كربلاء قضية متجذرة في الوعي الإسلامي ، ساهمت في تشكل الوعي الحركي الثائر على الظلم و الفساد ، و باتت مع تقادم الزمن أكثر رسوخا في وجدان الأمة ، و بعبارة أخرى إنها تلك الواقعة التي قفزت فوق الزمان و المكان مستمدة من نور مشكاة النبوة رمزيتها و من لون البذل عنفوانها ، فاستحالت نهجا يحمل شعلة متوقدة تسمو بالإنسان في آفاق العزة و الكرامة ، و تعبر في مدلولاتها عن محورية الصراع الدائر بين الاستكبار و الاستضعاف ، و بين رمز العدالة و التفاني في الله و رمز الاستغراق في حطام الدنيا الفانية .
في كل سنة لنا ذكرى مع أجواء عاشوراء ، و في كل سنة نستعيد في وعينا و حياتنا كربلاء ، لكن قيمة عاشوراء و كربلاء الذكرى أن لها لقاء في كل زمن مع الأمة ، تمدها و تعطيها من حيويتها ، و تدفعها إلى المواقع المتقدمة في مسيرة الحياة الكريمة فتعيش الأمة آفاق الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) تلك الآفاق الواسعة الرحبة التي لا تعيش في الدوائر الضيقة ، بل تشمل العالم الإسلامي كله ، فالحسين ( عليه السَّلام ) كان ينظر من خلال آفاق جده رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) الذي عاش الرسالة في كل آفاق العالم ، لأن الله أرسله رحمة للعالمين .
و من هنا كان يُطرح دوما و في كل موسم لعاشور ـ كتبيان لأهمية ثورة كربلاء و دورها الرائد ـ شعار أن الإسلام ” محمدي الوجود حسيني البقاء ” نظرا لأهمية الدور الذي قام به الحسين ( عليه السَّلام ) من خلال ثورته ، فقد استطاع هذا الإمام أن يعيد تصويب المسار ، بعد أن بدأ الانحراف السريع نتيجة لإبعاد الإسلام عن ساحة الحياة ، أو على الأقل بتحويله إلى شكل و رسم بلا مضمون ، و هذه الصورة عبر عنها الحسين ( عليه السَّلام ) آنذاك عندما قال : ” ألا و إن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمان ، و احلوا حرام الله و حرموا حلاله و استأثروا بالفئ و عطلوا الحدود و أنا أحق من غير “
الحركة الحسينية لم تكن انتحارية
يصف بعض الباحثين ثورة الإمام الحسين بأنها مأساة إنسانية مروعة ، و يرى آخرون أنها أشبه بعملية انتحارية لم تبلغ أهدافها بل أسفرت عن نتائج مأساوية مؤلمة ، لا تزال علامة فارقة في جبين الإنسانية و لطخة عار في تاريخها . بيد أن هذا التحليل يبدو سطحيا و ساذجا و هو مبتني على رؤية قاصرة لأهداف الثورة و مقاصدها و نتائجها ، و يؤسفني أن بعض علماء المسلمين لم يوفقوا لإدراك أبعاد تلك الثورة و بليغ دروسها و عظيم عطائها و كانوا أقصر نظرا من الزعيم الهندي الشهير غاندي القائل : ” تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر “
و يظهر للمتأمل أن أساس الاشتباه لدى هؤلاء هو في نظرتهم لمفهومي النصر و الهزيمة ، هذه النظرة الضيقة التي تحدد مفهوم النصر بمقدار النجاح العسكري فحسب ، الأمر الذي لم يتحقق في نهضة الحسين ( عليه السَّلام ) ما يجعل منها حركة فاشلة وفق المقياس المذكور . لكن النظرة المذكورة لمفهوم النصر غير صحيحة بل هي مجترئة و مشوهة و لا تلامس الحقيقة ، فالحقيقة التي يدركها البصير و المتابع لحركة النهضة الحسينية و تداعياتها و نتائجها على الواقع الإسلامي ماضيا و حاضرا هي أن دماء الحسين ( عليه السَّلام ) ساهمت في تغيير مجرى التاريخ الإسلامي . و أيقظت الضمائر الميتة و حررت إرادتها و خلقت حركة وعي في الأمة الإسلامية كان من نتائجها حركات التمرد و ثورات الغضب و الانتقام التي تلاحقت و تتالت :
1 ـ حيث نجد بعد عام من ثورة الحسين ( عليه السَّلام ) أن المدينة تثور على يزيد ، و تطرد واليه و جميع الأمويين .
2 ـ و في السنة الثانية تثور مكة المكرمة أيضا على يزيد الطاغية .
3 ـ و يصبح حكم الأمويين مهددا بالسقوط بعد موت يزيد ، و نمو و تطور حركة عبد الله بن الزبير ، و المختار بن عبيدة الثقفي .
4 ـ و بعد ذلك أخذت الثورات تتوالى حيث ظهرت ثورة التوابين و التي تعتبر أثرا مباشرا لثورة الحسين ( عليه السَّلام ) حيث كانت شعاراتهم يا لثارات الحسين ، و لم تهدأ هذه الثورة حتى تكون ثورة المختار و الذي قام من أجل الثأر لدماء الحسين ( عليه السَّلام ) و يتمكن المختار من عمل عسكري مهم و عمل سياسي أهم ، أما العمل العسكري فهو القضاء على الجيش الأموي و قتل عبيد الله بن زياد الذي كان يقود هذا الجيش ، و العمل السياسي هو تصفية الكوفة من جميع قتلة الحسين ( عليه السَّلام ) و من أنصار الأمويين . و قد استمر هذا التحرك و الرفض في الأمة حتى تمت الإطاحة بالحكم الأموي بعد عدة عقود من الزمن . هذا من جهة .
و من جهة أخرى فإن الحسين ( عليه السَّلام ) أصبح مثلا أعلى لكل الثوار و المناضلين من أجل التحرر و الإنعتاق من نير الظالمين و المستبدين . و عندما يغدو المرء ملهما للثوار فهذا دليل انتصار لا هزيمة ، و عندما تزلزل دماءه الزكية عروش الظالمين فهذا دليل نصر مؤزر لا مأساة مروعة . .
و لكن السؤال هنا : ما هي النقاط و الوسائل التي أكد عليها الإمام في نهضته و كان لها الدور و التأثير البالغ في ضمير الأمة و إرادتها ، ثم كان لها هذا التأثير البالغ في جميع الأجيال و العصور ؟
في معرض الجواب على هذا السؤال يجدر بنا أولا أن نعالج العناوين التالية :
1 ـ دراسة دوافع الثورة الحسينية و أسباب هذه الحركة التي قام بها الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) .
2 ـ الجواب على السؤال الذي لازال موجودا في كثير من أذهان الدارسين و الباحثين عن ثورة الحسين ( عليه السَّلام ) ، هذا السؤال هو : لماذا لم يكن هدف الحسين ( عليه السَّلام ) هو الوصول إلى السلطة . ثم الأهم من ذلك ، لماذا لم يتحقق للحسين ( عليه السَّلام ) أن يصل إلى تغيير الحكم و الإطاحة بنظام يزيد بن معاوية ؟ و بصدد الجواب على هذا السؤال نفسه ، لا بُدَّ لنا من :
1 ـ أن نتعرف على الشروط الأساسية العامة التي يجب أن تتوفر في الثورة الناجحة .
2 ـ الفحص على وجود هذه الشروط الأساسية و توفرها في ثورة الحسين ( عليه السَّلام ) أو عدم توفرها .
3 ـ إذا وجدناها متوفرة في ثورة الحسين ( عليه السَّلام ) ، يطرح السؤال نفسه مرة أخرى و هو : لماذا لم تتمكن ثورة الحسين ( عليه السَّلام ) من أن تحقق هدف الإطاحة بحكم يزيد ، على الرغم من أنها كانت تستجمع الشروط التي لا بُدَّ لكل ثورة ناجحة أن تستجمعها ؟
دوافع الثورة الحسينية
التفسيرات التي تطرح عادة في تبيين دوافع الحركة الحسينية يمكن تصنيفها إلى صنفين :
الصنف الأول : التفسيرات التي أعطيت من بعض المستشرقين ، من بعض المسلمين ، من بعض الحكام أنفسهم في زمن الإمام و بعده ، قسم من هذه التفسيرات نصنفها و نجعلها في عداد التفسيرات الباطلة لأنها ناتجة من أغراض و نوايا سيئة نجد بذورها منذ زمن الحكام الأمويين و قد نجد الباحثين المتأخرين قد تأثروا بتلك الكلمات التي يجدونها مبثوثة في بعض الكتب التاريخية ، و قسم من هذه التفسيرات الباطلة قد تكون ناتجة من أن أصحاب التفسير و التحليل التاريخي لقضية الحسين ( عليه السَّلام ) و هم بعيدون كل البعد عن مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) عن حقيقة الأئمة و معنى الإمامة ، و يمكننا هنا أن نشير إلى تفسيرين مشهورين في هذه القائمة ، قائمة التفسيرات الباطلة و المنحرفة ، ربما يجدها الإنسان في بعض الكتب التاريخية و بعض الدراسات الإستشراقية .
التفسير الأول : ثورة الحسين ( عليه السَّلام ) صراع قبلي .
فسرت الحركة التغييرية للحسين ( عليه السَّلام ) في بعض كتب التاريخ و بعض كتب الاستشراق على أساس أن حركة الحسين كانت حركة قبلية ( عشائرية ) تعبر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين ، كانتا تتصارعان على السلطة و الهيمنة قبل الإسلام ، و استمر هذا الصراع بينهما إلى ما بعد الإسلام ، ذلك هو الصراع بين بني هاشم و بني أمية ، و حاول هذا التفسير أن يستشهد لما ذهب إليه ببعض الأشعار و القصائد و قد أنشدها بعض الشعراء من مثل الأخطل و غيره أو بعض الأشعار التي ذكرها بعض السلاطين و الحكام الجاهلين أنفسهم كشعر يزيد الذي يقول فيه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا و استهلوا فرحا *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء و لا وحي نزل
كما استشهدوا بواقع المجتمع الإسلامي آنذاك الذي كان يسوده النظام القبلي رغم مجئ الإسلام ، حيث بقيت هذه العشائر و أعرافها و مزاجها و طبيعتها لها الدور البالغ في تسيير الأمور الاجتماعية و السياسية للأمة .
الحقائق الثابتة ترفض هذا التفسير
لا يمكن قبول هذا التفسير للأسباب التالية :
1 ـ هذا التفسير يتنافى مع أصل العقيدة الإسلامية لأنه يبتني على قاعدة ترفض الإيمان بحسب الحقيقة ، و تعتبر الحسين و الأئمة و الرسول الكريم جميعا منطلقاتهم منطلقات من هذا القبيل ، و هذا يرجع إلى عدم الإيمان بنبوة الرسول و صدقه و الأئمة فيما كانوا يفصحون عنه و يبينونه من رسالة و من قيم كلها ترفض بشدة أمثال هذه المقولات ..
إذن فمن ناحية المعتقد هذا تفسير يتنافى مع أصل العقيدة الإسلامية فضلا عن العقيدة الخاصة في حق أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين طهرهم الله و اذهب عنهم الرجس ، و هذا معنى من معاني الرجس أن يكون دوافعه و منطلقاته عشائرية قبائلية جاهلية .
2 ـ أما من الناحية التاريخية ، عندما يراجع الإنسان التاريخ يجد أن هذا التفسير لا يمكن أن يقبل حتى لو قطعنا النظر عن الجانب العقائدي في هذه المسألة ، فملاحظة التاريخ و دراسة ما وقع في التاريخ الإسلامي دراسة موضوعية علمية ، تكشف للإنسان بأقل إلتفاتة ، أن هذا الصراع بحسب الحقيقة لا يمكن أن يكون صراع بين قبيلتين و أن دوافعه الحقيقية إحساسات عشائرية أو قبائلية أو شئ من هذا القبيل ، كيف و أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) بحسب تاريخه أول من عارض هذه الفكرة و طبقها في حق نفسه و في مجتمعه ، سلمان الفارسي يجعله محمديا بينما أبا لهب يجعله كافرا ، هل هناك ما هو أوضح من هذا دلالة على أن عمل النبي و سلوكه و تفكيره لم يكن عشائريا .
3 ـ لو كانت المسألة مسألة قبيلة و عشيرة لكان ينبغي على الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) أن ينهض بعشيرته قبل أن ينهض بالغرباء البعيدين عن عشيرته ، كان ينبغي أن ينهض في موطن عشيرته و هو الحجاز، بينما المسألة لم تكن كذلك لا الحركة بدأت من موطن تلك العشيرة و لا المتحركين بهذه الحركة كانوا من أصحاب هذه العشيرة ، ذلك أن أصحاب الحسين ( عليه السَّلام ) سواء كانوا من حيث الانتماء القبلي أو من حيث الانتماء القومي أو الشعوبي ، أو من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعي ، بل و حتى من حيث الانتماء المذهبي يمثلون نماذج و عينات متعددة و مختلفة ، حيث نلاحظ أن هناك اختلافا عظيما بين هؤلاء ، و لا يمنك أن تجمع كل هؤلاء أو توحدهم قضية الصراع القبلي .
إذن هذا التفسير مرفوض :
أولا : عقائديا باعتبار أنه يخدش في قضية الإيمان بنبوة الرسول الكريم .
ثانيا : علميا من خلال مراجعة وقائع التاريخ .
ثالثا : الإمام الحسين و من خلال تصريحه الأول و الذي يحدد فيه هوية تحركه التغييري ، بّين أن خروجه لم يكن إلا لطلب الإصلاح في أمة جده و هو هدف رسالي مبدئي و ليس هدفا قبليا أو عشائريا .
و للحديث بقية إن شاء الله تعالى .
مراجع البحث
هذا البحث مستلهم من المراجع التالية مع التصرف :
1 ـ محاضرات في الثورة الحسينية للسيد محمود الهاشمي .
2 ـ ثورة الحسين للسيد محمد باقر الحكيم .
3 ـ الملحمة الحسينية للشهيد مرتضى مطهري .
4 ـ في رحاب أهل البيت للسيد محمد حسين فضل الله .
5 ـ مجلة البينات : الأعداد الخاصة بمناسبة عاشوراء .