مقالات

في ضوء حديث الاستئذان

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريَّا بركات
24 إبريل 2022


في كتُب التاريخ والحديث الكثيرُ من الأخبار الَّتي تستوقف اللَّبيبَ وتجعله يُراجع حساباتِه ويُعِيدُ تقييمَ قناعاتِه.. منها الأخبار التي جمعها الإمام مسلم في صحيحه تحت عنوان (باب الاستئذان) ، وهو ضمن (كتاب الآداب) من الجزء السادس، في المجلَّد الثالث من طبعة دار الفكر ـ بيروت.

ويُمكننا تلخيصُ خبر الاستئذان ـ حسب ما في صحيح مسلم ـ بأنَّ الصحابي أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثاً، فوجده مشغولاً فانصرف، فسأله عمرُ عن سبب انصرافه وعدم استمراره في الإلحاح، فأجاب أبو موسى الأشعري بأنَّ هذا الأدب هو الذي تلقَّاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فطالبه عمر بن الخطَّاب بالبيِّنة على صدق ما يقول تحت التهديد بضربه ضرباً موجعاً لظهره وبطنه إن لم يأت بالبيِّنة..! وذهب أبو موسى إلى مجلس الأنصار فزعاً، وجاء معه أبو سعيد الخُدري فشهد، فنجا أبو موسى من العقوبة، واعترف عمرُ بقصور علمه قائلاً: “ألهاني الصفق بالأسواق”، أي العمل بالتجارة، وفي هذا السياق استنكر الصحابي أبي بن كعب على عمر تهديدَهُ لأبي موسى قائلاً: “فلا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”. فردَّ عليه عمر قائلاً: “سبحان الله! إنَّما سمعتُ شيئاً فأحببتُ أن أتثبَّت”. هذه هي القصَّةُ بأهمِّ تفاصيلها.

قال النووي شارح صحيح مسلم: أجمعَ العلماءُ أنَّ الاستئذان مشروع وتظاهرت به دلائلُ القرآن والسنَّة.

أقول: على هامش هذه القصَّة يجدُ الباحثُ نفسه أمامَ مجموعةٍ من الأسئلة، أهمُّها:

1 ـ إذا صحَّ ما يُقال من أنَّ (الصحابة في أعلى مراتب العدالة والتوثيق) ، فلماذا يشكُّ عمر في حديث يرويه الصحابيُّ أبو موسى الأشعري؟ وإذا كان عمر لا يتَّهمُ أبا موسى بالكذب وليس غرضه إلَّا التثبُّت، فلماذا يُهدِّده بالضرب الموجع؟ ألا يجعلنا هذا التصرُّف من عمر نقول إنَّ الصحابة لم يكونوا يثقون بصدق بعضهم البعض، بل كانوا يتَّهمون بعضهم البعض؟

2 ـ هل هذا التصرُّف القاسي والشديد من عمر والذي يراه أبي بن كعب عذاباً على الصحابة، هو مجرَّد موقف خاطئ من اجتهادات عمر، أم هو جزء من سياق وقوف عمر في وجه رواية السنَّة النبويَّة والذي يمكن العثور على شواهد أخرى له في الروايات والأخبار؟

3 ـ يُفهم من قول عمر: “ألهاني الصفق بالأسواق” أنَّه عارف بقصوره العلمي، معترفٌ بأنَّ التقصير من عند نفسه.. فمن يكون كذلك كيف يتسرَّع بتهديد صحابيٍّ بالضرب الموجع بسبب حديث لم يطَّلع عليه؟ لماذا لم يحتمل أن يكون الحديث ضمن ما فاته وهو منشغل في عمله في التجارة؟

4 ـ أليس الاستئذان أدباً اجتماعياً حسناً عند جميع العُقلاء، ولو لم يدلَّ عليه القرآن أو السنَّة؟ فلماذا لم يقُل عمر: نعمت البدعة هذه، كما فعل حين ابتدع الجماعة في التراويح؟

5 ـ في خبر آخر تمَّ اتهام أبي هريرة بعبارة (إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة) كما هي رواية البخاري، أو بعبارة: (إنكم تزعمون أنَّ أبا هريرة يكثر الحديث) كما هي رواية مسلم، وانبرى أبو هريرة يدافع عن نفسه قائلاً: (إنَّ إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وإنَّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم) ، فالسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان الجميع مشغولين عن طلب العلم، والخليفة يهدِّد بالعقوبة من حدَّث بحديث لا يعلمه الخليفة الذي انشغل بالصفق بالأسواق، فكيف يُقال بعد ذلك إنَّ الصحابة حفظوا لنا الدِّين؟ وما هو السبيل إلى حفظ الدِّين بعد انشغال المهاجرين والأنصار بالصَّفق بالأسواق عن طلب العلم، مع اتِّهامهم من لم ينشغل مثلهم، بل ربما تهديده بالضرب الموجع إذا حدَّث بما لا يعلمون؟

6 ـ ألا يجعلنا هذا نقتنع بنظريَّة (وراثة العلم) التي تستند إلى أدلَّة متينة، وتتلخَّص في أنَّ علم القرآن والسنَّة ورثه المصطفون من عباد الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا…} [سورة فاطر: 32] ، وهم قرناء القرآن في خلافة النبوَّة من أهل البيت: (إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله وعترتي أهلَ بيتي) [مُسند أحمد] ، وكان عليٌّ (ع) أوَّلهَم، فكان وارثَ العلم وقرينَ القرآنِ وبابَ المدينةِ، ولذلك لم يقُلْ أحدٌ من الصحابة (ولا أبو هريرة) غيرُ عليٍّ (ع) : سلوني قبل أن تفقدوني.

فعن سعيد بن المسيَّب، قال: “لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول سلوني إلَّا عليَّ بنَ أبي طالبٍ”. [فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، وغيره] ، وسنده صحيح.

وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب”، [المستدرك على الصحيحين للحاكم، وغيره] ، وحَسَّنَهُ العَلائي وابنُ حجر والسخاوي والزرقاني والزَّركشي والشَّوكاني.

والأحاديث والآثار في هذا المجال كثيرةٌ متواترةٌ تثبت بالقطع صحَّة النظريَّة التي يعتقد بها أتباعُ أهل البيت (ع) من أنَّ حفظ الدين وصيانته هي مهمَّة أُوكِلَتْ إلى اثني عشر خليفة راشداً من أهل البيت (ع) لهم سُنَّة كسُنَّة رسول الله (ص) أُمر العبادُ بالتمسُّك بها: (لا يزال الدِّين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة) ، (عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين…) .

والله وليُّ التَّوفيق، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى