لقد كان من الطبيعي: أن يفكر المشركون في المدينة ونهبها، وسلب نسائها، بعد انتهائهم من معركة أحد.
وكان من الطبيعي أيضاً أن يحسبوا: أن في المدينة خلقاً كثيراً من الأوس والخزرج لم يحضروا الحرب، وهم مسلمون.
وحتى اليهود، والمنافقون، مثل: ابن أبي وأصحابه، فإن لهم في المدينة أهلاً ونساءً وعيالاً وأطفالاً. كما أن لهم بعيال، وأطفال، ونساء، وحتى رجال المسلمين علاقات نسبية، ومصالح مشتركة، لا يمكن التخلي عنها، أو تجاهلها بسهولة.
إذن، فقد كان من الطبيعي أن يجد المشركون مقاومة شديدة في داخل المدينة لو هاجموها.
وأما الذين في خارجها.. فإنهم لن يسكتوا على هذا الأمر، فالرسول «صلى الله عليه وآلـه»، وأصحـابه من ورائهم. وإن تحملـوا خسـائر كبيرة ـ سبعين قتيلاً، وسبعين جريحاً ـ إلا أن من بقي منهم، وهم أكثر من خمسمائة مقاتل، إذا كانت القضية قضية شرف وعرض ومال، ومستقبل ؛ فضلاً عن كونها قضية دين فلسوف ـ يستميتون في الدفاع عند ذلك كله..
ولم تنس قريش بعد: أنها قد هزمت في ابتداء المعركة، وطار بها الرعب في آخرها من هؤلاء بالذات، مع أنها تزيدهم عدداً أضعافاً كثيرة.
كما لا مجال لمقايسة ما كان عندهم من السلاح والعدة بما كانت تملكه هي من عدة وسلاح.
ولم تنس بعد أيضاً: أنها لم تتغلب عليهم إلا بسبب تكتيك حربي، يعتمد على عنصر المفاجأة استطاعت أن تستفيد منه حينما خالف الرماة صريح أوامر قائدهم، مع اشتغال الباقين في الغنائم، الأمر الذي جعلهم آمنين مطمئنين إلى أنه لا عدو بعد يواجههم.
هذا كله، عدا أن قريشاً قد كلت في هذه الحرب، وتعبت، وأصبحت قدراتها الآن أقل بكثير مما كانت عليه في بداية الحرب، حيث واجهت الهزيمة أيضاً. كما أنها ترغب في الاحتفاظ بهذا الانتصار الشكلي، ولا تريد أن تخاطر به، وتعرضه لاحتمالات الانتكاس والفشل الفاضح ؛ لأن هذا الانتصار الشكلي يتيح لها: أن تبذل محاولات جديدة في تضعيف تأثير مواقف المسلمين الشجاعة السابقة على القبائل في المنطقة، وبالذات على مشركي مكة أنفسهم.
وأخيراً، فلم لا تفكر في أن تتبع الخطة التي اتبعها المسلمون في بدر، حيث لم يتبعوا المشركين حينما هزموهم ؟ فلعل ذلك كان لأهداف بعيدة، وحكم غابت عنها، أدركها الآخرون، ولم تستطع هي أن تدركها.
غزوة حمراء الأسد
وفي اليوم الثاني من أحد: «خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأمر من الوحي ـ كما في الرواية ـ إلى حمراء الأسد، موضع على ثمانية أو عشرة أميال من المدينة، حيث ندب أصحابه، قائلاً: «ألا عصابة تشد لأمر الله، تطلب عدوها ؟ فإنها أنكأ للعدو، وأبعد للسمع» 1.
فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ … ﴾ 2 » 3.
المجروحون فقط
فخرج «صلى الله عليه وآله» في ستين راكباً 4، أو سبعين 5.
ويدل على أن عدتهم سبعون: أن عائشة قالت لعروة بن الزبير: كان أبوك الزبير، وأبو بكر. لما أصاب نبي الله ما أصاب، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في أثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً 6.
ولكن الظاهر هو أن ذكر أبي بكر هنا قد جاء في غير محله، لأن الذين خرجوا في هذه الغزوة كانوا خصوص المجروحين، وكانوا سبعين رجلاً كما تقدم.
