نور العترة

شبهة علم الغيب…

نص الشبهة: 

طالما ردد الشيعة في كتبهم عن مقتل الحسين «عليه السلام»: أنه مات عطشاناً في المعركة، ولذلك تراهم يكتبون على مخازن المياه العبارة التالية: «اشرب وتذكر عطش الحسين».

والسؤال: ما دام الأئمة حسب مفهوم الشيعة يعلمون الغيب: ألم يكن باستطاعة الحسين أن يعلم حاجته إلى الماء أثناء القتال، وأنه سوف يموت عطشاناً، وبهذا يستطيع أن يجمع كمية من الماء كافية للمعركة؟! ثم: أليس توفير المياه أثناء القتال يدخل في باب الأخذ بالأسباب؟! والله يقول: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ .

الجواب: 

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين..
وبعد..
فإنني أجيب على هذا السؤال بما يلي:
أولاً: قلنا: إن الحسين «عليه السلام» لم يجمع الجيوش للحرب، بل هو قد ترك مكة حتى لا يغتاله شياطين بني أمية، وتهتك به حرمة البلد الحرام، حين بلغه أن ثمة مؤامرة تهدف إلى قتله.
والذين كانوا معه، هم: عياله وأطفاله، وأهل بيته، وبعض الأصحاب، ولم يكن يزيد عدد هؤلاء جميعاً على بضعة عشرات، وإذ به يواجه بألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي يحاصرونه، ويضيقون عليه، ويمنعونه من دخول الكوفة، حتى اضطروه للنزول في كربلاء، ليواجه جيشاً جمعوه لحربه، يصل عدده إلى ثلاثين ألفاً أو أكثر من ذلك.. فهو يعلم بأنه مقتول، لكنه هو لم يسهم في قتل نفسه، بل حاول أن يختار المكان الأقل ضرراً على ألإسلام وأهله.
فلا مورد للحديث عن أن على الحسين «عليه السلام» أن يبادر إلى الإعداد والاستعداد، وتهيئة الماء لأيام الحصار.. ولا لغير ذلك..
وأما إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة فلم يكن لجمع الجيوش، بل أرسله لينظر في أمر الناس الذين ألحوا عليه بالقدوم عليهم، وهو إمامهم بنص الرسول «صلى الله عليه وآله»، وباعتراف معاوية: بان الأمر من بعده للحسن، ثم للحسين، أو يرجع شورى بين المسلمين، الأمر الذي لم يلتزموا به بعد موت معاوية، لعلمهم بأنهم لو أرجعوا الأمر شورى لما اختار الناس سوى الحسين «عليه السلام»، انصياعاً للآيات القرآنية، وللأحاديث النبوية الواردة في حقه «عليه السلام».
ثانياً: إن علم الأئمة «عليهم السلام» للغيب إنما هو من خلال الإتصال بالرسول «صلى الله عليه وآله»، الذي يتلقى علمه عن جبرئيل عن الله سبحانه وتعالى، فهو علم مكتسب من مصدر بعينه..
وليس علماً ذاتياً مستقلاً به عن الله تعالى.
وكان يجب عليه «صلوات الله وسلامه عليه» أن يعامل الناس وفق ما يظهرونه، ويقولونه ويفعلونه، ووفق ما يصل إليه علمه بالإستناد إلى الوسائل المتوفرة له ولسائر الناس، لا بعلم الغيب الذي لا يتيسر لسواه..
على أن من الواضح: أن ما يصل من الغيب إلى الأنبياء والأوصياء، أو فقل: ما يسعى الأنبياء والأوصياء إلى معرفته من أمور الغيب، هو خصوص ما يتصل بنيلهم المقامات عند الله، ويزيد في معرفتهم، ليزيد في تأكيد كمالاتهم، وتحقيق المزيد من القرب منه تعالى، وكذا إذا كان ذلك يرتبط بمهماتهم الرسالية، وبمسؤولياتهم في الحياة الإنسانية، أما ما عداه مما يرتبط بأمورهم الشخصية، وأمور معيشتهم، والصحة والمرض، والبلاء والعافية، وحياة الإمام «عليه السلام» والنبي «صلى الله عليه وآله» وموته، وما لا أثر له في حفظ الدين وأهله بصورة مباشرة، وما لا رابط له برعاية ما يجب عليهم رعايته في إيصال المخلوقات إلى الله، وما يوجب كمالهم.. أما ما عدا ذلك، فإنهم لا يديرون له بالاً، وليس له أي أهمية في حساباتهم..
ثالثاً: لقد سجل لنا التاريخ: أنه «عليه السلام» قد أرسل أخاه العباس ليأتيه بالماء، فاستشهد قبل أن يتمكن من إيصاله إليه..
وفي الروايات: أنه «عليه السلام» قد حاول حفر بعض الآبار ليستنبط منها الماء، فتصدى له أعداؤه ومنعوه من ذلك..
رابعاً: إن من يعتقد بأن القدر هو الحاكم على العباد، ليس له أن يطرح هذا السؤال، إذ لا يمكن تحقق مفهوم الإنتحار، فإنه إذا علم بأنه سيقتل عطشاً، ويعلم أن قضاء الله لا يُردُّ، فما فائدة ادِّخار الماء، إذا كان القضاء قد سبق بعدم الفائدة منه؟! ولن يغير هذا القضاء شيء؟!
خامساً: ومع غض النظر عن جميع ما قدمناه، مع أنه هو الحق الذي لا محيد عنه، ولا مناص منه، فإن إصرار السائل على قوله يدعونا إلى مجاراته في النقاش، ومطالبته بالدليل على أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أعلم الحسين «عليه السلام» بنفس اللحظة التي يقتل فيها، فإن الله تعالى، يقول: إنه ﴿ … فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ … ﴾ 1، ولكن من قال: إن ذلك يشمل إعلام رسله بساعات وفياتهم، لا سيما مع قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ 2.
فلعل هذه الآية قد قيدت الآية التي سبقتها، وحصرتها بالغيوب التي لا تشمل موضوع الآجال، ولحظاتها. أو أنها خصصتها بحالات العلم الإجمالي دون التفصيلي الدقيق.
سادساً: لنفترض أن الحسين «عليه السلام»، قد علم أنه سيقتل عطشاناً في كربلاء، ولكن ما عساه يفعل، وقد ألجئ إلى الحضور إليها من قبل أعدائه، لا سيما وأنه قد جاء إليها مع عياله، ولم يجمع جيشاً، ولم يكن بصدد خوض حرب مع أحد؟!
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله.. 3.

  • 1. القران الكريم: سورة الجن (72)، الآية: 26 و 27، الصفحة: 573.
  • 2. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 34، الصفحة: 414.
  • 3. ميزان الحق.. (شبهات.. وردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1431 هـ. ـ 2010 م.، الجزء الثاني، السؤال رقم (68).
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى