لقد ثبت بتجارب الأمم السالفة وسِيَرها أن لا نجاح لأيّة مهمة دعوية وتبليغية من دون وجود داعية أو دعاة يروجون لهذا الطرح ويتمتعون بمؤهلات تمكّنهم من القيام بهذا الدور وإتمامه بأتمّ وجه.
إنَّ الدعوة إلى الدين أو التبليغ برسالة السماء عملية ليست بالسهلة اطلاقا؛ لذلك فعلى الداعي إلى هدى الحق أن يخضع لمنهجية رصينة كفيلة بتسويغ أفكاره ورؤاه التي من أجلها أتى بدعوته وقام بها. ومن هنا تنبع أهمية فن الدعوة وطريقة التبليغ وأسلوب الحوار الناجح! والقرآن الكريم نجده قد أولاها الأهمية القصوى ووضع لها أساليب عقلائية توصل الى إنجاح تلك المهمة، ومن ثم الوصول بالمدعوين والمخاطبين إلى الأهداف المنشودة من صاحب الدعوة وربّه الحكيم.
ومما يجدر بنا ذكره أنّ أيّة فكرة تتسم بطرحها الجديد أو تبنيها سلوكًا إرشاديًّا يحثّ الآخرين على التعاطي معها سواء أكان ذلك على المستوى الديني العقائدي أم الدنيوي ستجد في ثنايا طريقها عقبات أو ما يمكن تسميته بالمطبات التي تجعل من المهمة صعبة جدا لاسيما إذا علمنا أن الشيطان وأعوانه لا يدخرون أيّ جهد للإيقاع بين الداعية أو المبلغ من جهة والمخاطبين من جهة أخرى؛ وذلك لإفشال الدعوة ومشروعها التنموي. فيكون بذلك من الضروري إتباع طرائق وأساليب رشيدة في الدعوة إلى الحق، لاسيما إذا كانت تلك الأساليب والفنون قد أجادها علينا العليم الخبير في ذكره الحكيم.
إنّ تبنّي الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الحق بجهاته كافة والتمكّن من فنونها الجذابة والقدرة على الإقناع وإظهار عناصر القوة في الكلام والتعامل به تجاه الناس عامةـ كلّ ذلك يختزل لنا كثيرا من الجهد والعناء وكثيرا من الخسائر، ويوفَّر لنا زخمًا عظيمًا من المد البشري والمعنوي والمادي الضروري جدا في رفد حركة الدعوة والتبليغ وضمان ديمومتها واستمرارها حتى تحقيق الأهداف، فلو تأملنا في بعض آيات القرآن الكريم لوجدنا الحق سبحانه يدعو الرسول الكريم إلى تبني الأسلوب الرائع الذي يهيمن من خلاله الدعاة على قلوب مخاطبيهم، فقال عزّ من قائل:
}ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ| (النحل: 125) ولعمري أن هذا الأسلوب يلائم المخاطبين بكافة مستوياتهم الفكرية والعلمية، فهو يلائم صاحب العقلية الكبيرة كما يلائم صاحب الفكر المتوسط وكذلك يلائم البسيط والمتدني، فهذه الآية لوحدها كفيلة بوضع منهج متكامل في فن الدعوة وأساليب التبليغ وإجادة فن الحوار، وكأن الحق تعالى يطلب من نبيه الكريم a أن يستعمل ثلاثة مستويات من الدعوة، كل مستوى يحاكي فئة من الناس ويلائم مكنوناتهم الفكرية، فالدعوة إلى الحق من خلال الحكمة رهينة بذوي العقول النيرة والمتفتحة؛ لأنّ الحكمة تحاكي العقل والفكر، وهي -أي الحكمة-تعني العلم والعقل والاستدلال المنطقي، وهي في اللغة والأصل تعني (المنع) وقد استُعيرت للعلم والمنطق لقدرتها على ردع الإنسان عن تبني طرق الفساد والضلال والانحراف. فالخطوة الأولى على طريق الدعوة إلى الحق هي القدرة على الاستدلال على وفق المنطق السليم، والنفوذ إلى داخل الأفكار في محاولة لتحريك العقول وإيقاظها وهي بذلك تلائم العقلاء والمثقفين. أما (الموعظة الحسنة) فتأتي في المرحلة الثانية في الدعوة إلى الحق، لما لها من أثر كبير ومهم في عاطفة الإنسان وأحاسيسه، وتوجيهها الوجهة الحسنة نحو الحق؛ وذلك من خلال الإفادة من تحريك الضمير والوجدان الإنساني، فهي ههنا تخاطب العاطفة وتتعامل مع أبعادها خلافا لـ(الحكمة) التي تخاطب العقل وتستثمره منطقيا.
والموعظة الحسنة تفيد وتلائم شريحة من الناس لا تمتلك المؤهلات الفكرية والعقلية العالية، أو ربما تمتلكها ولكن الحكمة لوحدها لا تؤثر ولا تفيد في الدعوة إلّا بمعية استقطاب الجانب العاطفي فتُعَزز الحكمة آنذاك بالموعظة الحسنة.
وقد قيّد الحق سبحانه الموعظة بـ(الحسنة) لأنّ النصيحة والموعظة ربما لا تؤدي عملها إلّا إذا كانت خالية من الخشونة والاستعلاء وتحقير الآخرين بما يؤدي إلى إثارة العناد وردة الفعل السلبية اتجاه الدعوة والقائمين عليها، فكثير من المواعظ قد أعطت خلاف ما كان مأمولا لها نتيجة لأساليب الطرح المثيرة والمنفرة التي تُشعر الطرف المقابل بالاحتقار والاهانة بما يؤدي إلى تعنَّت هذا الطرف فتأخذه العزة بالإثم فلا يستجيب لتلك الموعظة.
أما (الجدال بالتي هي أحسن) فيأتي بالمرحلة الثالثة من الدعوة، وهي تقوم على إفحام الخصم وإلزامه على وفق معايير هو يتبعها ويتبناها، وينبغي أن تكون بـ (التي هي أحسن) باعتمادها على الحق والعدل والأمانة ومن دون أية إهانة أو تحقير أو مغالطة.
ولو تأملنا في قول الله: }وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ|(الأنعام 108).
لوجدنا فيها العِبرة والعلة التي أفصح عنها الباري سبحانه، فهو ينهانا عن سبِّ الطغاة والمعاندين والمتكبرين الذين يعبدون الأصنام من دون الله! فهل منبع النهي هذا هو الاحترام لهم أم ضمان حرية الفكر والمعتقد لهؤلاء الكافرين؟ كلا ولا، فالجواب تفضّل به علينا الكريم بعد النهي مباشرة، وكفانا مؤونة البحث والتفسير في علة ذلك النهي.
فسبّ هؤلاء الكفار وسبّ معتقداتهم بالأسلوب المتعارف يأتي بنتائج عكسية متشنجة؛ لأنّهم سوف يسبون الله بغير علم استجابة لردة الفعل التي انتابتهم بسبب سبّهم وسبّ رموزهم المنحرفة عن سبيل الله.
والله تعالى يأمرنا بأن نتخاطب فيما بيننا بأفضل العبارات الدالة على الاحترام والتبجيل والتقدير، قال تعالى }وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا| (الإسراء: 53) ويقول تعالى في آية أخرى: }وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا| (البقرة: 83) هذا مع عوام الناس.
بل ذهب القرآن الى أبعد من ذلك عندما أمر اللهُ سبحانه النّبيَّ موسى وأخاه هارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون ومخاطبته باللين. فقال عز اسمه: }اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى| (طه: 43 – 44) هذا ما يريده الله عز وجل مع أقطاب الظلمة الكافرين، فما بالك بما يريده منّا سبحانه في التعامل مع عصاة المسلمين الذين أخذتهم الغفلة وأبعدتهم عن جادة الحق المبين.
إنّ تبني أسلوب اللين في الخطاب والتعامل مع الآخرين جنبة مهمة ركّز عليها القرآن الكريم فقال تعالى مخاطبا نبيه a: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ| (آل عمران159).
فحري بنا بوصفنا مسلمين متمسكين بالثقل الأكبر أن نستلهم المعاني القرآنيّة الرائعة في مجال الدعوة الى الله وتبليغ أحكام دينه العزيز.
موفق هاشم الرحال