نور العترة

قصة جمل جابر…

يقول المؤرخون : إن النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في طريقه إلى المدينة اشترى من جابر جملاً بأوقية ، واشترط له ظهره إلى المدينة ، واستغفر له في الطريق خمساً وعشرين مرة ، وفي الترمذي سبعين مرة .

زاد ابن سعد : وسأله عن دين أبيه فأخبره به 1 .
وتفصيل ذلك :
أن جابراً كان على جمل ثقال في سفر ، في آخر القوم ؛ فمر به النبي «صلى الله عليه وآله» ، فقال : من هذا ؟!
فقلت : جابر بن عبد الله .
قال : فما لك ؟!
قلت : إني على جمل ثقال .
قال : أمعك قضيب ؟
قلت : نعم .
قال : أعطنيه ، فضربه ، فزجره ؛ فكان من ذلك المكان من أول القوم .
قال : بعنيه .
قلت : بل هو لك يا رسول الله .
قال : بل بعنيه ؛ فقد أخذته بأربعة دنانير ، ولك ظهره إلى المدينة .
فلما قدمت المدينة ، قال : يا بلال ، اقضه وزده .
فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً .
قال جابر رضي الله عنه : وأعطاني الجمل وسهمي مع القوم 2 .
وفي لفظ عن جابر قال : دخل النبي «صلى الله عليه وآله» المسجد ، فدخلت إليه ، فعلفت الجمل في ناحية البلاط ، فقلت : يا رسول الله ، هذا جملك .
فخرج «صلى الله عليه وآله» فجعل يطوف بالجمل ، قال : الثمن والجمل لك 3 .
وحسب نص آخر قال جابر : «وتحدثت مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟
قال : قلت : يا رسول الله ، بل أهبه لك .
قال : لا ، ولكن بعنيه .
قال : قلت : فسمنيه يا رسول الله .
قال : قد أخذته بدرهم .
قال : قلت : لا ، إذن تغبنني يا رسول الله .
قال : فبدرهمين .
قال : قلت : لا .
قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في ثمنه ، حتى بلغ الأوقية .
قال : قلت : فقد رضيت يا رسول الله ؟
قال : نعم .
قلت : فهو لك .
قال : قد أخذته .
ثم قال : يا جابر ، هل تزوجت بعد ؟ 4 .
قال : قلت : نعم يا رسول الله .
قال : أثيباً أو بكراً ؟!
قلت : لا ، بل ثيباً .
قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعب ؟ .
قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبي أصيب يوم أحد ، وترك بنات له سبعاً 5 ؛ فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن ، وتقوم عليهن .
قال : أصبت إن شاء الله أما إنا لو قد جئنا صراراً (موضع على ثلاثة أميال من المدينة) أمرنا بجزور ؛ فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعت بنا ، فنفضت نمارقها 6.
قال : قلت : والله يا رسول الله ما لنا من نمارق .
قال : إنها ستكون ؛ فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً .
قال : فلما جئنا صراراً أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بجزور فنحرت ، وأقمنا عليها ذلك اليوم ، فلما أمسى رسول الله «صلى الله عليه وآله» دخل ودخلنا .
قال : فحدثت المرأة الحديث ، وما قال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله» .
قالت : فدونك ، فسمع وطاعة .
قال : فلما أصبحت أخذت برأس الجمل ، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال : ثم جلست في المسجد قريباً منه .
قال : وخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» فرأى الجمل ، فقال : ما هذا ؟ .
قالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جابر جاء به .
قال : فأين جابر ؟
قال : فدعيت له .
قال : يا بن أخي ، خذ برأس جملك فهو لك .
ودعا بلالاً ، فقال له : اذهب بجابر فأعطه أوقية .
قال : فذهبت معه ، فأعطاني أوقية ، وزادني شيئاً يسيراً .
قال : فوالله ما زال ينمى عندي ، ويرى مكانه من بيتنا ، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا ، يعني يوم الحرة 7 .
وفي نص آخر : «ثم قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبلي ، وقدمت بالغداة ؛ فجئت المسجد فوجدته على باب المسجد ، فقال : الآن حين قدمت ؟
قلت : نعم .
قال : فدع جملك ، وادخل فصل ركعتين .
قال : فدخلت فصليت ركعتين الخ . .» 8 .
ثم ذكر هبة النبي «صلى الله عليه وآله» الجمل ، وثمنه له .
وفي بعض روايات مسلم عن جابر : أن هذه القضية قد حصلت له, وهم مقبلون من مكة إلى المدينة 9 .

اختلافات الرواية في مقدار ثمن الجمل

إن المراجع لنصوص هذه الرواية يجد : أن فيها العديد من موارد الاختلاف والتناقض ، خصوصاً فيما يرتبط بقيمة جمل جابر .
فقيل : اشتراه منه بأوقية 10 وهي أربعة دنانير .
قال الأشخر اليمني : «وهي أكثر الروايات ، كما نقله البخاري عن الشعبي» 11 .
وقيل : بأوقيتين 12 .
وقيل : بثلاث 13 .
وقيل : بأربع 14 .
وقيل : بخمس 15 .
وقيل : بست أواق 16 .
وقيل : بثمان مئة درهم 17 .
وقيل : بخمسة دنانير 18 .
وقيل : بدينارين ودرهمين 19 .
وقيل : بعشرين ديناراً 20 .
وحملها البعض على أنها كانت دنانير صغاراً 11 .
وقيل : بأربعة دنانير ، بعد أن أعطاه درهماً ممازحاً له 18 .
وهذا القول الأخير : لا ينافي القول بأنه اشتراه بأوقية ، لأن ذلك في معنى الأوقية 21 .

الزيادة المباركة

والروايات تصرح : بأن النبي «صلى الله عليه وآله» زاد جابراً على ثمن جمله .
وتصرح بعض الروايات : بأنه قد زاده قيراطاً .
فقال جابر : «لا تفارقني زيادة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ؛ فحفظه حتى أصيب منه يوم الحرة ، ففيه التبرك بآثار الصالحين» 22 .

تاريخ قصة جمل جابر

قيل : إن قصة جمل جابر قد كانت في غزوة ذات الرقاع حسبما تقدم .
وبعض الروايات تقتصر على القول بأنها كانت في رجوعه من مكة إلى المدينة 23 .
وقيل : كانت في رجوعه من غزوة تبوك 24 ، وهي متأخرة عن غزوة ذات الرقاع .
وقد يناقش في ذلك : بأن سؤال النبي «صلى الله عليه وآله» له عن كونه قد تزوج أو لا ، واعتذاره لتزوجه ثيباً بأنه قد لاحظ حال أخواته ، اللواتي تركهن له أبوه المستشهد في أُحد يدل على أنه إنما تزوج بعد مقتل أبيه في أُحد ، ولم يؤخر ذلك إلى غزوة تبوك .
إلا أن يقال : إنه قد يكون تزوج أكثر من مرة ، وتكون مشكلة أخواته موجودة في المرتين ، أو يكون قد تأخر زواجه طيلة هذه المدة ، وإن كان ذلك بعيداً .

القيمة الحقيقية لهذا الحدث

وإننا حين نراجع قصة جمل جابر ، فإننا نجد فيها :
1 ـ ملامح غنية من الخلق الرفيع لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لما انطوت عليه من لطف ورقة ، ومحبة وأريحية ظاهرة ، تظهر لنا : أن علاقاته «صلى الله عليه وآله» بأصحابه إنما كانت من منطلق الحب والعطف والصفاء والمودة ، مع إجلال منهم له وإكبار ، وتقديس .
2 ـ إننا نجد الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» في هذه القصة ـ كما هو في غيرها ـ يعيش آلام الآخرين ، ويشاركهم الشعور بها . وقد كان والد جابر بن عبد الله قد استشهد في حرب أحد ، وأصبح جابر هو المسؤول عن الأسرة بعد أبيه ، وكان عليه أن يختار للزواج امرأة تستوعب وتتفهم الواقع الذي استجد نتيجة لذلك ، وتشاركه في معالجته بأحسن وجه وأتمه .
وقد ظهرت رقة حال جابر ، من الجهة المالية والمعيشية ، في أن الجمل الذي أعده لهذه الأسفار البعيدة والشاقة كان من الضعف بحيث أصبح في آخر الركب .
ولم يكن الرسول «صلى الله عيه وآله» بالذي يغفل عن تفقد حال أصحابه ، والوقوف عليها عن كثب ليشاركهم حياتهم حلوها ومرها .
وها هو يجد جابراً على جمله الضعيف المكدود في آخر الركب .
3 ـ إن من الملاحظ : أن الرسول «صلى الله عليه وآله» كان يسير مع الناس ، وفي أواخرهم أحياناً ، فيعرف حال أصحابه في مسيرهم ذاك بصورة أتم وأوفى . ولم يكن ليقتصر على حملة الأخبار إليه «صلى الله عليه وآله» ، فكان يندفع للتعرف على الأمور بنفسه ، ومن دون أي وسطاء ، ربما تؤثر التوجهات السياسية والارتباطات الاجتماعية وغيرها على مستوى دقتهم ، واستيعابهم لسائر الخصوصيات التي يكون الوقوف عليها مفيداً بل وضرورياً في كثير من الأحيان .
هذا كله : لو فرض أن هؤلاء النقلة على درجة من الحيطة الدينية والورع والصفاء ، والوفاء . وقد لا يكون الكثيرون منهم كذلك بالفعل .
4 ـ قد لاحظنا : أن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد دخل مع جابر ـ بأسلوب رضي وسليم ـ إلى حياته الخاصة ، بل وإلى أعماقها ، فعرف السر الذي لأجله أقدم جابر على التزوج بامرأة ثيب .
وعرف ما يعاني منه جابر من ضغط الظروف ، وما يتحمله من مسؤولية نجمت عن فقد أبيه ووجود أخواته السبع .
ثم عرف أيضاً : أن جابراً لا يملك شيئاً من النمارق ، أو غيرها مما يتنعم به المتنعمون .
ثم إنه «صلى الله عليه وآله» لم يترك توصية جابر بأن يعمل عملاً كيساً ، يتسم بالعقلانية والتدبير .
كما أنه قد أفسح في آماله وطموحاته حينما أخبره : أن حالته لسوف تتغير ، وتتحسن من الناحية المعيشية ، ولسوف يملك حتى النمارق في المستقبل ، وما عليه من أجل الحصول على ذلك ، والوصول إليه إلا أن يعمل عملاً كيساً .
5 ـ إن عرض النبي «صلى الله عليه وآله» على جابر شراء بعيره بطريقة فيها نوع من المداعبة له ، ليفتح قلبه ، وليسقط حواجز الرهبة لديه ، إنما أراد أن يجعل منه ذريعة لإيصال مال إليه ، يستعين به على مصاعب الحياة ، وعلى إحداث تغيير أساسي فيها ، ولكن بطريقة لا تبقي مجالاً للتساؤل ولا للاعتراض من أحد ، بخلاف ما لو بادر إلى تقديم هذا المال إلى جابر دون مبرر ظاهر .
6 ـ ولا نريد أن نترك الحديث عن هذه القضية دون الإلماح إلى أن ذلك يعطينا درساً دقيقاً ورائعاً عن طبيعة العلاقات التي تربط بين القائد والرعية ؛ فهي ليست علاقات السيد والمسود ، والأمير والمأمور ، أو القوي والضعيف أو ما إلى ذلك .
وإنما هي علاقات الإنسان بالإنسان من خلال الإحساس بالمسؤولية والواجب الإلهي والإنساني .
ونزيد ذلك توضيحاً حين نقول : إن سلوك النبي «صلى الله عليه وآله» هذا من جهة ذاته ليس تواضعاً منه ولا هو إحسان وتفضل فقط ، وإنما هو مقتضى إنسانيته الكاملة وهو عمل بواجبه الإلهي ، والإنساني ، وإن كان من جهة قياسه بما هو خارج عن مقام ذاته يعد من التواضع والإحسان والتفضل في أعلى درجاتها ، وأوضح تجلياتها .
وفقنا الله للسير على هدى النبوة ، والتأسي برسوله الأكرم الأعظم «صلى الله عليه وآله» .
كرامة وتكريم :
قال الواقدي : وحدثني إسماعيل بن عطية بن عبد الله بن أنيس ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، قال :
لما انصرفنا راجعين 25 ؛ فكنا بالشُّقرة ، قال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله» : يا جابر ما فعل ديَن أبيك ؟!
فقلت : عليه ، انتظرت يا رسول الله أن يجذَّ نخله .
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إذا جذذت فأحضرني .
قال : قلت : نعم .
ثم قال : من صاحب دين أبيك ؟
فقلت : أبو الشحم اليهودي له على أبي سقة (جمع وسق) تمر .
فقال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله» : فمتى تجذها ؟
قلت : غداً .
قال : يا جابر ، فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها ، وألوان التمر على حدتها .
قال : ففعلت ، فجعلت الصيحاني على حدة ، وأمهات الجرادين على حدة ، والعجوة على حدة ، ثم عمدت إلى جماع من التمر ، مثل نخبة ، وقرن ، وشقحة ، وغيرها من الأنواع ، وهو أقل التمر ، وجعلته حبلاً واحداً ، ثم جئت رسول الله «صلى الله عليه وآله» فخبرته ، فانطلق رسول الله «صلى الله عليه وآله» ومعه عِلية أصحابه ، فدخلوا الحائط وحضر أبو الشحم .
قال : فلما نظر رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى التمر مصنفاً ، قال : اللهم بارك له .
ثم انتهى إلى العجوة ؛ فمسها بيده وأصناف التمر ، ثم جلس وسطها ، ثم قال : ادع غريمك . فجاء أبو الشحم .
فقال : اكتل .
فاكتال حقه كله من حبل واحد وهو العجوة ، وبقية التمر كما هو .
ثم قال : يا جابر ، هل بقي على أبيك شيء ؟
قال : قلت : لا .
قال : وبقي سائر التمر ؛ فأكلنا منه دهراً ، وبعنا ، حتى أدركت الثمرة من قابل ، ولقد كنت أقول : لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين الخ . . 26 .

مع الحدث في دلالاته وخصوصياته

وفي وقفة قصيرة مع هذا الحدث نلمح باختصار شديد إلى النقاط التالية :
1 ـ إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا ينسى أولئك الصفوة الأبرار ، الذين استشهدوا في سبيل الله سبحانه ، فيسعى لحل العقد والمشكلات التي ربما تكون لا تزال عالقة ، وبحاجة إلى حل .
فها هو يريد إبراء ذممهم من حقوق الناس وديونهم ما وجد إلى ذلك سبيلاً ، لكي تطيب سمعتهم ويذكرهم الناس بالإجلال والإكبار ، ومن دون أي حزازة ، أو غضاضة .
ثم لتطيب نفوس أبنائهم ، وأقاربهم ، ويزول شعورهم بالحرج أمام الناس وفي أنفسهم ، حتى يواجهوا انفراجاً في حالتهم المعيشية ، التي تتسم بشيء من الضيق والصعوبة .
2 ـ رغم أن ذلك الدائن لعبد الله والد جابر كان رجلاً من اليهود ، إلا أننا لم نجد تردداً من النبي «صلى الله عليه وآله» في أمر إرجاع المال إليه ، ولا أخذ بنظر الاعتبار مواقف اليهود الحاقدة على الإسلام وعلى المسلمين ، ومؤامراتهم وكيدهم ، والتي كان ولا يزال هو والمسلمون يعانون منها .
وقد يكون من أسباب ذلك ـ بالإضافة إلى أن هذا هو حكم الإسلام ، وهذه هي أخلاقياته ، حتى مع أعدى أعدائه ، وهو ينطلق في ذلك مما يملكه من قيم ومبادئ إنسانية وإلهية سامية ومقدسة ـ هو :
أنه يريد بذلك أن يقيم حركة التعامل فيما بين الناس على أسس وضوابط ثابتة ، يمكن للناس أن يعتمدوا عليها ، ويرجعوا إليها وأن يطمئنوا إلى هذا الثبات فيها ليمكنهم التحرك الفاعل والمؤثر بالفعل ، والتخطيط لبناء الحياة في المستقبل . إذ بدون هذا الثبات ، ومن دون وضوح ضوابط التعامل ، فإن الحياة تصبح قلقة ، وغير مشجعة على القيام بمبادرات ذات طابع حيوي وشمولي .
3 ـ إن والد جابر قد استشهد في حرب أحد ، وكانت هذه القضية قد جرت حين رجوع النبي «صلى الله عليه وآله» من غزوة ذات الرقاع التي كانت بعد الحديبية ، حسبما أثبتناه فيما سبق .
ومعنى ذلك هو : أنه قد مضت عدة سنوات ، ولم يستطع جابر أن يقضي دين أبيه ، ولعله قد قضى شطراً من ذلك الدين في السنوات والمواسم السابقة .
نعم ، تمضي عدة سنوات ، ولا ينسى النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك الدين ، الذي لم يستطع جابر أن يتخلص منه ، ولم تسنح الفرصة بعد لرسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضاً للمبادرة إلى ذلك!
4 ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قبل أن يكون وفاء دين عبد الله من نفس النخلات التي كانت له ، ولم يبادر إلى تقديم أية ضمانة في أن يتم وفاؤها من بيت مال المسلمين . إذ إن عبد الله كان قد استفاد من ذلك المال ، ولديه ما يمكن الاعتماد عليه في وفاء ذلك الدين . واستشهاده لا ينقل هذا الحق عن ماله ليصبح حقاً على بيت مال المسلمين .
5 ـ إن طريقة وفاء دين عبد الله قد أخذت صفة الكرامة الإلهية من الله لرسوله «صلى الله عليه وآله» ، حينما ظهرت البركة في التمر ، حتى ليقول جابر ، بعد أن استوفى ذلك اليهودي حقه من خصوص العجوة التي هي أفضل أنواع التمر :
«وبقي سائر التمر ؛ فأكلنا منه دهراً وبعنا ، حتى أدركت الثمرة من قابل ، ولقد كنت أقول : لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين» .
6 ـ ونلفت النظر هنا إلى أن طريقة تعامل النبي «صلى الله عليه وآله» مع هذه القضية تشير إلى أنه «صلى الله عليه وآله» كان يخطط لإظهار هذا الأمر ، بطريقة تجسيد الواقع . حيث نجد أنه «صلى الله عليه وآله» قد خطط ليكون الحدث في البستان نفسه ، ولم يقنع بأن يؤتى بالثمرة إلى البيت .
ثم هو يأمره بتقسيم التمر كل قسم على حدة .
ثم هو يلمس العجوة بيده الشريفة ، وكذا سائر الأنواع .
ثم يجلس في وسط التمر . .
بالاضافة إلى : أنه لا يأتي وحده ، بل يأتي ومعه علية أصحابه ، وليس خصوص الأشخاص العاديين منهم . ثم يشهد الجميع هذا التكريم لجابر ، ويشهدون هذه الكرامة الإلهية التي أظهرها الله على يد رسوله «صلى الله عليه وآله» .
إلى غير ذلك من دروس وعبر يمكن استفادتها من هذا الحدث . فصلى الله على رسوله وعلى الأئمة الميامين من آله وسلم تسلمياً كثيراً .

رحمة الله بعباده

وفي هذه الغزوة أيضاً جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه ، فعجب الناس من ذلك .
فقال «صلى الله عليه وآله» : أتعجبون من هذا الطائر ؟ أخذتم فرخه ، فطرح نفسه رحمة لفرخه . والله ، لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه 27 .
وما يلفت في هذه الرواية ـ على تقدير صحتها ، ولا نرى داعياً للوضع فيها ـ هو أننا نجده «صلى الله عليه وآله» يستفيد حتى من مناسبة كهذه ليقوم بدوره في تعريف أصحابه على أمر يلزمهم أن يعرفوه بعمق وصفاء . وذلك من خلال الاستفادة من أسلوب التجسيد الظاهر للحقيقة التي يراد اطلاعهم عليها ، وإقناعهم بها . حيث يكون ذلك أوقع في النفس مما لو اكتفى بأسلوب التعليم النظري والمجرد ، خصوصاً إذا أدركنا : أن هذا التجسيد قد ترك أثره النفسي فيهم ، وأثار فيهم انفعالات ظهرت على شكل تعجب من رحمة ذلك الطائر بولده ، فكان لا بد من الاستفادة من هذه الحالة النفسية وتوظيفها لصالح الإدراك الشعوري بالحقيقة التي يراد لهم لمسها ، بروحهم وبمشاعرهم بالدرجة الأولى ، ثم بعقلهم في مرحلة لاحقة 28 .

  • 1. تاريخ الخميس ج1 ص464 والسيرة الحلبية ج2 ص273 وطبقات ابن سعد ج2 ص61 .
  • 2. السيرة الحلبية ج2 ص273 وراجع دلائل النبوة لأبي نعيم ص375 و376 وراجع : الثقات ج1 ص258 و259 وراجع السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص218 وأشار الذهبي إلى قصة الجمل في تاريخ الإسلام . وراجع : نهاية الأرب ج17 ص160 و161 وراجع : المواهب اللدنية ج1 ص107 وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص166 ولا بأس بمراجعة صحيح مسلم ج4 ص176 .
  • 3. السيرة الحلبية ج2 ص273 .
  • 4. في الواقدي ذكر هذه المحادثة بعد قصة شرائه الجمل منه .
  • 5. في الواقدي : تسع بنات . وفي صحيح مسلم ج4 ص176 : وترك تسع بنات أو سبع وفي شرح بهجة المحافل ج1 ص238 تسعاً أوستاً وجمع بين هاتين الروايتين بأن منهن ثلاث متزوجات ، لم يعدهن في رواية الست ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص381 ـ 383 وراجع صحيح مسلم ج4 ص177 و 176 وراجع صحيح البخاري ج2 ص7 وراجع : بهجة المحافل ج1 ص238 وشرحه بهامش نفس الجزء والصفحة .
  • 6. النمارق : الوسائد الصغيرة .
  • 7. السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص217 و 218 وراجع : المغازي للواقدي ج1 ص399 ـ 401 ونهاية الأرب ج17 ص161 و 162 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص166 والبداية والنهاية ج4 ص86 و 87 .
  • 8. دلائل النبوة للبيهقي ج3 ص382 وصحيح مسلم ج4 ص177 وصحيح البخاري ج2 ص7 وبهجة المحافل ج1 ص238 و 239 .
  • 9. بهجة المحافل ج1 ص237 .
  • 10. راجع : السيرة الحلبية ج2 ص273 والثقات ج1 ص259 والروض الأنف ج3 ص355 وبهجة المحافل ج1 ص239 .
  • 11. a. b. شرح بهجة المحافل ج1 ص239 .
  • 12. راجع : بهجة المحافل ج1 ص239 .
  • 13. راجع : المصدر السابق .
  • 14. السيرة الحلبية ج2 ص273 والروض الأنف ج3 ص355 وبهجة المحافل ج1 ص239 .
  • 15. راجع : المصادر الثلاثة المتقدمة .
  • 16. بهجة المحافل ج1 ص239 .
  • 17. المصدر السابق .
  • 18. a. b. السيرة الحلبية ج2 ص273 والروض الأنف ج3 ص355 .
  • 19. الروض الأنف ج3 ص355 عن صحيح مسلم .
  • 20. السيرة الحلبية ج2 ص274 وبهجة المحافل ج2 ص237 .
  • 21. راجع : الروض الأنف ج3 ص355 .
  • 22. بهجة المحافل ج1 ص240 .
  • 23. السيرة الحلبية ج2 ص273 وبهجة المحافل ج1 ص237 .
  • 24. السيرة الحلبية ج2 ص273 وزاد المعاد ج2 ص111 .
  • 25. أي من غزوة ذات الرقاع .
  • 26. مغازي الواقدي ج1 ص401 و 402 .
  • 27. السيرة الحلبية ج2 ص274 والمغازي للواقدي ج1 ص398 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص165 والبداية والنهاية ج4 ص86 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص379 .
  • 28. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، السنة 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء العاشر .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى