لا يكاد يفصلنا عن عاشوراء فاصل من الزمن، فقد بدأنا مشوارنا فيه ومعه، بانتظار تلك الاستزادة الروحية والفكرية منه على أيدي خطباء بارعين في خدمة المنبر الحسيني، ومتطلعين لخدمة مرتاديه من المؤمنين.
المنبر الحسيني روح وفكر وعاطفة ووجدان، وهو بالإضافة لذلك كله تحليق في فضاء جميل متعدد المعاني والعظات والعبر والرؤى.
لكن ذلك كله بحاجة لخطيب بارع يستطيع التحليق بمستمعيه من بداية مجلسه حتى الختام.
سأركز الحديث هنا على القصيدة التي يختارها الخطيب مفتتحاً بها مجلسه، وسبب حديثي هذا أنني بدأت منذ شهر تقريباً أقلب العديد من النتاجات والكنوز الشعرية التي تصب في رثاء الحسين وأنصاره، فوجدتُ كمّاً كبيراً من القصائد الرائعة.
قصائد مليئة بالأدب في أجمل وأرقى كلماته المعبرة، وقصائد هي في حقيقة الأمر لوحات فنية نحتها كتَّابها بعينين، عين العاطفة وعين المعرفة لاكتشاف دقائق الحدث المأساوي الذي حل بعترة رسول الله .
ووجدتُ كمّاً هائلاً من القصائد التي أجاد كتابها لملمة التاريخ وأحداثه المتتابعة وصولاً إلى واقعة الطف، بطريقة انتقائية تعبر عن قدرات فائقة في تصيّد الأحداث والتأليف بينها في لوحة واحدة تسلب لبّ الإنسان من شدة تداخلها وتسلسلها.
ووجدت قصائد لا تستطيع جفون العين معها مغالبة الدموع التي تنهمر وهي في استرسال تقرأ تلك الأبيات الرائعة.
ووجدت الكثير من الأمور التي ربما يعجز القلم عن التعبير عنها لأنها تسكن أعماق الفؤاد، كما أن الحديث عنها يحتاج لمقالة خاصة كي تفي ببسط بعض مما يجده القارئ لتلك القصائد العصماء.
وسؤالي أين خطباؤنا عن تلك القصائد؟ ولماذا يقتصرون على قصائد مكررة؟ ولماذا تُفتتح أغلب (بل) كل المجالس بذات القصيدة، وكأننا في شحّ من القصائد الراثية لأهل البيت ؟ حتى أن الغالب من المستمعين يسبقون الخطيب في نطق أبيات القصيدة من كثرة تكرارها وحفظهم لها.
أسئلة كثيرة جالت في خاطري وأنا أقلب تلك الصفحات الجميلة والرائعة، التي تتنافس بثقة واقتدار في تقليب أحداث كربلاء والحركة بين تفاصيلها باحتراف لم تشهد مثله أي حادثة أخرى في التاريخ.
بين الحفظ والتجديد
ليس لديّ شك أن كل الخطباء يعلمون ما تحدثت عنه، وبعضهم لديه قصائد (من تأليفه) غاية في الروعة، فالمشكلة ليست في عدم المعرفة والعلم بهذه القصائد الراقية من الخطباء، كما أن المشكلة ليست في عدم الرغبة في التجديد، فالتجديد غاية يسعى لها الخطيب، وقدرة لا ينأى بنفسه عن ممارستها والانتساب لها.
يبدو لي أن سبب حرماننا من سماع هذه القصائد على ألسن الخطباء ومن ثم التلذذ الروحي والتفاعل الوجداني مع معانيها هو ما درج عليه الخطباء من اعتمادهم الحفظ للقصائد.
هذا الحفظ الذي يحسب – دون شك – قدرة للخطيب ووسام على صدره هو الذي يحرمنا من جديد قصائد عاشوراء، ولكي أكون منصفاً فإن المجتمع ينتظر من الخطيب أن يكون حافظاً، فهكذا اعتاد الخطباء وهكذا ألِفَهم.
لكن هل لايزال الجيل الجيد يطلب من الخطيب الحفظ؟ وهل التقييم اليوم يستند لتلك الشروط القديمة؟
لي الحق أن أشكك في ذلك، فالجيل الجديد لم يعتد الحفظ في مناهجه الدراسية كما اعتاده الجيل السابق، وأغلب المناهج الدراسية في العالم الإسلامي هجرت الحفظ لصالح الفهم والتفكير وغير ذلك، والجيل الجديد فيما أظن ليس له تشبث بالحفظ كما كان في الأجيال السابقة.
إن الحفظ يكلف الخطيب جهداً كبيراً وهو ما يدعوه أحياناً للاقتصار على محفوظاته السابقة، وإن كررت وأعيدت آلاف المرات على مسامع الحاضرين.
وهنا أعرض مقترحاً بين يدي الخطباء، وهو المحاولة ولو في بعض أيام عاشوراء ليشنِّفوا أسماعنا بجديد الشعر وعذبه وجميله وإن كان مكتوباً في ورقة يمسكونها بأيديهم، وفي اعتقادي أن جديد ما سنسمع سيشغلنا عن الجزئيات التي لا دخل لنا فيها كمستمعين ومتلقين1.