نزل الإمام الحسين (ع) بأهله وأصحابه في أرض غير مأهولة بالسكان وكانت تحيط بها يومئذ قرى عديدة متناثرة هنا وهناك تعرف بكربلاء. كان بعضها موغلاً في القدم لم يبق منها سوى الأطلال مثل عمورا ، وماريا ، وصفورا ، وبعضها الآخر قرى قديمة أو محدثة مثل نينوى والغاضرية وشفية.
وهذه القرى معروفة بخصوبتها وكثرة ما فيها من العيون والنهيرات ، ومن أهم هذه النهيرات نهران كان أحدهما يتفرع من الفرات قرب مدينة المسيب والذي سمي بعد ذلك بالعلقمي. أما النهر الآخر فكان يسمى بنهر نينوى وكان يتفرع من الفرات أيضاً في المنطقة الواقعة بين سدة الهندية الحالية والمسيب.
وبعد أستشهاد الإمام الحسين (ع) بيومين ، وضع رهط من بني أسد معالم على قبره تبعا لارشادات امامنا زين العابدين ع . وأخذ الزوار يأمون القبر رويداً وبأعداد تتكاثر باستمرار. وقد أدى ذلك إلى أن تكون قبور شهداء الطف نواة لتأسيس مدينة كربلاء.
ومن أوائل الزائرين لقبور شهداء الطف ، كما تروي المصادر التاريخية ، عبيد الله بن الحر الجعفي والمختار بن أبي عبيد الثقفي ومصعب بن الزبير وسليمان بن صرد الخزاعي وكثيرون آخرون في عام 61هـ (680م) ، وذلك بعد الواقعة بقليل.
وفي السنة التالية (20 صفر سنة 62 هـ (681م) ) قام الصحابي الجليل الضرير جابر بن عبد الله الأنصاري بزيارة قبر الإمام الحسين (ع) قادماً من المدينة المنورة مع جماعة من أهلها من المسلمين ، وأجتمع في السنة نفسها بالإمام علي بن الحسين (زين العابدين) عليه السلام .
وفي العهد الأموي كان بجانب قبر الإمام الحسين عليه السلام مسجد شيده المختار إبن أبي عبيدة الثقفي أيام إمرته على الكوفة سنة 66هـ (686م) وكانت على مقربة منه شجرة السدرة التي كان المسلمون يتظلّلون بها عند زيارتهم القبر الشريف.
وتذكر المصارد التاريخية بأن كربلاء لم تمصر طوال العهد الأموي. وعلى الرغم مما كان في نفوس الهاشميين وشيعتهم من لهفة ورغبة في العيش جوار قبر الإمام الحسين عليه السلام فإنهم لم يتمكنوا من بناء الدور والبدء بالعمران فيها خوفاً من بطش وتنكيل بني أمية. فقد أنتشرت في العهد الأموي المسالح (مخافر الشرطة) حول كربلاء لمنع الزوار من زيارة مشهد الإمام الحسين عليه السلام .وكان الزائرون من جانبهم يتخدون من الغاضرية ونينوى ملجأً ومحطاً لرحالهم لقربهما من كربلاء ويجعلونهما بالظاهر هدفاً فيمكثون فيها حيناً لإبعاد الشبهة عنهم والتمويه على المسالح الأموية ثم يلجأون منها سراً إلى المرقد الشريف.
وفي أوائل حكم الخلفاء العباسيين أخذ الناس يتقاطرون على كربلاء ليتخذوا فيها سكناً. وأخذت هذه المنطقة بالتقدم والعمران وأصحبت مأهولة بالسكان. وتذكر المصادر التاريخية بأن الراوية الكبير عثمان بن عيسى الكوفي العامري كان أول من سكن كربلاء الحالية في عهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، أي بعد عام 183هـ (799م) مع ولديه. وكانت لهذا الراوية مؤلفات أهمها ، كتاب المياه ، وكتاب القضايا والأحكام ، وكتاب الوصايا.
يذكر الطبري أثناء عرضه لحوادث عام 193هـ (809م) أن والدة الخليفة العباسي المهدي (أم موسى) وأبنة يزيد بن منصور كانت تصرف مرتبات إلى رجال يخدمون مرقد الإمام الحسين عليه السلام .
ثم أخذت هذه المدينة بالتراجع بعد ذلك. فقد غير هارون الرشيد من سياسته في أواخر أيام حياته فأمر بحرث الأرض التي تضم قبر الإمام الحسين عليه السلام وقطع شجرة السدرة وهدم المسجد الصغير.
وعندما تولى الخليفة العباسي المأمون بن هارون الحكم بعد أخيه الأمين سنة 198هـ (813م) عاد الأهتمام بمدينة كربلاء بشكل عام ، وأعيد بناء مرقد الإمام ..واظهر المامون العباسي حبا لاهل البيت ع مما جعل الالاف يتوافدون على كربلاء للزيارة والعبادة .
وفي أواخر القرن الثاني الهجري قام رجل من بني علقمة بطن من تميم ثم من دارم الذين جدهم علقمة بن زرارة بن عدس بحفر نهر محاذ لطف كربلاء ـ وكان مجرى هذا النهر موجوداً في السابق ولكنه أندثر ـ يمر بالقرب من مرقد العباس عليه السلام إلى الشرق منه عرف بنهر العلقمي .
وفي خلال فترة حكم الخليفة العباسي المتوكل 236 ـ 247 هـ (850 ـ 861م) تعرض قبر الإمام الحسين عليه السلام إلى سياسة عدائية ظاهرة ، إذ أمر المتوكل بهدم قبر الإمام الحسين عليه السلام ثلاث مرات ، وأسال الماء عليه ، فحار الماء حول القبر الشريف وأقام في المسالح (مخافر الشرطة) أناساً يترصدون من يأتي لزيارة قبر الحسين عليه السلام ، والتعامل مع زائريه بكل قسوة مما دفع بالمسلمين إلى الرحيل عن كربلاء..
وفي سنة 247هـ (861م) قتل المتوكل على يد ابنه المنتصر الذي أصبح الخليفة بعد أبيه ، وأعاد بناء مرقد الإمام الحسين عليه السلام وأخذ المسلمون يتوافدون على أرض كربلاء فأقاموا المباني والأسواق من حول المرقد الشريف فاستعادت كربلاء مكانتها العمرانية والعلمية وأستطاعت أن تسترجع ما كانت عليه ، وإن لم يدم حكم المنتصر سوى ستة أشهر حيث توفي بعد ذلك..
ومهما يكن من أمر فإن هذه الفترة كان لها أثر كبير في تطور المدينة وأستقطاب الزائرين إليها. وكان أول من جاور الحائر الحسيني في هذا الوقت من العلويين هو إبراهيم المجاب المعروف بإبراهيم الضرير الكوفي أبن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم (ع) مع ولده وذلك سنة 247هـ (861م) ولا زال قبره موجوداً في الزاوية الشمالية الغربية من الرواق المعروف بأسمه في الروضة الحسينية..
وفي عهد الخليفة العباسي المعتضد سنة 279هـ (892م) زار كربلاء حسن بن زيد العلوي الملقب بـ(الداعي الكبير) ملك طبرستان وديلم . فباشر ببناء الحضرة الحسينية واتخذ حولها مسجدا . ولكنه توفي قبل انجازها واكمل بناءها أخوه محمد بن زيد العلوي الملقب بـ(الداعي الصغير) الذي خلف أخاه وأهتم بمدينة كربلاء ومرقد الإمام الحسين عليه السلام .
وعندما دخل البيويهيون بغداد وأصبحوا الحكام الفعليين في زمن الخليفة العباسي المستكفي سنة 334هـ (946م) حظيت مدينة كربلاء بالإهتمام والرعاية. وكان أول من زارها من السلاطين البويهيين ، السلطان معز الدولة سنة 336هـ (977م).
وفي سنة 367هـ (978م) أيام خلافة الطائع العباسي أستولى السلطان عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة الحسن البويهي على بغداد من جديد ، وعرج على مدينة كربلاء لأول مرة لزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام ، وقد أولى المدينة جل عنايته وأهتمامه وكان يزور كربلاء كل عام .
وفي سنة 369هـ (980م) أهتم عمران بن شاهين والي إمارة البطائح ، التي تقع بالقرب من واسط جنوب العراق ، بمرقدي الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف والإمام الحسين عليه السلام في كربلاء المقدسة ، حيث شيد رواقاً في الجانب الغربي من حرم الإمام الحسين عليه السلام عُرف برواق أبن شاهين ، والذي يعرف اليوم برواق السيد إبراهيم المجاب وبني بجواره مسجداً.
وفي عهد الخلفية العباسي الطائع سنة 369هـ (980م) أغار (ضبة بن محمد الأسدي) أمير عين التمر ، الذي كان يتزعم عصابة من اللصوص وقطاع الطرق ، على كربلاء ومشهد (الإمام) الحسين عليه السلام. وكان هذا قد أتخذ من (عين التمر) مركزاً لنشاطه وقيامه بأعمال السلب والنهب ، وشن الهجمات على المدن والقوافل ، ومما ساعده على ذلك عدم أستتباب الأمن والطمأنينة في البلاد ، فأرسل عضد الدولة البويهي في هذه السنة سرية من الجند إلى عين التمر للقضاء على (ضبة بن محمد الأسدي) ولكن هذا الأخير هرب بعد وصول السرية إليها.
ولم يكتف عضد الدولة بذلك ، بل أولى مدينة كربلاء جل عنايته وكان من أكثر الذين أهتموا بها ، وقام بأهم زيارة له لهذه المدينة في سنة 369هـ (980م) حيث أمر بإعادة بناء مرقد الإمام الحسين عليه السلام والدور والمباني المحيطة به ، وقد أنتهى العمل من بناء المرقد سنة 371هـ (982م ) . وكذلك أمر قبل وفاته سنة 372هـ (983م) ببناء مرقد العباس عليه السلام لأول مرة ، فأزدهرت المدينة أزدهاراً واسعاً في عهده وأقيمت المباني الجديدة ما بين المرقدين وحولهما فتوسعت المدينة وأصبحت مهمة في مركزها الديني والعلمي .