فقد روى القمي «رحمه الله»: أن جبرئيل «عليه السلام» نزل على النبي «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلا من به جراحة ؛ فأمر «صلى الله عليه وآله» مناديه أن ينادي بذلك 7.
ويؤيد ـ أن هؤلاء السبعين هم المجروحون ـ: قوله تعالى في هذه المناسبة: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ … ﴾ 8.
وقد قلنا: إنه إذا كان الذين خرجوا هم المجروحون فقط، فلا معنى لذكر أبي بكر وعمر وغيرهما، ممن لم يكن به جراح في الخارجين إلى حمراء الأسد. وعلى كل حال، فقد خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالمجروحين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكان حامل لوائه علي «عليه السلام»، وكانت قريش في الروحاء، على بعد خمسة وثلاثين أو اثنين أو ثلاث وأربعين ميلاً من المدينة حيث تلاوموا هناك فيما بينهم، وقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم. قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا شوكة.
فقال صفوان بن أمية: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا 9، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان.
أو قال لهم: إن محمداً وأصحابه الآن في حنق شديد مما أصابهم، فوالله ما أمنت إن رجعتم أن يجتمع جميع من كان قد تخلف عن أحد من الأوس والخزرج، ويطؤوكم ويغلبوا عليكم، والآن لكم الغلبة الخ..
فبلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآله»، فأراد أن يريهم من نفسه وأصحابه قوة، وأن يرعبهم.
ولكن من أين بلغه ذلك ومتى وصل إليه الخبر في خلال ليلة واحدة عن بعد أكثر من أربعين ميلاً، إلا أن يكون ذلك عن طريق الوحي ؟!
وقد نصت رواية القمي المتقدمة على أن جبرئيل قد جاء بأمر من الله سبحانه إليه يأمره بالمسير إليهم.
وقدّم «صلى الله عليه وآله» ثلاثة نفر من أسلم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد وهم يأتمرون بالرجوع، فبصروا بهما، فرجعوا إليهما فقتلوهما.
ومضى «صلى الله عليه وآله» حتى نزل حمراء الأسد فدفن الرجلين، وأقام هناك ثلاثة أيام. وأوقد المسلمون ناراً عظيمة ـ خمسمائة نار ـ فذهب صيت عسكرهم ونارهم إلى كل جانب، فكبت عدوهم بذلك.
ومر معبد الخزاعي ـ وهو مشرك ـ بعسكر المسلمين، وهو في طريقه إلى مكة. وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله، مسلمهم وكافرهم، فأظهر تألمه مما أصاب المسلمين في أحد.
فلما بلغ أبا سفيان وأصحابه أخبرهم: أن محمداً يطلبهم في جمع لم ير مثله، وأن هذا علي بن أبي طالب، قد أقبل على مقدمته في الناس 10.
وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه، وقد ندموا على ما صنعوا، وأنهم يتحرقون عليهم. وأن نواصي الخيل قد تدركهم قبل أن يرتحلوا.
فدب الرعب في قلوب المشركين، وأسرعوا بالرحيل. والتقوا بركب من بني عبد القيس قاصداً المدينة، فوعدهم أبو سفيان أن يعطيهم ما يرضيهم إذا هم أبلغوا رسول الله أن قريشاً آتية لحربه.
وأرسل معبد يخبر رسول الله بحقيقة الأمر.
وبعد إقامة النبي «صلى الله عليه وآله» ثلاثة أيام عاد إلى المدينة.
أسيران يقعان في أيدي المسلمين
وأخذ النبي «صلى الله عليه وآله» في طريقه ذاك رجلين من قريش، هما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبو عزة الجمحي.
أما أبو عزة فقد كان أسر في بدر، ثم منّ عليه «صلى الله عليه وآله» لبناته الخمس، وأخذ عليه العهد أن لا يعود إلى حرب المسلمين، وأن لا يظاهر عليه أحداً. فنقض العهد، وألَّب القبائل، وشارك في معركة أحد.
فلما عادت قريش، ونزلت في حمراء الأسد، ساروا وتركوه نائماً، فأدركه المسلمون هناك، وأخذوه إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، فطلب الإقالة، فرفض «صلى الله عليه وآله» ذلك حتى لا يمسح عارضيه بمكة، ويقول: سخرت من محمد مرتين. ثم أمر «صلى الله عليه وآله» علياً ـ وقيل غيره ـ أن يضرب عنقه، ففعل.
ولكن ابن جعدبة قال: ما أسر يوم أحد هو ولا غيره. ولقد كان المسلمون في شغل من الأسر. ولم ينكر قتله.
وقال ابن سلام: «قد قيل: إن النبي لم يقتل أحداً صبراً إلا عقبة بن أبي معيط يوم بدر» 11.
ولكن المشهور هو خلاف ذلك، فهو المعتمد حتى يثبت خلافه.
أما ما ذكره بعضهم من: أن أبا عزة قد أسر يوم أحد.
فالظاهر: أن مقصوده منه ما ذكرناه، لأن حمراء الأسد من تتمة معركة أحد. فلا مجال لإشكال المعتزلي بأن حال المسلمين في أحد لم يكن يساعد على أسر أحد 12.
وأما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، فإنه انهزم في أحد، ودخل المدينة، فأتى منزل عثمان بن عفان، ابن عمه.
فقال عثمان له: أهلكتني وأهلكت نفسك. ثم خبأه في بيته، وذهب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ليأخذ له أماناً.
وكان «صلى الله عليه وآله» قد علم به من طريق الوحي، فأرسل علياً «عليه السلام» ليأتي به من دار عثمان، فأشارت أم كلثوم زوجة عثمان إلى الموضع الذي صيره عثمان فيه، فاستخرجوه من تحت حمّارة لهم، وانطلقوا به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فشفع فيه عثمان، فقبل منه «صلى الله عليه وآله»، وأجله ثلاثاً، وأقسم إن وجده بعدها في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه، فجهزه عثمان، واشترى له بعيراً.
وسار «صلى الله عليه وآله» إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية هذا إلى اليوم الثالث، ليعرف أخبار النبي «صلى الله عليه وآله»، ويأتي بها قريشاً، فلما كان في اليوم الرابع أخبرهم «صلى الله عليه وآله»: أن معاوية بات قريباً، وأرسل زيداً وعماراً، فقتلاه.
والصحيح علياً وعماراً، كما في رواية الكافي.
وقال البلاذري عن ابن الكلبي: ويقال: إن علياً «عليه السلام» هو الذي قتل معاوية بن المغيرة 13.
ويذكر هنا: أن عثمان قد انتقم من أم كلثوم، لدلالتها على ابن عمه.
بل يقال: إن ما فعله بها كان سبباً في موتها في اليوم الرابع، وبات ملتحفاً بجاريتها 14.
دوافع حمراء الأسد ونتائجها
لقد اتضح مما تقدم بعض دوافع غزوة حمراء الأسد، ونتائجها، وللتذكير بذلك نعود فنقول:
لقد عرف الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»: أن نتائج حرب أحد، لولا خروجه إلى حمراء الأسد سوف تكون:
1 ـ أن تستعيد قريش ثقتها بنفسها، ويزيد ذلك من إصرارها على حرب المسلمين، وتصلبها في موقفها تجاههم.
2 ـ أن تستغل ذلك إعلامياً، بحيث تضعف من مكانة محمد «صلى الله عليه وآله» في نفوس القبائل، ويزيدون جرأة على مناجزته ومقاومته ؛ ويسهل عليهم الاستجابة لدعوة حربه.
3 ـ أن يصبح سلطان النبي «صلى الله عليه وآله» في المدينة في معرض التزلزل والضعف، بعد أن كان قد استقر وأدخل الرعب في نفوس كل مناوئيه في داخلها، سواء من المنافقين أو من اليهود. وقد دل على ذلك شماتة المنافقين، واليهود، وإظهارهم السرور بما جرى.
4 ـ أن يوجب ذلك تزلزل إيمان ذوي النفوس الضعيفة، ويجعلهم عرضة لاصطياد الآخرين لهم.
5 ـ توقف من كان مهيئاً نفسياً للدخول في الدين الجديد عن الدخول فيه، حتى تتضح له الأمور، وينجلي الموقف. ولا سيما إذا كان إسلامه صورياً من أجل ضمان مصالحه، أو للحصول على مكاسب من نوع ما، حيث لا تبقى ثمة ضمانات للحصول على ذلك، إن لم يكن أصبح يخشى العكس.
وعلى ضوء ما تقدم
فقد جاءت حمراء الأسد ـ التي ربما تبدو للوهلة الأولى غير معقولة ـ فغيرت الكثير من النتائج المتقدمة، وحولتها لصالح المسلمين، لأن خروج هؤلاء الجرحى في أثر قريش، وهم لا يزيدون على سبعين رجلاً على ما يظهر، في حين لم يكن في هذه الغزوة طمع في مال ولا في غنائم، قد أوضح لكل أحد: أن هؤلاء مستميتون في الدفاع عن دينهم وعقيدتهم ؛ وأن جراحهم تلك لم تحل دون إقدامهم على ملاحقة عدوهم ؛ فهم يطلبون الموت ويسعون إليه، فالوقوف في وجه هؤلاء إنما يعني الوقوف أمام خيارين:
إما موت هؤلاء، ولا يموتون إلا بعد أن يموت معهم كل من يقدرون عليه، وإما موت عدوهم.
وإذا كان جرحاهم على استعداد لمثل هذا، فما حال غيرهم ممن وراءهم، ممن سوف لن يسكتوا عن إمدادهم ومساعدتهم ؟!.
وإذاً فخروج الجرحى كان هو الأصوب، لأن رهبة العدو تكون أعظم، وخوفه يكون أشد، لأنه يعلم أن وراءهم من لا يحب الحياة أكثر منهم.
ولسوف يدرك عدوهم: أن ما جرى في أحد ليس إلا نتيجة نزوة عارضة ألمت، ويصعب تكررها منهم، بعد الذي أصابهم بسببها.
كما وتصير حجة من يريد التشكيك بقدرتهم الطبيعية على المواجهة ـ من المنافقين أو اليهود ـ ضعيفة وواهية، يصعب تقبلها.
إذاً، فمواجهة المسلمين وهم في قدرتهم الطبيعية، وحين لا يكون ثمة حالة استثنائية ـ كما جرى في أحد ـ سوف يكون عملاً انتحارياً، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.
ولا سيما بعد أن تعلم المسلمون هذا الدرس الصعب، الذي كلفهم غالياً، فإن احتمال حدوث حالة استثنائية بعده يكاد يلحق بالممتنعات.
ولذلك فقد أوقد المسلمون خمسمائة نار، فكبت الله بذلك عدوهم، وأرجع كل القبائل المحيطة بالمدينة إلى صوابها، وأفهمها: أن عليها أن لا تغتر بما جرى في أُحد.
كما أن عليها: أن تعرف: أنه لو كان ما جرى في أحد طبيعياً، لما آثرت قريش الفرار من وجه سبعين من الجرحى. وهي التي ينبغي أن تكون أشد طغياناً وتجبراً، وأكثر إقداماً على المسلمين من ذي قبل.
وكان ينبغي ـ لو كان يمكنها ـ أن تغتنمها فرصة للقضاء على هذه القلة القليلة، المنهكة، والمثخنة بالجراح. وتقتل مصدر متاعبها وآلامها، وأعني به رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما دام أنه في جماعة لا تستطيع أن تدفع عنه، ولا عن نفسها شيئاً.
ففي حمراء الأسد هزيمة نفسية وإعلامية لقريش، كما أن في ذلك إعطاء الفرصة لسائر القبائل لتقييم معركة أحد تقييماً صحيحاً وسليماً، بعيداً عن الغرور والتضليل.
وهي أيضاً إبطال لكيد المنافقين واليهود، وتأييد لسلطان المسلمين في المدينة، وربط على قلوبهم، ورفع لمعنوياتهم.
وهذا معنى قوله «صلى الله عليه وآله»: «فإنها أنكاء للعدو، وأبعد للسمع».
ويلاحظ أخيراً: أن معبد الخزاعي قد ذكر لقريش: أن علياً قد يدركهم قبل أن يرتحلوا، فدعاهم ذلك إلى التعجيل بالرحيل، قبل أن يدركهم أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب.
وهذا يؤكد على دوره الفريد والمتميز في إلحاق الهزيمة النكراء بجيش المشركين في أحد ؛ حتى صار يطلبه المشركون بثارات أحدية 15 أضيفت إلى ثاراتهم البدرية، كما ورد التصريح به في أكثر من مورد في تأريخ الصدام فيما بين الحق والباطل بعد ذلك.
قتل الأسيرين
وقصة قتل الأسيرين، وملاحظة موقفه «صلى الله عليه وآله» منهما تعطينا: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعامل كل أحد ـ بالدرجة الأولى ـ على أنه إنسان. ثم يقاوم فيه شركه وانحرافه بالأساليب الإنسانية أولاً أيضاً.
أي أنه يعتبره يحوي سائر الخصائص الإنسانية ؛ فيتعامل معه على أساس الصدق، والوفاء، والأمانة وغير ذلك من خصائص إنسانية. وذلك من أجل تشجيع هذه الخصائص، وإعطائها الفرصة للنمو والتكامل، على أمل أن يكون ذلك موجباً لتسهيل مهمته التبليغية والإقناعية في المستقبل، ومن ثم لتلافي الكثير من المشكلات التي لا مبرر لها، وإنما تخلقها النزوات غير الإنسانية، في طريق الدعوة إلى الله تعالى، والإقناع بالحق والخير.
ولكنه حين يثبت له «صلى الله عليه وآله»: أن الطرف الآخر لا ينطلق في مجمل مواقفه من خصائص إنسانية، وإنما من نزوات غير إنسانية، ومن شيطنة، ومكر ؛ فإنه «صلى الله عليه وآله» حينئذٍ يقف منه الموقف الحازم الذي لا بد منه. وهو يحسن إليه وإلى مجتمعه حينما يقضي على تلك الروح البهيمية، والنزوات الشيطانية فيه ؛ لأن الله قد خلقه ليكون إنساناً، لا ليكون حيواناً، يحمل إنسانيته كل مشقات ومتاعب النزوات الحيوانية تلك.
كما أنه يكون قد أحسن لبناته اللواتي لن يكون في صالحهن: أن يكون المشرف على قضاياهن وشؤونهن مخلوقاً لا يحمل ـ أو فقل ـ: لا أثر في حياته للخصائص والمزايا الأولية للإنسان.
وعليه، فإذا قبل النبي «صلى الله عليه وآله» أن يمن على أبي عزة الجمحي في بدر من أجل بناته، ثم رفض ذلك هنا ؛ فإنه لا يكون بين كلا موقفيه أي تناقض أو اختلاف ؛ بل هو مصيب في الحالتين، وهو قد أحسن لبناته أول مرة، وكان إحسانه لهن في هذه المرة أعم وأعظم.
هذا كله عدا عن أنه «صلى الله عليه وآله» يكون قد أعطى المثل الأعلى للمؤمن الواعي واليقظ، الذي لا يخدع ولا يستغل فإنه: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
(راجع ما تقدم بعد بدر حول خصائص الشيعة) 16.
- 1. مجمع البيان ج2 ص539، والبحار ج20 ص39.
- 2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 139، الصفحة: 67.
- 3. راجع: مجمع البيان ج2 ص509، والبحار ج20 ص22.
- 4. البدء والتاريخ ج4 ص205.
- 5. مجمع البيان ج2 ص539.
- 6. البداية والنهاية ج4 ص50 و 51، والسيرة الحلبية ج2 ص257، والدر المنثور ج2 ص102 عن سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في الدلائل.
- 7. تفسير القمي ج1 ص125، والبحار ج20 ص64 عنه.
- 8. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 172، الصفحة: 72.
- 9. حَرِب: اشتد غضبه.
- 10. البحار ج20 ص99، وإعلام الورى ص86.
- 11. طبقات الشعراء لابن سلام ص64 و 65.
- 12. شرح النهج للمعتزلي ج15 ص46.
- 13. مغازي الواقدي ج1 ص333، وشرح النهج للمعتزلي ج15 ص46 و 47 عن البلاذري، والسيرة الحلبية ج2 ص261، وليراجع الكامل لابن الاثير ج2 ص165 ط صادر، وقاموس الرجال ج10 ص407 و 408، والبحار ج20 ص145، عن الكامل والمعتزلي، وأشار إلى ذلك ابن هشام، وتاريخ الخميس، والسيرة النبوية لابن كثير، والبداية والنهاية ج4 ص51 وغير ذلك.
- 14. الكافي ج3 ص251 و 253.
- 15. البحار ج36 ص54 و 55 وج43 ص156، والمناقب لابن شهرآشوب ج2 ص203، وفي (ط أخرى) ج1 ص381، والعوالم ص250.
- 16. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005م. ـ 1425هـ. ق، الجزء السابع.