نص الشبهة:
فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام : ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات الإلهية للكواكب ، وهذا مما قلتم إنه لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام .
الجواب:
قيل له في هذه الآية جوابان
أحدهما :
أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ذلك في زمان مهلة النظر ، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له ، لأن إبراهيم ( ع ) لم يخلق عارفا بالله تعالى ، وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله تعالى عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي ، فلما رأى الكواكب : وقد روي في التفسير أنه رأى الزهرة وأعظمه ما رآها عليه من النور وعجيب الخلق ، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون أنها آلهة . قال هذا ربي على سبيل الفكر والتأمل لذلك ، فلما غابت وأفلت وعلم أن الأفول لا يجوز على الإله ، علم أنها محدثة متغيرة منتقلة .
وكذلك كانت حالته في رؤية القمر والشمس ، وأنه لما رأى أن أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة الهيتهما ، وقال في آخر الكلام : ﴿ … يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ 1 ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ 2 . وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى ، وعلمه بأن صفات المحدثين لا يجوز عليه تعالى.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقول عليه السلام هذا ربي ، مخبرا ، وهو غير عالم بما يخبر به ، والإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون كاذبا فيه قبيح . وفي حال كمال عقله ولزوم النظر لا بد من أن يلزمه التحرز من الكذب ، وما جرى مجراه من القبح .
قلنا عن هذا جوابان
أحدهما : أنه لم يقل ذلك مخبرا ، وإنما قال فارضا ومقدرا على سبيل الفكر والتأمل ، ألا ترى أنه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظرا في شيئ ومتأملا بين كونه على إحدى صفتيه ، أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة . ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها إن يفرض كونها قديمة ، ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد .
والجواب الآخر : أنه أخبر عن ظنه ، وقد يجوز أنه يظن المفكر والمتأمل في حال نظره وفكره ما لا أصل له ، ثم يرجع عنه بالأدلة والعقل ، ولا يكون ذلك منه قبيحا .
فإن قيل الآية تدل على أن إبراهيم عليه السلام ما كان رأى هذه الكواكب قبل ذلك ، لأن تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها ، فكيف يجوز أن يكون إلى مدة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم ؟
قلنا لا يمتنع أن يكون ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت ، لأنه على ما روي كان قد ولدته أمه في مغارة خوفا من أن يقتله النمرود ، ومن يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكر فيها ، وقد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في أعلامها ، لأن الفكر لم يكن واجبا عليه . وحين كمل عقله وحركته الخواطر فكر في الشئ الذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن مفكرا فيه .
والوجه الآخر في أصل المسألة
هو أن إبراهيم عليه السلام لم يقل ما تضمنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك الحال موقنا عالما بأن ربه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شئ من الكواكب ، وإنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه والتنبيه لهم على أن ما يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون إلها معبودا ، ويكون قوله : ﴿ … هَٰذَا رَبِّي … ﴾ 3 محمولا على أحد وجهين : أي هو كذلك عندكم وعلى مذاهبكم . كما يقول أحدنا للمشبه على سبيل الإنكار لقوله هذا ربه جسم يتحرك ويسكن .
والوجه الآخر : أن يكون قال ذلك مستفهما ، وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه ، وقد جاء في الشعر ذلك كثيرا : قال الأخطل 4 : كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرباب خيالا
وقال الآخر : لعمرك ما أدري وإن كنت داريا *** بسبع رمين الجمر أم بثمان وأنشدوا
قول الهذلي : وقوني وقالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم يعني أهم هم ؟
وقال ابن أبي ربيعة : ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد الرمل والحصى والتراب
فإن قيل : حذف حرف الاستفهام إنما يحسن إذا كان في الكلام دلالة عليه وعوض عنه ، وليس تستعمل مع فقد العوض . وما أنشدتموه فيه عوض عن حرف الاستفهام المتقدم . والآية ليس فيها ذلك .
قلنا قد يحذف حرف الاستفهام مع إثبات العوض عنه ومع فقده إذا زال اللبس في معنى الاستفهام ، وبيت ابن أبي ربيعة خال من حرف الاستفهام ومن العوض عنه .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ 5 قال هو أفلا اقتحم العقبة . فألقيت ألف الاستفهام . وبعد فإذا جاز أن يلقوا ألف الاستفهام لدلالة الخطاب عليها . فهلا جاز أن يلقوها لدلالة العقول عليها ، لأن دلالة العقل أقوى من دلالة غيره 6 .
- 1. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية: 78 ، الصفحة: 137 .
- 2. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 79 ، الصفحة : 137 .
- 3. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 76، الصفحة: 137.
- 4. الأخطل : شاعر الأمويين ( 640 ـ 710 ه ) هو غياث التغلبي لقب بالأخطل لطول لسانه أو لارتخاء أذنيه له ديوان كبير أكثره في الشعر السياسي مدح فيه الأمويين وهجا أعداءهم .
- 5. القران الكريم : سورة البلد ( 90 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 594 .
- 6. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى ، دار الأضواء : 39 ـ 42 .