ 4.
فمن الخطأ أن نتصور إن هذه الآية تنطبق على الحكام الظالمين وحدهم . فالانسان الذي يترك العمل في سبيل الاسلام ، ويضع مصالحه فوق مصالح الأمة ، والذي يثير الخلافات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى الوحدة ، والـذي يعيش في زنزانة ذاته الضيقة ، هو أيضاً إنسان ظالم . ولذلك فاننا ندعو الأمة الى أن تتعظ من المصائب والابتلاءات ، وأن تكون في مستوى المرحلة التي تعيشها .

الضراعة هدف الابتلاء

الفطرة هي أكبر رأس مال يمتلكه الانسان في الحياة ؛ فهذه الفطرة هي التي تكشف للانسان الحقائق ، وتجعله ينسجم مع طبيعة الكون والنفس ، فيتفاعل بهما ومعهما . ولكن هذه الفطرة التي لابد أن تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله تتعرض للرين ، لأن حجب الشهوات والأهواء والتراكمات السلبية تفصل بينها وبين إدراك الحقائق . فقد تتحول هذه الفطرة الى فطرة تحجبها الأهواء والشهوات ، فتفتقد القدرة على الكشف ، ولا تستطيع ان تقوم بدورها الأساسي في تبصير الانسان بالحقائق .

سبب جميع المآسي

والانسان عندما ينظر بفطرته ، وطبيعته الأولية الى الأشياء ، فان حياته ستكون حياة قائمة على أسس حضارية تحمله خطوة فخطوة الى الأمام وبصورة مستمرة . وإذا ما استبعدت الفطرة فان كل سعي الانسان ، وكل حركة له سيكونان باتجاه معاكس ؛ أي إتجاه التخلف والتقهقر بدلاً مـن التقدم .
وإذا أردنا أن نبيّن بكلمة واحدة سبب تخلف الانسان ، وسبب المشاكل المتراكمة عليه ، لابد أن نقول ان تلك الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في ذات الانسان قد تغيرت وانقلبت واحتجبت بالشهوات . وهذا هو تعبير موجز عن جميع المآسي التي يتعرض لها الانسان .
وعلى سبيل المثال فان الانسان الذي ينظر الى الأمور بفطرته ، يستطيع أن يتنبّأ بالمستقبل بصورة طبيعية . صحيح إنه لم يزود بالقدرة على إستشراق الغيب ، ولكنه قد منح البصيرة الكافية لتنسيق حياته ، ودرء الأخطار عن نفسه ، ولذلك فان الشعور بالألم وضع للدلالة والاشارة الى وجود المرض في الجسم .
وهكذا الحال بالنسبة الى الحياة الاجتماعية ؛ فظهور الفوضى في المجتمع يشير الى قربه من المأساة ، والوقوع في مستنقع المشاكل الاجتماعية . فمشكلة الفقر ، والعنصرية ، والرأسمالية ، والمشاكل الأخرى على الصعيد الاجتماعي تترك آثاراً واضحة تبين للانسان أن هذا المجتمع يسير في اتجاه منحرف ، وبالتالي فانها تمكنه من اكتشاف الخطأ في الوقت المناسب ومعالجته قبل الاستفحال .
وعلى سبيل المثال فان السياسي الذي لا يستطيع أن يفهم ضمير مجتمعه ، لا يمكنه أن ينجح في قيادة هذا المجتمع ؛ والرئيس الذي لا يدرك معنى الاضطرابات في بلده ، ومعنى أن يعيش شعبه في حالة الغليان والثورة ، لا يمكنه أن يستمر في حكمه . فلابد أن يكتشف أن المجتمع يعيش في حالة غير صحية ، وأن من الممكن أن ينقلب عليه الأمر . والسيطرة على هذه الاضطرابات ، وتهدئة الأوضاع بحاجة الى وجود حالة من الانسجام بين فطرة الحاكم ، وبين طبيعة الأوضاع الاجتماعية السائدة في بلده .
وبناءً على ذلك فان الفطرة هي طبيعة الانسجام بين الانسان والطبيعة ، واذا كانت الحجب متراكمة على هذه الفطرة فانها سوف لا تنفع الانسان فحسب وإنما تضره ، لأن هذه الحجب بإمكانها أن تنفذ الى عمق الفطرة ، وتقلب رؤية الانسان .
والتخلف الذي منيت به الأمة الإسلامية اليوم ، هو نتيجة الحجب المتراكمة على فطرة أبنائها . ففطرتنا ليست تلك الفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها ، ولا تمثل تلك المواهب التي أودعها الله عز وجل في الانسان ، والمقاييس والمعايير التي وضعها في قلبه والتي لابد ان تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله . فتلك الفطرة والمواهب والمقاييس قد انحرفت ، ولم تقم بدورها الطبيعي ، ولذلك نرى أن أمتنا تزداد تخلفاً يوماً بعد آخر ، ولا تستطيع أن تقوم بأي دور .

عبادة الماضي سبب التخلف

ومن جملة عوامل وأسباب التخلف عبادة الماضي ، والافتخار الكاذب به . فالمجتمع الذي يقلد ماضيه ، ويفتخر به بكل ما فيه من ايجابيات وسلبيات ، هذا المجتمع يكون عاجزاً عن القيام بأي دور ، لأنه ينظر الى الحياة من حوله بمنظار الماضي الذي أكل الدهر عليه وشرب . ولذلك فانه لا يستطيع أن ينسق حركته ، فتراه يفسر كل شيء وفق المقاييس السابقة ، وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها الانسان .
وهكذا فان الذي يريد أن يعالج الأوضاع الحالية من خلال العهود السابقة التي كانت لها ظروفها وملابساتها ، وقيمها الخاصة بها ، لا يفهم مدى التطور الهائل الذي حدث في عالمنا اليوم والذي يحدث بين لحظة وأخرى ؛ فكيف بين سنة وأخرى ، وبين مرحلة من الزمان ومرحلة أخرى ؟ فالذي يريد أن يسير على حرفية الكلمات التي تفوّه بها المفكرون الاسلاميون قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة لا يستطيع أن يقرأ لغة العصر ، ويعجز عن أن يكيّف تصرفاته وفق الحاجات المتجددة لهذا المجتمع أو ذاك .

اثارة الفطرة حكمة الابتلاء

وعلى هذا فان مشكلة الانسان منذ أن خلقه الله عز وجل وحتى يومنا هذا هي مشكلة إبتعاده عن فطرته ، ومحاولته أن ينظر الى الحياة من زوايا جانبية لا بشكل مباشر . فمشكلة الانسان في عصر نوح عليه السلام وعاد وقوم ثمود هي مشكلة اليوم ، وهي مشكلة كبرى . فلقد زوّد هذا الانسان بمقياس واحد لكي يكتشف الحياة من حوله ، ألا وهو العقل والفطرة . فاذا ما انسحب العقل من العمل ، وتغيرت الفطرة ، فماذا يبقى للإنسان ؟ لا يبقى له حلّ سوى أن ينسحب هو بدوره .
وعلاج هذه المشكلة هو علاج إلهي من خلال إبتلاء الانسان بالمصائب والمآسي . فالحكمة منها هي إثارة فطرة الانسان ، وإعادته الى حالة نقائه وطهره . وبتعبير آخر ؛ الى نقطة البداية التي لابد أن يبدأ منها ، من خلال إزالة الحجب التي حالت دونه ودون استيعاب الحقائق .
وفي هذا المجال يقول عز من قائل : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ 5.
فهذه الآيات الكريمة تصرح بأن الهدف من أخذ الناس بالسراء والضراء هو أن يضرعوا ، والضراعة هي أن يعود الانسان الى حالته الطبيعية والفطرية . وعلى سبيل المثال فان السياسي ينظر الى الحياة من خلال سياسته ، والمثقف لا ينظر الى الحياة إلاّ بمنظار ثقافته ، ولكن هذا الانسان لابد أن يعود الى الضراعة ، والى حالته البشرية واستكانته الى الله سبحانه وتعالى ، وازالته لكل العوائق التي تمنعه من الوصول الى القمة.
وهناك الكثير من الأمم التي تنتفع من الضراعة ، وهي عادة الأمم التي أصيبت بمشاكل وأزمات سياسية وإجتماعية وحضارية . ولكن البعض من هذه الأمم لا يستفيد حتى من المأساة التي تهز الضمير ، وتكشف عن فطرة الانسان ؛ ولأنهم وصلوا الى هذه المرحلة من قسوة القلب ، فقد جاء الأمر الإلهي بانزال العذاب عليهم ، ومحوهم من الوجود .
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ 6.

وهكذا فقد اكتسبوا السيئات ، فرسمت هذه السيئات المقياس الذي كان لابد أن يكشف لهم عن حقيقة الحياة . فالمآسي والمصائب لم تعدهم الى طبيعتهم ، فكانت النتيجة أن انتهوا بكارثة طبيعية نتيجة عدم اعتبارهم بالمأساة .
وللأسف فان بعض الناس في مجتمعاتنا ما يزالون غير مدركين لمغزى ما جرى ويجري عليهم ، فلم يفسروا الأحداث التي مرت بهم تفسيراً قرآنياً صحيحاً . وأنا عندما أقول : (بعض الناس) فاني لا أقصد أناساً بعيدين عنا ، بل نحن أنفسنا ؛ بسبب تراكم سلبيات الماضي علينا ، واحتجاب فطرتنا عن الحقائق ، فلم نكتشف الدرس الذي لابد أن نكتشفه ، والعبرة التي لابد أن نأخذها في مجال الحياة الاجتماعية .
لقد مرت أعوام طويلة والعالم الاسلامي ممزق ، والمآسي والمشاكل والأزمات السياسية والاجتماعية تتراكم علينا ، فلا نتخلص من مأساة إلاّ لنقع في شرك مأساة جديدة ، ولا ننجو من حاكم ظالم إلاّ لنقع في حبائل حاكم ظالم آخر . . والمشكلة ليست في وجود المآسي ومعاناتنا منها ، بل إن المشكلة هي عدم فهمنا للعبرة منها . فهذه المآسي التي تتكرر علينا لم تعطنا الدرس المناسب ، وهو أن نعود الى فطرتنا ، والى حالة الضراعة .

حقيقة الضراعة

إن الضراعة تعني في حقيقتها أن نغيّر أنفسنا ، وأن نستعد لاعادة النظر في تأريخنا ، وبنائنا الفكري والثقافي والسلوكي والاجتماعي والسياسي . ولكن للأسف فان كل تلك المآسي لم تعطنا الدرس المناسب والكافي ، فلماذا لا نحتكم الى القرآن الكريم وهو الذي يهدينا سواء السبيل في هذا المجال ، من خلال الآيات السابقة التي تقرّر أن الحكمة من المصائب والمآسي التي تنزل على الانسان هو أن يستشعر حالة الضراعة الى الله تبارك وتعالى ؟
وعلى هذه الأساس فان مشكلتنا الرئيسية هي أننا لم نستفد من الدروس القاسية التي مرّت بنا ، ولم نفهم الحكمة الالهية من الضراعة الناجمة من البأساء والضرّاء . ورغم أننا نؤمن إنّ علينا أن نعيد النظر في تاريخنا وأشخاصنا وفي كل شيء يحيط بنا ، إلاّ أننا ما نزال نعيش في قمة المآسي والمشاكل . والمصيبة أننا ننسى كل هذه المآسي لنعيش في أفقنا الضيق ، وننظر الى كل هذا العالم الرحب الواسع عبر ثقب ضيق للغاية . في حين أن الله جل وعلا خلق لنا هذه السموات الواسعة والمظاهر الطبيعية التي لا حصر لها . . ومع ذلك ترانا نهرب من الطبيعة ، ومن الحقائق ، ونحصر أنفسنا في زاوية حادة .
فلنعد الى القرآن الكريم الذي يطلب منا أن نعيد النظر في بنائنا الاجتماعي والفكري والسياسي ، فلابد من أن نعود إليه والى حكمه ونكتشف بصائره في الظروف المتأزمة التي يمرّ بها الانسان . ثم لنتضرع الى الله سبحانه وتعالى عبر الادعية التي من شأنها أن تعيدنا الى فطرتنا ، والى فهم السبب الحقيقي لمآسينا ، وإسقاط الاعتبارات المزيفة ، وتحطيم الأصنام التي تحجبنا عن الحقائق . فلنقرأ القرآن بتدبر ولندرس من خلاله واقعنا ، ولنقرأ الأدعية بتأمل لندرس أنفسنا من خلالها ، وليحاول كل واحد منا أن يعيد بناء نفسه ومن حوله ، فالمأساة هي أعظم مدرسة لنا في الحياة ، فمن يدخل مدرسة الحياة فانه سيكون في غنىً عن أي أستاذ آخر .

تزكية النفوس مراد الابتلاء

من الظواهر السلبية في حياتنا إنّ أغلب الناس منصرفون الى هموم الدنيا ، وشؤون المعاش من مأكل وملبس ومتع ولهو ولعب ، غير ملتفتين الى علة وجودهم وحياتهم على هذه الأرض ، ولا آبهين بغاية هذا الوجود ؛ فقلّما نجد أولئك الذين يسائلون أنفسهم عن تلك العلّة والغاية ، وما ينطوي عليهما من حقائق تنظّم الحياة ، وتعبّد طرقها على أساس ذلك الفهم والادراك .
فلابدّ أن يكون هناك هدف وغاية من وجودنا ، وتركيبنا بهذه الهيئة التي نحن عليها ؛ بل إنّ الغائيّة والهدفيّة تعمّان كلّ صغير وكبير في أبداننا وأحاسيسنا . فأعضاء جسد الإنسان لم تخلق ، ولم ينعم بها الإنسان إعتباطاً وعبثاً ، بل لها أهداف تجتمع في بؤرة هدف واحد ، هو الهدف الرئيس من الوجود .

هدفية الوجود تشمل كل شيء

وهدفيّة الوجود لا تقتصر على الإنسان وحده ، بل إنها امتدّت الى كل شيء صغير وكبير في الطبيعة . فليس هناك شيء مخلوق دون هدف ، وحاشى لله أن يصدر منه ذلك ، وحتى المخلوق الذي فيه الضرر والفتنة للانسان فانّه ضروري لإصلاحه .
ويبقى من حقّ كل إنسان أن يسأل عن هذا الهدف ، وسرّ الظواهر التي تحيط به ؛ فهذا السؤال هو السؤال المهم الذي له صلة وثيقة بأوضاعنا التي نعيشها اليوم ، والتي هي أوضاع خطيرة وحسّاسة يعجب منها الناس لأنهم يجهلون أسبابها وأسرارها والحكمة من ورائها ، فلو عرفوها بطل العجب وزالت الحيرة عندئذ .

الفتنة . . هدف اساس

وهكذا فانّ المهمّ أن نعرف ما هو الهدف من وجودنا وحياتنا أوّلاً ، وكيف نتحرّك في إطار هذا الهدف ثانياً كي لا يستبدّ بنا العجب . والجواب على السؤال الأوّل يتلخّص في كلمة واحدة صريحة هي : الفتنة التي هي باطارها العام الهدف الأساسيّ من خلق الإنسان فوق هذه البسيطة ، وربّما جهلت ملائكة السماء أمر الخلقة الإلهية للانسان ، والارادة الربانية من وراء إهباطه على الأرض ، ومنحه نعمة الارادة والحريّة والاختيار بعد أن يجد أمامه أسباب الاستقامة ، وأسباب الانحراف ، ويرى بعينه ، ويدرك بعقله سبل التقوى والرفعة والنبل مقابل سبل المعصية والانحطاط ، ليختار ، ويُعمل إرادته وحريّته . فالملائكة جهلت سرّ أمر الارادة الإلهية في هذا الخلق ، فما عرفوه أنّ هذا المخلوق من شأنه الإفساد ، وسفك الدماء فحسب كما روى لنا ذلك الخالق تعالى في قوله : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ 7.
الآثار الايجابية لمعرفة الهدف
وبمعرفة الهدف وادراكه والتكيّف معه ، نعرف كيف نتعامل مع هذا الهدف ، وبالتالي فاننا سنقترب من الحكمة الإلهية التي اقتضت لنا تلك الهدفيّة في الحياة ؛ أي الفتنة والتمحيص والابتلاء ، وبذلك يكتمل الإيمان فينا ، فنعيش الطمأنينة والسكينة وراحة النفس والبال والضمير . وهذه هي سمات المؤمنين بالله حقّاً ، فلأنَّ المؤمنين يعون جيداً هذه الهدفية في الحياة ، فانّك تراهم في سكن وطمأنينة وراحة في نفوسهم وضمائرهم ؛ فاذا ما محّصوا بالفقر وجدوا الله تعالى عندهم فاطمأنّت قلوبهم ، وهدأت نفوسهم بذكره وحمده وتسبيحه وشكره على نعمائه ، وإذا ما أصابتهم مصيبة الموت في عزيز أو قريب عندهم لجأوا الى ربهم ، فقد كيّفوا أنفسهم مع البلادء والابتلاء ، وخبروا الفتن والمصائب بكلّ ألوانها وأنواعها ، وارتضوا لانفسهم ما قدّر الله سبحانه وقضى لهم وعليهم . وهذه من قوانين الله في عباده ومخلوقاته في الوجود ، فالمؤمن يكيف نفسه ، ويجعلها تنسجم مع المقتضيات والسنن الإلهية .

تأثير الابتلاء على النفس المؤمنة

وهناك سؤال آخر يثار في هذا المجال وهو : ما هو تأثير الإمتحان والفتنة على النفس المؤمنة ، وكيف نحقّق في أنفسنا وحياتنا فلسفة وحكمة الفتنة والابتلاء ؟
إن تأثير الامتحان والتمحيص على الإنسان قد يكون سلبيّاً أو ايجابياً ، ولذلك قيل : (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) . فعندما يسأل الإنسان عن مدى خبرته في عمل ما ، فانه لا يتردّد في الجواب الايجابي وإن كان جاهلاً ، وهذه هي طبيعة الإنسان المتمثلة في عدم إقراره بالجهل ، ولكنّ أمره سرعان ما يفتضح عند الاختبار ، وحينئذ سيفهم هذا الإنسان حقيقة نفسه فيضطرّ حينئذ الى إصلاحها .
وللأسف فانّ البعض ممن يهرب من عيوب نفسه ، ويخشى ظهورها على حقيقتها ، نجده يتهرّب من مواقع التمحيص كالذي يكره المرآة ، ويودّ تحطيمها لأنها أظهرت له عيباً في وجهه لم يكن قد التفت إليه لولاها . ولكي نبرهن على واقعيّة إيماننا علينا أن نعشق المرآة ، ونلجأ إليها دائماً كي نطّلع على عيوب أنفسنا ، ونعمد الى إصلاحها ؛ ومرآتنا تتمثل في إخواننا المؤمنين ذوي الألباب ، فبنصحهم وصلاحهم تصلح مسيرتنا ، وتنجلي البقع السوداء من قلوبنا ؛ فقد تحسّ أن في قلبك نقاطاً سوداء يجعلها الناس فيك ، وربّما يتوفّاك الموت دون أن يعلم أحد بها ، ولكن عليك أن لا تنسى أن الإنسان لا يحاكم لوحده يوم القيامة ، بل إنّ الملايين قد تُحاكم كمجموعة واحدة في يوم الحشر الرهيب ، وهناك تفتضح النفوس ، وتنكشف حجب القلوب ، ولذلك جاء في الدعاء بشأن هذا الموقف الرهيب : “اللهم إنّي مؤمن بجميع أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم فلا تقفني بعد معرفتهم موقفاً تفضحني فيه على رؤوس الأشهاد ، بل قفني معهم وتوفّني على التصديق بهم” 8 .
من هنا كان الأجدر بنا أن نظهر حقيقة ما في قلوبنا وأنفسنا قبل أن يفتضح أمرنا في يوم الخزي الأكبر . فلنعرض حقيقة أنفسنا ، ولنبدأ باصلاحها بعد التوكّل على الله سبحانه ، ولندعُ لاصلاح أنفسنا في كلّ ساعة وفي كل حال نحن فيه .
واصلاح النفس يكون بالالتزام بركنين من الأخلاق ؛ الاجتناب ، والتمسك . إجتناب الأخلاق السلبية السيئة ، والتمسّك بالأخلاق الايجابية الفاضلة . فالى متى نظلّ نعيش أخلاق السلب ، ونتعامل بها مع الآخرين ، فتزيدنا ذنوباً الى ذنوبنا ؟ والى متى يبقى الحسد ، والكبر ، والبغض متأصّلاً في قلوبنا ، ومتراكماً عليها ؟ فمثل هذه الكدورات ، والعيوب التي تسوّد قلوبنا وتميتها ينبغي أن ندعو الله لإزالتها . فلنحذر الشيطان ومكائده ، والتي منها أنه يصوّر لنا أنفسنا بأحسن صورة ، فيجعلنا نرضى عنها ، ونقتنع أنها منـزّهة زكية .

الابتلاء غاية الحياة

ومن كلّ ذلك نستنتج إن غاية الحياة والوجود هي الابتلاء ، ومعرفة حقيقة الإيمان به ، ومدى تحمّله ، والصبر عليه ، ومن ثمّ الاستقامة والثبات في السير نحو الهدف التكامليّ للحياة . فحين الابتلاء يعرف الإنسان المؤمن نفسه ويعرف قيمة أخيه المؤمن ، وقد قيل في الحكم “عند الشدائد تعرف الاخوان” . فالبعض قد تجد منه الطيب والنبل في لسانه ، فيعدك بالاخلاص ، وتشمّ من كلامه معك روح التفاني والتضحية ، ولكن حين الشدة والصعاب لا تلقى منه أدنى شيء مما لقيته في لسانه حين الرخاء واليسر ، وربما تلمس منه الكذب في ظروف أخرى غير الشدّة وذلك عندما يرتقي منصباً ، أو يصبح ذا مال وفير بعد فقر أو غير ذلك مما يظهر معدن المرء على حقيقته .
وهكذا فبالتمحيص والابتلاء والفتنة يعرف المؤمنون الصادقون ، والرجال الصالحون المخلصون ، والمجاهدون حقّاً في سبيل الله ، وإلاّ فإنَّ الدين والإيمان في السرّاء ليسا إلاّ لعقاً على الألسن كما قال تعالى :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ 9فبالتمحيص يتميّز الخبيث من الطيب ، والمؤمن حقّاً من المنافق .

هدفية الحياة في القرآن

والآن نتناول موضوع الهدفيّة في الحياة من خلال الآيات القرآنية التالية المقتطفة من سورة الأحزاب . قال الله تعالى : ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ 10.

الأنبياء طليعة الخلق

فالسياق القرآني يتعرّض هنا للعهود والمواثيق التي أُخذت على أنبياء الله وخاصّة أهل العزم منهم . فالأنبياء والرسل هم قادة الأمم على مرّ الدهور السابقة ؛ فهم طليعة الخلق ، ولذلك لم يكن العهد الذي أُخذ منهم عهداً هيّناً وسهلاً ، بل كان عهداً غليظاً ـ كما عبّر عنه القرآن ـ يليق بمقامهم كأنبياء ورسل يقودون الأمم نحو التكامل الانساني .
ثم ينتقل السياق لبيان علّة أخذ الميثاق ، فيقول تعالى :﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ … ﴾ 11. فالإنسان الصادق إنما يظهر صدقه عندما يفتن ويمحّص فيتبيّن إذا ما كان صادقاً حقّاً أم لا ، وقد جاء التأكيد على هذا التمحيص في هذا الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، حيث قال : “لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم ، فانّ الرجل ربما نهج بالصلاة والصوم ، حتى لو تركه استوحش ، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة” 12 . فهويّة الإنسان المؤمن تتجلى بصدق الحديث ، ومدى ادائه للأمانة .
ثم يستمر السياق الكريم مذّكراً المؤمنين بما أنعم الله عليهم في أيام الشدائد ، وساعات المواجهة الأولى مع الأعداء ، إذ يقول تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ … ﴾ 13، ولعلّ أعظم نعمة يغاث بها الإنسان المؤمن حين الشدة ، وساعة الصراع ، هي الامداد الإلهي الغيـبي .
ثم يمضي السياق ليذكّر المؤمنين بشدّة تلك المواقف الصعبة : ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ … ﴾ 14. فتلك كانت ساعة التمحيص الكبرى ، حيث زاغت العيون من شدّة الخوف ، وراح المؤمنون يتحشرجون في أنفاسهم وكأن قلوبهم قد انخلعت ، حتى ظنّ بعضهم أنّ ربّهم قد خذلهم ، وأوقع بهم في المهلكة . وهناك كانت ساعات التمحيص ولحظاته ، حيث استخرج الله عز وجل ما خفي في نفوسهم وقلوبهم ، وأزال منها ما كان قد علق بها من الأدران والشوائب فأجلاها ونقّاها في هذا الاختبار الصعب .
والإنسان المؤمن الواعي لا يمكن أن يغفل هذه الحقيقة ، فيدع الشيطان يداهم نفسه ، ويوهمها بالكمال والصلاح ، فيرضى عن نفسه ، ويكتفي بما بلغه من السير على طريق الكمال والصلاح ؛ بل يبقى لآخر لحظة من حياته يروّض نفسه ، ويربّيها على التقوى من أجل أن يضمن لها حسن العاقبة ، وهو الأمر الخطير والمهمّ لدى كلّ انسان 15

  • 1. ميزان الحكمة، ج1، ص491، ح1947.
  • 2. بحار الأنوار، ج42، ص276.
  • 3. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآيات: 42 – 45، الصفحة: 132.
  • 4. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 45، الصفحة: 133.
  • 5. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآيات: 94 – 99، الصفحة: 162.
  • 6. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 95، الصفحة: 162.
  • 7. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 30، الصفحة: 6.
  • 8. بحار الأنوار، ج97، ص380.
  • 9. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 2 و 3، الصفحة: 396.
  • 10. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآيات: 7 – 13، الصفحة: 419.
  • 11. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 8، الصفحة: 419.
  • 12. بحار الأنوار، ج68 ، ص2 .
  • 13. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 9، الصفحة: 419.
  • 14. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 10، الصفحة: 419.
  • 15. الإبتلاء مدرسة الإستقامة ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الأول (و الكتاب منشور في الموقع الرسمي لسماحته) .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى