بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم
(في ضوء الآية 112 من سورة هود)
بقلم: زكريَّا بركات
24 ـ 5 ـ 2024
ــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود: 112) .
قد يتوهَّمُ البعضُ أنَّ عبارة (ومن تاب معك) تدلُّ على أنَّ النبيَّ (ص) تائب من ذنب؛ نظراً إلى ارتباط التوبة بالذنب في ارتكاز المتشرِّعة والاصطلاح الإسلاميِّ الخاصِّ.. وهو ما يتنافى مع عصمة رسول الله (ص) .
ويمكن الإجابة عن ذلك بإحدى أربع إجابات:
الإجابة الأولى: أنَّ التوبة ـ في اللُّغة العربية ـ تعني الرجوعَ المطلق، بغضِّ النَّظر عن المرجوع عنه، أو المرجوع إليه، ثمَّ كثُرَ استعمالُها في الرجوع عن الذنب، فكان ذلك سبب التوهم في ارتباط التوبة بالذنب.. والصحيح هو الاحتكام إلى اللغة في تفسير كلمات القرآن الكريم، وليس إلى الاصطلاحات والارتكازات الخاصَّة، باستثناء الموارد التي تكون فيها قرينة على إرادة المعنى الخاص. وبناء عليه: فالمراد من التوبة ـ في الآية الكريمة ـ هو الرجوع إلى الله تعالى، من غير تقييد لكون الرجوع عن ذنب. وهذا المعنى هو الذي فهمه كثير من المفسرين، حتى من العامَّة، كابن جرير الطبري في تفسيره، ولا يوجد ـ حسب تتبُّعي ـ قولٌ حتى عند العامة يُفسِّر التوبة في الآية بمعنى التوبة من الذنب بالنسبة إلى رسول الله (ص) .
والرجوع بهذا المعنى يعني التوجه إلى الله تعالى، فكأنَّ الإنسان يُعرض عن الوُجهة التي تُمليها عليه النَّفسُ الأمَّارة والأهواءُ، ويعود إلى الوُجهة التي تُمليها عليه فطرتُه وهدايتُه القلبيَّة.
وبهذا المعنى يمكن أن يتَّسع معنى الرجوع في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] ، بخلاف الفهم المتبادر من أنَّ المقصود بالرجوع في مثل هذه السياقات هو لقاء الله بالموت والخروج من الدنيا.
الإجابة الثانية: هي أن يقال إنَّ في الآية اختصاراً، وأنَّ أصل العبارة هكذا: فاستقم كما أُمرت ومن تاب من الشرك وآمن معك.. فالمعية متعلقة بالإيمان، وليس بالتوبة من الشِّرك.. ويمكن توضيحُ هذا التصوُّر للحذف بالقول بأنَّ التوبة ـ بمعنى الرجوع إلى الله ـ تُمثِّل مساراً ذا خطوتين، الخطوة الأولى هي التوبة من الشِّرك بالنسبة لغير رسول الله (ص) ، والخطوة الثانية هي الإيمان الذي يشترك فيه سائرُ التائبين مع رسول الله (ص) ، فنظراً إلى اشتراك الآخرين مع رسول الله في جزء مهمٍّ من مسار التوبة، صحَّ أن يُربَط بينهم وبينه (ص) بالمعيَّة.
الإجابة الثالثة: هي أن يقال إنَّ التوبة في الآية استُعمِلت بمعنى الإيمان، وهو ما اختاره العلَّامة الطباطبائي في تفسير الميزان، واستشهد له ببعض آيات القرآن الكريم. وهذه الإجابة لا تخلو من انسجام مع الإجابة الأولى، وقد يصحُّ عدُّهما شيئاً واحداً.
الإجابة الرابعة ـ ولم أجد قائلاً بها ـ : أنَّ المعية ليس بالضرورة أن تدلَّ على الاشتراك في التوبة. وهذا ما يحتاج إلى التوضيح من خلال مثالين:
المثال الأوَّل: أن يقال: توضأ أنت ومن جاء معك.
المثال الثاني: أن يقال: توضأ أنت ومن قاتل معك.
ففي المثال الأوَّل يتبادر إلى الذهن أنَّ المخاطب مشترك مع الآخرين في فعل المجيء، ولكن هل يتبادر في المثال الثاني أن المخاطب أيضاً مشارك في القتال بنفسه؟ ألا يُحتمل أن يكون مَلِكاً ـ مثلاً ـ لا يباشر القتال بنفسه، ولكنَّ الآخرين لمَّا كانوا يقاتلون لأجل حماية مُلكه يصح الربط بينهم وبينه بالمعية؟ فمن المحتمل أن يكون معنى المعيَّة ـ هنا ـ الانضمام أو الانتماء بغض النظر عن الاشتراك في الصفة أو الفعل المذكور قبل المعيَّة.
فيمكن أن يُقال إنَّ عبارة (ومن تاب معك) هي من قبيل المثال الثاني، فليس هناك تبادر يقتضي أنَّ النبي (ص) أيضاً تاب، بل قد يكون المقصود أنَّ التائبين منضمون ومنتسبون ومنتمون إلى رسول الله، ولذلك رُبط بينهم وبينه بالمعيَّة.
والحمد لله ربِّ العالمين.