لقد لفت الإمام علي(عليه السلام) انتباه الفكر الإنساني عامة ًبشخصيته الفذة النادرة الملهمة، فكان موسوعة فكرية عامة تألقت في مختلف ميادين الفكر والمعرفة لذا تراه مؤسساً لكثير من العلوم بمختلف تقسيماتها ، ولا غرابة في ذلك فقد استقى علمه من رسول الله(صلى الله عليه وآله)وتربى في حجره منذُ الصغر ، وفتح ( عينيه على الطريق التي رسمها ابن عمه ، وعرف العبادة أول ما عرفها من صلاته ، ونَعِمَ بعطفه وحنانه وإخائه… وخفق قلب علي أول ما خفق بحب ابن عمه ، ونطق لسانه أول ما نطق بما لقّنه إياه من رائع القول، واكتملت رجولته أول ما اكتملت لمؤازرة النبي المضطهد )(1)
وارتشف منه التقى والهدى والإيمان والعلم والمعرفة والحكمة فكان له أباً وأخاً وصديقاً وأستاذاً كما يشير إلى ذلك في قوله:( أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ……إلى آخر كلامه)(2).
وتكشف هذه الرواية عن شدة العلاقة ومدى الرابطة الحميمة بين علي (عليه السلام) ،والنبي(صلى الله عليه وآله) والموقع والمكانة التي يشغلها من اهتمامه بتلقيه علوم الوحي وتفسير كتاب الله ، وأنه كان يلقي عليه من أخلاقه وعلومه وتجاربه، وبالمقابل كان علي(عليه السلام) يتلقى كل ما يفيض عليه معلمه ومربيه من صنوف المعرفة ، وهذا يدل على أنه تلقى عن معلمه الأوحد كل ما علّمه إياه(3)،
ومن ذلك علوم القرآن من التأويل والتفسير ،والناسخ والمنسوخ ،والمحكم والمتشابه ،والخاص والعام وغير ذلك كما يتضح من الرواية الآتية: ((وقَدْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله) كُلَّ يَوْمٍ دَخْلَةً وكُلَّ لَيْلَةٍ دَخْلَةً فَيُخَلِّينِي فِيهَا أَدُورُ مَعَه حَيْثُ دَارَ، ….. وكُنْتُ إِذَا سَأَلْتُه أَجَابَنِي وإِذَا سَكَتُّ عَنْه وفَنِيَتْ مَسَائِلِي ابْتَدَأَنِي، فَمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله)آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وأَمْلَاهَا عَلَيَّ …… ودَعَا اللهَ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا وحِفْظَهَا، فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ ولَا عِلْماً أَمْلَاه عَلَيَّ وكَتَبْتُه مُنْذُ دَعَا الله لِي بِمَا دَعَا …… فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ الله بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي مُنْذُ دَعَوْتَ الله لِي بِمَا دَعَوْتَ لَمْ أَنْسَ شَيْئاً ولَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ لَمْ أَكْتُبْه أفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ؟ فَقَالَ: لَا لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ والْجَهْلَ)(4).
ويُعَدُّ أمير المؤمنين(عليه السلام) سبّاقاً في كثير من العلوم كالنحو ، وعلوم القرآن – ومنه التفسير – ،والفيزياء ، والكيمياء ، والرياضيات ، وأسرار الكون ، وغيرها فقد فهم الدارسون من مقولة الإمام ( الإنسان يشارك السبع الشداد (5) أنّ الإنسان سيتمكن من ارتقاء السماء ، والتعرف إلى أسرار القمر والمريخ والزهرة وزحل والكواكب الأخرى فيكون الإمام قد سبق العلماء في ما توصلوا إليه حديثاً ،وكذا في قوله في التجارب علم مستفاد )(6) ،
وقوله: ( ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة )(7) فقد سبق الإمام بيكون في اكتشاف الطريقة التجريبية في العلوم الطبيعية، لقد كان علي(عليه السلام)رجل علم قبل أن يكون رجل دين ، وقد أحبّ العلم ، فكان وعاءً لعلوم شتى ، ولو بثّ علومه كلها لتحولت الدنيا إلى غيرها ، وتغير وجه الحياة ، وازدهرت بالبركات والخيرات ، وتحولت الأرض إلى بساط أخضر وربيع مقرّ ولكان الإسلام دين الأرض وسيّد الدنيا ، وارتقت البشرية إلى مرحلة فكرية فلا ظلم ولا تخلف ولا فساد ولأكلنا من ثمرات الأرض ، ولو جمعنا ما روي عنه لأدركنا أنه رجل علم ومدرسة علمية لكنه عاش في مجتمع لم يعرف للعلم ثمناً ، ولا للعلماء وزناً (8)فهو القائل : (بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ )(9) ، فهذا العلم الجم الذي لم يجد من يعينه ، والعلم المكنون الذي إباحته تقتضي اضطراب سامعيه ، ليس علمًا قد اكتسبه بقراءة ودراسة ومباحثة وتكرار ، بل هو علم لدني قذف الله تعالى نوره في قلبه من مشكاة تقواه ، وألهمه إياه لما تحلى زهده في متاع دنياه (10) ،
فهو القائل عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب والأسباب وفصل الخطاب ومولد الإسلام موارد الكفر وأنا صاحب الميسم وأنا الفاروق الأكبر …)(11)،وكذا القائل والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلى الله عليه وآله)(12) فلم يستفيدوا من علمه فهو حينما كان يقول ( سلوني قبل أن تفقدوني ) فكان سعد بن أبي وقاص يسأله : كم شعرة في رأسي ولحيتي ؟ استهزاءً بما طرحه الإمام فيجيبه الإمام عن مغيّب : ( إنّ في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله ) إشارة إلى أن له صبياً سيكبر ويقتل الإمام الحسين(عليه السلام)في كربلاء ، وهو عمر بن سعد(13).
لذا يصح القول : إنه من العلماء المظلومين في الحياة ؛ لأنه لم يُسمع له ،ولم يؤخذ منه كما أراد ورغب ؛ ولأنه العالم وليس كالعلماء(14) فهو القادر على القضاء والحكم لأهل التوراة بتوراتهم ،ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ،ولأهل القرآن بقرآنهم لقوله:(… أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ،وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتى ينطق كل كتاب من كتب الله فيقول : ” صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل الله في ” وأنتم تتلون القرآن ليلًا ونهارًا فهل فيكم أحد يعلم : ما أنزل الله فيه ، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم : بما كان ، وما يكون ، وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية : ( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(الرعد:39) ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو سألتموني عن : آية آية في ليل نزلت أم في نهار نزلت ، مكيّها ومدنيها ، سفريها وحضريها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأنبأتكم …)(15).
فلو ثنيت الوسادة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) وتسلم قيادة الحكم لتطورت الحياة الإسلامية ،وسادت القيم الأصيلة والمثل العليا فقد كان الإمام يملك طاقات هائلة من العلم لا يملكها غيره فثرواته العلمية شملت جميع ما يقع في الدنيا من أحداث في ما هو كائن وما يكون حتى يرث الأرض ومن عليها لكن من المؤسف أنّ الأمة لم تستغل هذا الجهبذ العظيم ، ولم تحتضنه ليفيض عليها بعلومه ومعارفه وثقافته فقد باعدوا بينه وبين الحياة السياسية العامة في البلاد محتجين بحجة تنمُّ عن حقدهم الدفين وهي أن الخلافة والنبوة لا تجتمع في بيت واحد(16)
متناسين أنه الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة إلا وأجاب عنها ، بل هو الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة ، وهو المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في جميع أمورهم، فقد سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم العربية المعروف ،وصاحب أول معجم عربي هو العين ، ومخترع علم العروض عن الدليل على إمامة علي(عليه السلام)، على نحو الكل في الكل ، قال: احتياج الكل إليه ، واستغناؤه عن الكل(17).
لقد رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن علمه ليس له فهو ليس مثل بقية الذين يحملون العلم من أجل أن يجمدوه في ذواتهم أو ليحصلوا على امتيازات خاصة، فقد كان يشعر أن علمه ليس ملكاً له ؛ لأنه ملك الله ،والله يريد منه أن ينفقه على خلقه، لذا كان يطلب من الناس ، وهو مسجى على فراش الموت أن يسألوه فلا يترك فرصة يشعر فيها أن الناس بحاجة إليه إلا وبادر إليها من أجل إزالة شبهة عنهم أو فتح باب لهم للحق أو تخطيط لهم على طريق الهدى أو إنقاذهم من طريق الضلال(18).
وقد شهد بفضله القاصي والداني، ونكتفي بذكر شهادة الدكتور محمد حسين الذهبي الذي قال عنه إنه :(( كان رضي الله عنه بحرًا في العلم ، وكان قوي الحجة سليم الاستنباط، أوتي الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر ، وكان ذا عقل قضائي ناضج ، وبصيرة نافذة إلى بواطن الأمور ، وكثيرًا ما يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي واستجلاء ما أشكل ، وقد ولاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) قضاء اليمن ودعا له بقوله : ( اللهم ثبت لسانه واهد قلبه )(19) فكان موفقًا ومسددًا فيصلًا في المعضلات حتى ضرب به المثل فقيل : (قضية ولا أبا حسن لها )(20). ولا عجب ، فقد تربى في بيت النبوة ، وتغذى بلبان معارفها وعمته مشكاة أنوارها)(21).
نشرت في العدد المزدوج 57-58
هوامش:
(1) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية / جورج جرداق 68.
(2) نهج البلاغة / أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، الخطبة 192، ص 348-350.
(3) ينظر : مدارس التفسير الإسلامي / علي أكبر بابائي 1/71.
(4) الكافي / الكليني 1/64.
(5) وردت هذه المقولة في شرح الصحيفة السجادية /حسن السيد علي القباناي 84 .
(6) المقولة لأمير المؤمنين وردت في ميزان الحكمة / محمد الريشهري 1/376.
(7) من وصاياه لكميل بن زياد ،ينظر : تحف العقول / ابن شعبة الحراني 171.
(8) ينظر : الإمام علي القرآن الناطق/ نعمة هادي الساعدي 247.
(9) نهج البلاغة ،الخطبة 5،ص32.
(10) ينظر : مطالب السؤول في مناقب آل الرسول / محمد بن طلحة الشافعي .82
(11) بصائر الدرجات / محمد بن الحسن الصفار 222.
(12) نهج البلاغة ،الخطبة 175،ص 289.
(13) ينظر : بحار الأنوار/المجلسي 40/192.
(14) ينظر : الإمام علي القرآن الناطق/ نعمة هادي الساعدي 247.
(15) الاحتجاج / الطبرسي 1/385.
(16) موسوعة الإمام أمير المؤمنين / الشيخ باقر شريف القرشي 3/8-9.
(17) ينظر : معجم رجال الحديث / السيد الخوئي 8/81.
(18) ينظر : في رحاب أهل البيت 1/162.
(19) ورد في أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين 1/287.
(20) مقولة لعمر بن الخطاب( ينظر : الرسالة السعدية / العلامة الحلي 25).
(21) التفسير والمفسرون / الذهبي 1/89.
المصدر:موقع سراج القائم (عج)