تساؤلات خطيرة و حساسة و مؤلمة تجول في ذاكرة كل مسلم بخصوص قبر السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) يطرحها العلامة المُحقق الشيخ علي الكوراني العاملي ( حفظه الله ) .
لا أعرف أحداً استثمر موته و جنازته و موضع قبره في معارضة السلطة ، كما استثمرت ذلك فاطمة الزهراء عليها السلام !
تقول بذلك للأجيال : إفهموا و فكروا لماذا غضبت فاطمة عليهم ، فقاطعتهم و لم تكلمهم حتى لقيت ربها و أباها ؟
و لماذا أوصت أن تدفن سراً حتى لا يحضروا جنازتها و لا يصلوا عليها ؟!
و لماذا أوصت أن يعفَّى قبرها و لا يعرف مكانه ؟
و لماذا عمل الأئمة من أولادها بوصيتها ، فلم يحددوا قبرها و لم يبنوه ؟
فاطمة الزهراء .. أعطاها الله و رسوله مقاماً عظيماً : سيدة نساء العالمين ، و سيدة نساء أهل الجنة ، و اعترف به القريب و البعيد ، و أثبتت بسمو شخصيتها و تميز سلوكها ، أنها أهلٌ لهذا المقام ، و أنها حقاً أمَةُ الله الطيبة الطاهرة المباركة ، التي بشرت بها التوراة و الإنجيل ، و أن ذرية النبي الخاتم ستكون منها !
فما لها وقفت أشدَّ موقف من السلطة القرشية بعد وفاة أبيها ؟ و ركزت غضبها على زعامة قريش الجديدة أبي بكر و عمر و صاحبهم في مكة سهيل بن عمرو ؟! فاتهمتهما بأشد التهم ، و لم تقبل لهما عذراً ، و لا ردَّت عليهما السلام عندما جاءاها معتذرين لها من الهجوم على دارها ، و مصادرة أوقاف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و فدك و منعها من إرث أبيها صلى الله عليه و آله و سلم ! مع أن ردُّ سلام المسلم واجبٌ ، و قبول عذره لازم !
و لا نظنها كانت ستقبل لهم عذراً حتى لو أرجعوا لها الأوقاف و فدك ، فقضيتها معهم ليست أوقاف أبيها و لا مزرعة فدك ! فماذا تصنع فاطمة بفدك و الأوقاف ، و هي من هي زهداً و عبادة ، و قد أخبرها أبوها أنها ستلتحق به عن قريب ؟!
فقضيتها أن تثبت للمسلمين أن الذي جلس مكان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لا يؤتمن على الدين و الأمة ، لأنه سرق مزرعة من بنت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأرسل مسلحين أخرجوا منها وكيلها و وضعوا وكيله بدله ! فياويل بنات المسلمين ، و يا ويل الأمة !
قضيتها أنها تراهم غاصبين للخلافة التي هي حقٌّ من الله لزوجها و ولديها الحسن و الحسين ، و بعدهما للأئمة من ذريتها الموعودين على لسان أبيها !
ترى سقيفتهم مؤامرةٌ وردَّةٌ قرشية عن الإسلام ! ( فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه و مأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق … هذا و العهد قريب ، و الكلْم رحيب ، و الجرح لما يندمل ، و الرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ !…ثم أخذتم تورون وقدتها ، و تهيجون جمرتها ، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، و إطفاء أنوار الدين الجلي ، و إهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسواً في ارتغاء ، و تمشون لأهله و ولده في الخمرة و الضراء ) !!
و ترى الخسارات العظمى التي أوقعوها بالإسلام و الأمة و العالم ، بإبعادهم علياً عن الخلافة : ( والله لو تكافُّوا عن زمام نبذه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لاعتلقه ، و لسار بهم سيراً سُجحاً ، لا يكلم خشاشه ، و لا يتعتع راكبه، و لأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفتاه ، و لأصدرهم بطاناً قد تخير لهم الريَّ غير متحل منه بطائل ، إلا بغمر الماء و ردعة سورة الساغب ، و لفتحت عليهم بركات السماء و الأرض ، و سيأخذهم الله بما كانوا يكسبون )!
و قد سخرت الزهراء عليها السلام من منطقهم القبلي الذي برروا فيه اختيارهم لأبي بكر فقالت: ( ألا هلمَّ فاسمع و ما عشت أراك الدهر العجب … إلى أيِّ سِنَادٍ استندوا ، و بأية عروة تمسكوا ، استبدلوا الذُّنابى والله بالقوادم ، و العجزَ بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لايَشْعُرُونَ.. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لايَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ .
و قد بلغت قضيتها المدى ، عندما دعت الأنصار علناً في خطبتها القاصعة الى نصرتها و مقاومة سقيفة قريش و خليفتها بقوة السلاح ، و إلا فهم ناكثون لبيعتهم لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن يحموه و يحموا عترته ، و لا ينازعوا الأمر أهله الشرعيين ! فقد قالت لهم صراحةً:
( إيهاً بني قَيْلة ! أ أهضم تراث أبي و أنتم بمرأى مني و مسمع ، و منتدى و مجمع ، تلبسكم الدعوة و تشملكم الخبرة ، و أنتم ذووا العدد و العدة ، و الأداة و القوة ، و عندكم السلاح و الجنة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون…) !!
ثم عرفتهم فداحة ما حدث ، و أنذرتهم غبَّ ما عملوا فقالت: ( أما لعمري والله لقد لقحت ، فنظرةً ريثما ننتجوا ، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً ، و زعافاً ممقراً ، هنالك يخسر المبطلون ! و يعرف التالون غِبَّ ما أسس الأولون…! أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إِنَّا عَامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ !) .
إن وصية فاطمة الزهراء عليها السلام في تجهيزها و دفنها و قبرها ، كانت عملاً من سلسلة أعمالها المقصودة في خدمة قضيتها مع قريش الطلقاء ، أرادت أن تثير به السؤال في الأجيال لعلها تفهم ما أسسه الأولون و تردد مع الشاعر:
و لأي الأمور تدفن سراً بضعة المصطفى و يُعفى ثراها
بنتُ مَنْ أمُّ مَنْ حليلةُ مَنْ ويلٌ لمن سنَّ ظلمَها و أذاها