مقالات

قتال الخوارج…

بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على خير خلقه و أشرف بريّته محمد و آله الطيبين الطاهرين .. و اللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ..
و بعد ..
لقد تمخضت حرب صفين ، و خدعة التحكيم عن تمرد فئة سماها النبي ( صلى الله عليه و آله ) بـ : ( المارقة ) ، التي تمرق من الدين مروق السهم من الرمية … و هي تلك الفئة التي لم تستطع أن تتفاعل مع الأحداث ، و لا أن تهضم أبعاد المناورات السياسية ، التي كان معاوية يتوسل بها لتمرير مؤامراته ..
هذه الفئة .. التي سُمِّيت فيما بعد بـ ” الخوارج ” بالذات هي التي مكنت معاوية من تمرير لعبته المعروفة بـ ” قضية التحكيم ” .. و لكن هذه الفئة نفسها أيضاً هي التي عادت لتحارب علياً لقبوله بهذا التحكيم ، الذي فرضته هي عليه من قبل ، و هددته بالحرب و الدمار ، و تمكين معاوية منه ، إن هو لم يقبل …
و معاوية ، و إن كان لم يستطع أن يربح هؤلاء إلى جانبه ، و لم يكن يسعده كثيراً أن يكون أمثال هؤلاء الجهلة معه ، و إلى جانبه … إلا أنه على أي حال قد فرح كثيراً بانفصالهم عن علي ( عليه السلام ) ، ليكونوا مصدر إزعاج و تعب له ، و حجر عثرة في طريق تقدمه نحو أهدافه ، التي هي أهداف الإسلام ، و التي مازال معاوية يخشاها ، و يجهد كل الجهد في سبيل منعه من الوصول إليها ، و الحصول عليها.
و بالفعل .. فقد اضطر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى محاربتهم أخيراً ، و دفع شرهم عن المسلمين ، فقاتل ( عليه السلام ) المارقين في النهروان ، بعد أن قاتل الناكثين في الجمل ، و القاسطين في صفين ..
و لكن علياً ( عليه السلام ) هذا الذي حارب المارقين ( الخوارج ) ، و أباد خضراءهم .. نراه ينهى شيعته بعده عن قتالهم ، و يقول : ” لا تقاتلوا الخوارج بعدي ” !!.
فلماذا ينهى علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن قتال الخوارج ؟؟ مع أنهم أعداؤه و مناوؤه ؟!
فهل ثمة من تناقض في هذين الموقفين. و خطأ و صواب في كل من الحالتين ؟
الجواب عن ذلك بكل بساطة ، هو :
لا ، لا تناقض في مواقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أبداً ، إذ مع غض النظر عما يقوله الشيعة من أنه ( عليه السلام ) إمام معصوم ، لا يصدر عنه إلا ما هو الحق ، و الخير ، و العدل ، فلا يمكن أن نتصوره قد ندم على قتالهم ، و رأى أن الصواب في خلاف ذلك ، فإننا نقول إن علياً ( عليه السلام ) في نظره الثاقب ، و في علمه بالحقائق و الدقائق ، لا يمكن إلا أن يكون عارفاً حقيقة ما سوف يجري و يحدث ، و ما سوف تمر به الأمة من أزمات ، و ما سوف يجري عليها من أحداث ..
و لذا فهو قد أدرك فعلاً أن الصواب في قتالهم أولاً .. و أن الصواب في عدم قتالهم بعد ذلك ..
فلا تناقض بين الموقفين .. و لا خطأ و صواب .. بل صواب في كل من الحالتين.
أما قتالهم أولاً فلكونهم مفسدين في الأرض ، متمردين على إمامهم ، مارقين … لا بُدَّ من إعلان رأي الإسلام الصريح و موقفه الصحيح منهم … الإسلام الذي يمثله و يفهمه بشكل كامل و دقيق و عميق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حتى لا يغتر بهم الغر الجاهل ، و يتحير و يشتبه الأمر على المنصف العاقل ..
و أما نهيه ( عليه السلام ) شيعته عن قتالهم بعده ، فهو نهي زمني ، يرتبط بتلك الفترة ، التي كان الحكام على الناس فيها ، هم أولئك الذين لا يعملون بكتاب الله تعالى ، و لا بسنة نبيه ( صلى الله عليه و آله ) كما سيتضح .. و على كل حال ، الأمور التالية قد تكون هي بعض مبررات نهيه عليه السلام عن قتال الخوارج :
الأول : إن الحكام و المتسلطين على الناس آنئذٍ كانوا من الشجرة الملعونة ـ أعني الأمويين ـ المنحرفين عن الدين و الإسلام ، و كان الخوارج يقاتلونهم ، و يحاربونهم ، و يمثلون الشوكة الجارحة في أعينهم ..
فقتال الخوارج ـ و الحالة هذه ـ معناه الدفاع عن ذلك الحكم الأموي الظالم ، و تأييده … و ليس من مصلحة الإسلام ، و لا من مصلحة المسلمين الدفاع عن حكم كهذا ، لأن معنى ذلك خيانة الأمة ، و الدين ، و خيانة كل الأجيال اللاحقة … و إلى الأبد …
الثاني : إن الشيعة كانوا قلة ، و مضطهدين من جانب الحكم الأموي الغاشم ، و ليس لآل علي ( عليهم السلام ) حكومة تستطيع أن تحمي الشيعة ، و تدافع عنهم ، و ليس لهم ملجأ يلوذون به و لا قوة يعتمدون عليها ..
فتكليف الشيعة بحرب الخوارج معناه : القضاء عليهم ، قضاء مبرماً و نهائياً و هذا ما يريده الأمويون ، و يسعون إليه .. أما الأمويون فتبقى قوتهم على حالها ، بينما يكون كل خصومهم قد ضعفوا و وجُدت فيما بينهم الثغرات ، و نشأت العقد الإجتماعية ، و المشكلات الإنسانية و شُغل كل بنفسه ، أما الأمويون فأمورهم تبقى متسقة ، و لا يكلفهم ذلك شيئاً … بل إن ذلك سوف يمكّن الحكم الأموي من مواجهة كلا الفريقين بشراسة و قسوة و يكون القضاء عليهما بعد ذلك سهلاً و ميسوراً ، سواء في ذلك : الشيعة ، أو الخوارج …
و بديهي .. أن الحفاظ على الشيعة ، الشعلة المتوقدة للحق و الخير ، أفضل بكثير من القضاء على الشيعة و الخوارج معاً .. و ليبقى الأمويون من ثم يعيثون في الأرض فساداً ، و يتحكمون بمقدرات الأمة ، و يسومونها الخسف و الذل ..
و يلاحظ هنا : سعى الأمويين منذ البداية لدفع الشيعة إلى حرب الخوارج … فنجد أن معاوية ـ بعد أن دخل الكوفة ـ و توجه الإمام الحسن ( عليه السلام ) إلى المدينة ، و تحرك الخوارج ضد معاوية ، و قالوا : قد جاء الآن ما لا شك فيه ـ نجد أن معاوية يرسل إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) و هو في طريقه إلى المدينة ، بكتاب يدعوه فيه إلى قتال الخوارج. فلحقه رسوله بالقادسية ، أو قريباً منها ، فلم يرجع ، و كتب إلى معاوية : لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك الخ .. 1 .
كما أننا نجد : أن معاوية حين انهزم أهل الشام أمام الخوارج ، يقول لشيعة أهل الكوفة :
“والله ، لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم .. فخرج أهل الكوفة فقاتلوهم فقالت الخوارج أليس معاوية عدونا و عدوكم؟؟ دعونا حتى نقاتله ، فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم ، و إن أصابنا كنتم قد كفيتمونا الخ ..” 2 .
الثالث : قال علي ( عليه السلام ) في وصف فتنة بني أمية :
” أَلَا إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ ، فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ ، عَمَّتْ خُطَّتُهَا ، وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا ، وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا ، وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا . وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي ، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ ، تَعْذِمُ بِفِيهَا ، وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا ، وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا ، وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا . لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ ، أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ . وَ لَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلَ انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ ، وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ ، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً ، وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً ، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لَا عَلَمٌ يُرَى … الخ ” 3.
و يلاحظ : أنه ( عليه السلام ) قال هذا الكلام بعد إشارته لفتنة الخوارج ، التي ماج غيهبها ، و اشتد كلبها ، و فقأ هو عينها .. حسب تعبير الإمام ( عليه السلام ) .
و قال ( عليه السلام ) : ” والله ، لا يزالون عليكم حتى لا يدعوا لله محرماً إلا استحلوه و لا عقداً إلى حلوه ، و حتى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلا دخله ظلمهم ، و نبا به سوء رعيهم ، و حتى يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكي لدينه ، و باك يبكي لدنياه ، و حتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده إذا شهد أطاعه ، و إذا غاب اغتابه ، و حتى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم بالله ظناً الخ ..” 4 .
و إذن .. فإن إشغال الأمويين بالخوارج معناه : التخفيف من ظلمهم للناس ، و التقليل من الويلات التي كانت تعاني منها الأمة ، على يد ذلك الحكم الغاشم ، الذي لم يكن يرحم أحداً ، و لا يُبقي ، و لا يذر … حيث تكون الفرصة أمامهم أقل بسبب انشغالهم بما هو أهم بالنسبة إليهم ، ألا و هو الحفاظ على ملكهم الذي هو أغلى و أعز ما في الوجود عليهم … و كيف لا يكون كذلك ، و هم يرون أن الملك وحده ، هو الذي يوصلهم لما يريدون ، و يحقق لهم ما يشتهون ، من التسلط على الأمة و التحكم بمقدراتها …
فعليهم إذن ـ حسب منطقهم ـ : أن يحافظوا أولاً على الملك ، ليتمكنوا ـ بسببه ـ من الوصول إلى مآربهم ، و الحصول على مطامعهم ، التي تتنافى ـ أساساً ـ مع أهداف الإسلام و تعاليمه …
الرابع : لقد كانت حروب الخوارج ، التي استمرت طيلة عهد الحكم الأموي ، هي السبب الأول ، و الأهم لسقوط الدولة الأموية ، .. و ذلك لأن نصر بن سيار عندما واجه أبا مسلم الخراساني ، و رأى قوته ، و كثرة جموعه ، أرسل إلى مروان الحمار ، يقول :
أرى تحت الرماد وميض نار *** و أخشى أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب مبدؤها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري *** أ أيقاظ أمية أم نيام
لكن مروان لم يستطع أن يستجيب لطلبه ، و لا أن يمده بشيء من العساكر ليواجه الحركة العباسية القوية ، و ذلك بسبب انشغاله بحروب الخوارج ، و أرسل إليه يقول : الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فاحسم الثؤلول قبلك ، فقال نصر لأصحابه : أما صاحبكم فقد أعلمكم : أنه لا نصر لكم عنده 5 .
فكان انشغال مروان بحروب الخوارج هو السبب في عدم تمكنه من نجدة عامله ، الأمر الذي مكن لأبي مسلم من مواصلة حركته ، و متابعة انتصاراته ، التي انتهت بالقضاء على الحكم الأموي ، قضاء مبرماً و نهائياً ..
الخامس : إن الخوارج .. و إن كانوا على ضلال ، إلا أنهم – و لا شك – كانوا أقل سوءاً من الأمويين ، لأنهم كانوا ـ عند أنفسهم ـ يقاتلون من أجل هدف و مبدأ ، يرونه دينياً مقدساً و إن كانوا قد أخطأوا الطريق من حيث أنهم لا يقاتلونهم مع إمام حق ، بل هم حاربوا الإمام ، و رفضوا الإنقياد له .. فهم محقون في سعيهم لإزالة حكم الجبارين ، لكنهم أخطأوا السبيل لتحقيق ذلك ، فضلالتهم و خطؤهم هناك لا يجعل شعارهم بلزوم حرب الجبارين خطأ .. و إن فهم قد طلبوا حقاً ، فوقعوا بالباطل ، و أرادوا صواباً ، فتاهوا في الضلال و الفساد.
أما بنو أمية فإنهم قد طلبوا الخلافة فأدركوها ، و هم ليسوا من أهلها. بل هم يعلمون : أنهم يطلبون ما ليس لهم بحق ، مع خبث نفوسهم ، و شدة ظلمهم و فجورهم ..
و واضح .. أن من يقاتل من أجل هدف لا فائدة عاجلة له منه في الدنيا ، يكون ـ و لا شك ـ أقل سوءاً من ذلك الذي يقاتل أهل الحق ، و يقتل الأبرياء ، و يرتكب أعظم الموبقات من أجل الدنيا فقط ، و في سبيلها ، و يقتل الأبرياء ، و يرتكب أعظم الموبقات في سبيل أهداف شخصية ، و شهوات فردية بحتة ..
فالخوارج يقاتلون ـ جبارين و مستكبرين يجب حربهم ـ لكن لا بهذه الطريقة بل تحت لواء إمام ، و مع إعادة الحق إلى أهله .. أما الأمويون فليس همهم ـ حتى عند أنفسهم ـ إلا شهواتهم ، و أغراضهم الشخصية فوقاحتهم تفوق كل وقاحة ، و صلفهم يزيد على كل صلف.
و قد أشار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى ذلك بقوله : ” لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كم طلب الباطل فأدركه ” 6 .
و منه ( عليه السلام ) أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لبعض الخوارج : ” إني قد علمت إنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا ، أو متاع ، و لكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها ” 7 .
و اقتصار علي ( عليه السلام ) على هذا الأمر في بيان سر نهيه عن قتالهم ، مع وجود أساليب أخرى لهذا النهي كانت محط نظره ( عليه السلام ) أيضاً قطعاً ، يعكس لنا مدى أهمية هذا الأمر عنده ، أي أن يكون الإنسان ذا هدف صحيح ، يتجاوز حدود شخصيته و مصالحه الخاصة ، يؤمن به ، و يدافع عنه ، و يضحي في سبيله ، و إن كان ربما يفهم عدد من الأسباب الأخرى من خلال كلماته ( عليه السلام ) المختلفة ، في المقامات المختلفة ، كما أشرنا و سنشير إليه.
السادس : إن دعوة الخوارج لم تكن تشكل خطراً كبيراً على الإسلام لسببين :
الأول : إن الخوراج لم يكونوا أهل ثقافة و معرفة ، بحيث يشكلون خطراً على الإسلام و الدين ، بشبهاتهم و انحرافاتهم. بل كانوا أجلافاً ، و أعراباً كأعلاج ، و كانت الأكثرية الساحقة منهم من البدو الرحل ، و لذا فقد كانت الطبيعة العربية البدوية فيهم واضحة ، فتراهم سرعان ما يختلفون ، و ينضوون تحت ألوية مختلفة ، يضرب بعضهم بعضاً .. 8 و لقد وصفهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقوله مخاطباً لهم : ” و أنتم معاشر أخفّاء الهام ، سفهاء الأحلام ” 9 .
و قال أبو حمزة الخارجي لأهل المدينة ، حين دخلها سنة / 135 / ﻫ ـ قال لهم في خطبة له طويلة :
” يا أهل المدينة ، بلغني أنكم قلتم تنتقصون أصحابي : شباب أحداث و أعراب جفاة ، و يحكم الخ .. ” 10 .
و وصفهم علي بن عبد الله بن العباس ، حين أرسل دعاته إلى الأمصار ، فقال حين ذكر أهل الجزيرة :
” و أما الجزيرة ، فحرورية مارقة ، و أعراب كأعلاج ، و مسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى .. ” 11 .
و ما أحسن ما وصفهم به بشر بن المعتمر ، رئيس معتزلة بغداد ، حيث ذكر خلوهم من الفهم و العلم و أهله ، فقال :
ما كان من أسلافهم أبو الحسن *** و لا ابن عباس ، و لا أهل السنن
غرّ مصابيح الدجى مناجب *** أولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حرقوص ، و من حرقوص *** فقعة قاع حولها قصيص
ليس من الحنظل يشتار العسل *** و لا من البحور يصطاد الورل
هيات ما سافلة كعالية *** ما معدن الحكمة أهل البادية 12
الثاني : إن دعوتهم لم تكن تنسجم مع الفطرة ، و لا تتقبلها العقول المستقيمة ، نعم … هي ربما تستهوي البعض لفترة من الزمن ، ثم لا تلبث أن تتلاشى و تنعدم ، حين يرجع الإنسان إلى فطرته ، و يفكر و يتأمل …
و يتضح ذلك إذا لاحظنا عن قرب مفاهيمهم و أفكارهم ، فمثلاً نجد فرقة الأزارقة بزعامة نافع بن الأزرق ، و هي أكبر الفرق ، إذ كان مع نافع عشرة من أمرائهم ـ بينما لم يكن مع النجدات سوى أميرين ، أما سائر الفرق فواحد ، أو بدونه ـ 13 .. بل ” لم تكن للخوارج فقط فرقة أكثر عدداً ، و لا أشد منهم شوكة ” 14 . و قد استولوا على الأهواز ، و ما وراءها : من أرض فارس و كرمان ، و جبوا خراجها 15 .
إننا نجد هؤلاء ـ يقولون : بكفر جميع المسلمين ما عداهم ، و لا يحل لأصحابهم المؤمنين أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعا إليها ، و لا أن يأكلوا من ذبائحهم ، و لا أن يتزوجوا منهم ، و لا يتوارث الخارجي مع غيره ، و يكون الغير مثل كفار العرب ، و عبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف و دارهم دار الحرب ، و يحل قتل أطفالهم و نسائهم ، و يحل الغدر بمن خالفهم ، و كذا القعدة عن القتال مع قدرتهم ، و لو كان هؤلاء القعدة على مذهبهم ، و لا يجيزون التقية ، و يجوز عندهم أن يبعث الله نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته ، إلى غير ذلك من أمور ذكرها المؤلفون في الملل و النحل 16 .
فإذا كانت هذه هي مفاهيمهم و أفكارهم ، فمن الطبيعي أن لا يتبعهم أحد من أهل العقل و المعرفة ، و لذا كان أتباعهم ـ عموماً ـ من الأعراب الجفاة ، الذين هم أجدر أن لا يفقهوا كلام الله .. و ليست هذه الأفكار و المفاهيم ملائمة للفطرة ، و لا منسجمة مع الفكر السليم ، و الذوق المستقيم ، و لذا فهي لا تشكل خطراً على الدين ، و الإسلام في شيء ..
و إذن .. فلماذا يهدر الشيعة طاقاتهم ؟! و في مقابل أي شيء ؟
نعم لا شيء .. إلا إذا كان ذلك الشيء هو تأييد الحكم الأموي الظالم و الغاشم ، و المد في عمره ، و تمكينه من رقاب الناس و التسلط على الأمة ..
أما بنو أمية ، فإن طريقتهم تستهوي النفوس البشرية الضعيفة أكثر ، لأنهم يدعون إلى الدنيا ، التي ينساق الناس وراءها بغريزتهم ، و تلائم هوى نفوسهم ، فتمكنهم يكون أيسر منالاً ، و أقرب احتمالاً ، فحربهم إذن لدفع شرهم أولى من حرب الخوارج ، و أجدى نفعاً …
هذا .. و قد تنبأ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بانقراض الخوارج ، و عدم ظهور دعوتهم و دولتهم ، فقال : ” كلما نجم منهم قرن قطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ” 6 .
و هكذا كان .. فقد قال ابن أبي الحديد : ” و هكذا وقع ، و صح إخباره عليه السلام أيضاً : سيكون آخرهم لصوصاً سلابين ، فإن دعوة الخوارج اضمحلت ، و رجالهم فنيت ، حتى افضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق ، متظاهرين بالفسوق ، و الفساد بالأرض ” 17 .
و يقول ابن ميثم : ” .. و أما كون آخرهم لصوصاً سلابين ، فإشارة إلى ما كانوا يفعلونه في أطراف البلاد : بأصبهان ، و الأهواز ، و سواد العراق ، يعيشون فيها بنهب أموال الخراج ، و قتل من لم يدن بدينهم ، جهراً و غيلة ، و ذلك بعد ضعفهم و تفرقهم ، بوقائع الملهب و غيرها ، كما هو مذكور في مظانه ” 18 .
السابع : قال علي ( عليه السلام ) بعد وقعة النهروان : ” أنا فقأت عين الفتنة ، و لم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها ، و اشتد كلبها و لو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون و لا القاسطون ، و لا المارقون ” 19 .
و الذي نريد أن نشير إليه هنا هو : أن الخوارج كانوا ظاهراً من العباد و الزهاد ، فلم يكن ليجترئ على قتالهم أحد .. كيف ، و هم صائمون النهار ، قائمون الليل!! بحسب ظاهر أحوالهم ، و عليه … فإن من يقاتلهم بعده ( عليه السلام ) ربما يتعرض للوم الشديد ، و لنفرة الناس منه ، على اعتبار أنه يقاتل أهل القبلة ، و عباد الملة .. الأمر الذي ربما ينخدع به البسطاء و السذج ، و من لا ينظر إلى بواطن لأمور بدقة و وعي ..
أما علي عليه السلام ، فقد كان له من المكانة بين المسلمين ما ليس لأحد غيره على الإطلاق ، و كانت الأمة لا تزال تسمع من و عن النبي ، صلى الله عليه و آله و سلم الشيء الكثير في حق علي عليه السلام ، بحيث جعل من الصعب على أي كان إساءة الظن فيه ، و في مواقفه … و جهاده و مكانته في الإسلام مما لا يمكن لأحد أن ينكره ، أو أن يشك فيه فلا يمكن لأحد كائناً من كان إلا أن يعتبر مواقفه منسجمة مع أهداف الإسلام و تعاليمه ، لأن علياً مع الحق ، و الحق مع علي ، يدور معه حيثما دار ، على حد تعبير الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.
فقتاله للخوارج يكون دليلاً على انحرافهم حينئذٍ ، أكثر مما يكون دليلاً على خطأ أمير المؤمنين عليه السلام في موقفه منهم …
نعم .. و هذا هو ما أراده عليه السلام بقوله المتقدم : أنا فقأت عين الفتنة و لم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري الخ .. 20 .
كان هذا هو بعض ما يمكن عرضه حول السر الكامن وراء نهي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن قتال الخوارج بعده ، و ليكن ذلك واحداً من تلك الشواهد الكثيرة القاطعة على علم الإمامة عند علي عليه السلام ، ثم هو واضح الدلالة على طبيعة رؤيته عليه السلام ، و بعد نظره في السياسة ..
السياسة القائمة على أساس الواقع ، و المنسجمة كل الإنسجام مع أهداف الإسلام ، و تعاليمه الحقة ..
وفقنا الله للسير على منهاج علي عليه السلام و التمسك بولايته ، و الإهتداء بهداه ، إنه ولي قدير ..
28/شهر رمضان المبارك/1398ﻫ.
جعفر مرتضى العاملي

  • 1. الكامل لابن الأثير : 3 / 409 ، و العقد الفريد : 1 / 216.
  • 2. الكامل لابن الأثير : 3 / 409 ، و تاريخ الطبري ، مطبعة الاستقامة : 4 / 126.
  • 3. نهج البلاغة ، شرح عبده ، الخطبة : 89.
  • 4. نهج البلاغة شرح عبده ، الخطبة : 94.
  • 5. الكامل ، لابن الأثير : 5 / 366 ، و غيره.
  • 6. a. b. نهج البلاغة ، شرح عبده ، الخطبة : 58.
  • 7. فجر الإسلام : 263.
  • 8. فجر الإسلام : 259 و261.
  • 9. نهج البلاغة ، شرح عبده ، الخطبة : 35 ، و تاريخ الطبري : 4 / 63 ، و الكامل لابن الأثير : 3 / 344.
  • 10. الكامل ، لابن الأثير : 5 / 490 ، و شرح النهج للمعتزلي : 5 / 115.
  • 11. راجع : معجم البلدان للحموي : 2 / 352 ، و أحسن التقاسيم / 293 ، و عيون الأخبار لابن قتيبة :1 / 204.
  • 12. الحيوان للجاحظ : 6 / 455.
  • 13. راجع : شرح نهج البلاغة ، لابن ميثم : 2 / 154.
  • 14. الفرق بين الفرق تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد : 83 ، و هامش الملل و النحل : 1 / 118 و 119.
  • 15. الفرق بين الفرق : 85 ، و الملل و النحل : 1 / 119 ، و شرح النهج لابن ميثم : 2 / 154.
  • 16. راجع : شرح النهج للمعتزلي : 4 / 136 و 138 ، و فجر الإسلام / 260 ، و الملل و النحل : 1 / 121 ـ 122.
  • 17. شرح النهج ، للمعتزلي : 5 / 73.
  • 18. شرح النهج ، لابن ميثم : 2 / 155.
  • 19. نهج البلاغة شرح عبده ، الخطبة : 89 ، و تاريخ اليعقوبي : 2 / 193.
  • 20. ذكر ابن أعثم في شرح النهج : 2 / 389 : ” بعض النصوص التي يصرح فيها ( عليه السلام ) بأن مقصوده بالفتنة ، التي فقأ عينها ، و لم يكن ليجرؤ عليها أحد غيره : هو فتنة : الجمل ، و صفين ، و النهروان ..” و هو صحيح أيضاً ، فإن حرب الجمل كانت بقيادة إحدى زوجات النبي ( صلى الله عليه و آله ) و بنت أحد الخلفاء ، و معها بعض الصحابة الكبار ، و من يجرؤ على حرب هؤلاء غير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟؟ ، أما حرب صفين ، فقد كانت الشبهات التي يلقيها معاوية و أعوانه عامة و طامة ، و تلك الشبهات هي التي مكنت معاوية من الوقوف في وجه علي عليه السلام ، و تجييش الجيوش لحربه .. ، و أما النهروان ، فلما ذكرناه ..
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى