بسم الله الرحمن الرحيم
هل الاختلاف بين الشِّيعة دليل على عدم وجود النَّص؟
✍🏻 زكريَّا بركات
28 جمادى الثانية 1445 هـ
من الشُّبُهات المشهورة الَّتي يتمسَّك بها خصومُ الشِّيعة قولُهم إنَّ اختلاف الشِّيعة بعد موت كلِّ إمامٍ في تحديد الإمام بعده، هو من الأدلَّة على عدم وجود النَّص على الإمامة والأئمَّة واحداً بعد واحد كما تدَّعيه الشيعة.
والجواب عن هذه الشُّبهة سهلٌ لمن فهم الارتباطَ بين النَّصِّ والاختلاف، أو النَّصِّ والوفاق؛ لأنَّ الشُّبهة نشأت من توهُّم وجود تلازم بين وجود النَّصِّ ووجود الوفاق، أو بين النص وعدم الاختلاف؛ إذ يتصوَّر كثير من الناس ـ بغير حقٍّ ـ أنَّ وجود النَّصِّ سبب كامل وعلَّة تامَّة للوفاق؛ فإذا انتفى الوفاق ووقع الاختلاف كشف ذلك عن عدم وجود النَّصِّ.
وهذا فهم غير سليم لعلاقة النَّصِّ بالوفاق؛ فصحيحٌ أنَّ وجود النَّصِّ سببٌ للوفاق؛ إلَّا أنه سبب غير كامل وعلَّة غير تامَّة؛ والسِّرُّ في ذلك أنَّ هناك أموراً أُخرى يلزم تحقُّقها ـ بالإضافة إلى وجود النص ـ لكي يحصل الوفاق والاهتداء بالنَّصِّ، فأوَّلُها: الاطِّلاع على النَّصِّ، وثانِيها: عدم وجود شبهة في ذهن المطَّلع على النَّصِّ تمنعه من التَّصديق والقَبول، وثالثُها: عدمُ الفِسق والانحراف المانع من الالتزام بالنَّصِّ، ورابعُها: انتفاءُ الدَّواعي إلى التقيَّة الموجبة للخلاف الظاهري (غير الواقعي) للنَّصِّ.
فالسبب الكامل والعلَّة التامَّة للوفاق هو عبارة عن تحقُّق هذه الأمور الأربعة بالإضافة إلى وجود النَّصِّ.
وبناءَ عليه قد لا يكون الاختلاف بسبب انتفاء النَّصِّ، بل بسبب عدم الاطِّلاع عليه، أو بسبب طروء شبهة، أو بسبب اتِّصاف المخالف بالفسق، أو بسبب اضطراره للتظاهُر بالخلاف تقيَّةً.
وممَّا يشهد بصحَّة هذا الفهم لعلاقة النص بالوفاق والخلاف، وأنَّ وقوع الخلاف ليس دليلاً على انتفاء النص: أنَّ هناك قضايا دينيةً لا يشكُّ المتمسِّكون بالشبهة في صحَّتها بالرَّغم من أنَّها مما وقع الاختلاف فيه..
فاليهود والنصارى أنكروا نبوَّة محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنَّ المسلمين يعتقدون أنه (ص) منصوص عليه عندهم في التوراة والإنجيل.
واختلفت الأمَّة الإسلاميَّة في إمامة الإمام عليٍّ عليه السلام بوصفه خليفة رسول الله (ص) وولي الأمر بعده بلا فصل، مع أنَّ جميع طوائف الشِّيعة قائلون بثبوت النَّصِّ على إمامته بالتَّواتر.
وحارب عشراتُ الآلاف من أبناء هذه الأمَّة الإمامَ عليًّا (ع) في صِفِّين، بالرَّغم من تواتر عدَّة أحاديث في وجوب ولايته وحرمة معاداته، ومع علمهم بأنَّ عمار بن ياسر معه، وقد روى الفريقان حديثَ “تقتله الفئة الباغية”.
وكذلك اتَّفقت كلمةُ عشرات الآلاف على مقاتلة الإمامين الحسنين عليهما السلام، بالرغم من تواتر حديث سيِّدا شباب أهل الجنة، وبالرغم من ثبوت إمامتهما بالنص المتواتر عند الشيعة.
ومال كثير من أبناء هذه الأمَّة إلى ولاية اليهود والنصارى، بالرَّغم من تواتر النص القرآني في حرمة ذلك وعدِّه من علامات النفاق.
فلو كان الإنكار والجحود والاختلاف دليلاً على انتفاء النص، لانتفت صحَّة كثير من القضايا الدينيَّة الأساسيَّة المتواترة التي لا مجال للرَّيب فيها.
بل الصحيح هو اعتماد النَّصِّ الثابت للحكم بحُرمة الاختلاف، والقولِ بانحراف المخالفِ للنَّصِّ، وليس اعتماد الخلاف للحكم بانتفاء النَّصِّ وبطلانه..
والله وليُّ التوفيق. والحمدُ لله ربِّ العالمين.