نص الشبهة:
يدعي الشيعة عصمة أئمتهم ـ كما هو معلوم ـ ، وهذا أحرجهم كثيراً أمام الروايات العديدة التي فيها أن الأئمة كغيرهم من البشر يجوز عليهم صدور السهو والخطأ . . ، حتى أقر عالم الشيعة المجلسي بأن : « المسألة في غاية الإشكال ؛ لدلالة كثير من الأخبار والآيات على صدور السهو عنهم » (بحار الأنوار 25 / 351 .) .
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . .
فإننا نجيب بما يلي :
أولاً : إن الأدلَّة من القرآن كما في آية التطهير ، ومن الأحاديث المتواترة عن رسول الله « صلى الله عليه وآله » حول أن الأرض لا تخلو من حجة ، منضماً إلى حديث : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، منضماً إلى حديث الثقلين المتواتر . . الدال على أن الأئمة هم عدل الكتاب ، وهم الحجة إلى يوم القيامة ـ أن ذلك كله ـ يدلُّ على عصمة الحجة حتى عن السهو ، والنسيان ، والخطاء ، والمعصية ، لأن التخلف في مورد واحد معناه : عدم وجود الحجة في ذلك المورد . .
ثانياً : يقول السائل : يدعي الشيعة عصمة أئمتهم . . وهذا أحرجهم كثيراً أمام الروايات التى تجوز عليهم السهو والخطاء كسائر البشر . . مع أن هذا الإحراج الذي ادعى أنه أصاب الشيعة لم يوجد إلا عند شخص واحد منهم ، وهو العلامة المجلسي « رحمه الله » حسب قول السائل . .
وقد صرح المجلسي « رحمه الله » نفسه في نفس هذا المورد : بأن الشيعة قد أجمعوا إلا من شذ على عصمتهم المطلقة ، ولم يتحيروا ولا شكوا في ذلك .
ثالثاً : صرح العلامة المجلسي « رحمه الله » : بأن الذي أحرجه هو الأخبار التى دلَّت على صدور السهو عنهم في غير الواجبات والمحرمات ، كالمكروهات ، والمباحات . . فما معنى تعميم كلام السائل إلى كل سهو وخطأ حتى في الواجبات والمحرمات .
رابعاً : إن كلام المجلسي « رحمه الله » ليس خاصاً بالأئمة ، بل هو عام لهم وللأنبياء معاً . .
خامساً : اعترف المجلسي « رحمه الله » بدلالة بعض الآيات والأخبار ، ودلائل علم الكلام على عصمتهم « عليهم السلام » حتى عن السهو في المكروهات والمباحات . . وأن هناك أخباراً أخرى تدلُّ على جواز السهو عليهم في المكروهات والمباحات . .
ومعنى ذلك : أنه لم يتعرض لحل الإشكال القائم بين هذه الطائفة من الأخبار والآيات ، وبين تلك الطائفة من الأخبار والآيات . .
ومن الواضح : ان هذه الإشكال يطال السنة والشيعة على حد سواء كما يلزم على كل شيعي ، والمجلسي منهم أن يحل هذه الإشكال . . كذلك يجب على كل غير شيعي أن يحل هذا الإشكال . . إذ لا ريب في عدم جواز أن تكون الآيات متناقضة ، وكذلك الأخبار عند السنة وعند الشيعة على حد سواء .
سادساً : قد يكفي في حلّ هذا الإشكال القول : بأن العصمة عن السهو في الواجبات والمحرمات إنما تتحقق لأجل أن المعصوم قد حصل على ملكة قوية يمتنع معها عروض النسيان والسهو له . . والملكة أمر بسيط غير قابل للتجزئة إذا وجدت ، فإن الحافظة لا تفرق بين مواردها .
يضاف إلى ذلك : أن الخطأ والسهو في الأمور الدنيوية يضعف ثقة الناس بالنبي والإمام في ضبطه لسائر الأمور التي أمر بها ، وبتبليغها . .
سابعاً : إذا رجعنا للآيات التي قد يُتوهم أنها تشير إلى سهو الأنبياء ، فسنجد أنها لا تدلُّ على سهوهم حتى في المباحات والمكروهات، وكنموذج على ذلك نشير إلى مثالين اثنين هما :
﴿ … لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ … ﴾ :
الأول : قوله تعالى عن موسى « عليه السلام » حين قال للعبد الصالح :﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ 1 .
فقد نسب موسى « عليه السلام » إلى نفسه النسيان فيما يبدو للوهلة الأولى . . ولكننا نقول :
إن التأمل في الآيات يعطي
1 ـ إن موسى « عليه السلام » لا يريد نفي العصمة عن نفسه من هذه الجهة . . لأنه لم ينكث العهد ، إذ لم يكن قد عاهد الخضر « عليه السلام » على السكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة ، وحقائق الدين ، بل كان من واجبه الإلهي أن يعترض وأن يسأل ، وأن يظهر حساسية بالغة لصالح الإلتزام بالحكم الشرعي ، ولو لم يعترض « عليه السلام » على الخضر لم يكن أهلا لمقام النبوة والرسالة .
2 ـ إن قول موسى « عليه السلام » : ﴿ … لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ … ﴾ 2 ، لايعني : أن المبرر لاعتراضه على الخضر هو النسيان ، وأنه يعتذر له منه ، فإنه لم يقل له : لا تؤاخذني بنسياني ، بل قال : ﴿ … بِمَا نَسِيتُ … ﴾ 2 ، أي : بتركي العمل في المورد الذي كان علي أن أهمل الوعد فيه ، وأزيحه عن ذاكرتي ، لكي أبادر لمواجهة ما أراه مخالفاً للشرع ، ويجب عليَّ الردع عنه ، فالمراد بالآية الإعتذار بالإنشغال بالأهم عن غيره . .
3 ـ وحين أكّد له الخضر « عليه السلام » بصورة ضمنية على أن عمله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي ، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب ، قبل منه ذلك ، فلما تكرر ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض ، عملا بالتكليف الإلهي ، ولم يستعجل الحكم ، ولا نكث العهد ، ولا كان ذا فضول . . ولا هو يعاني من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة كما يقوله البعض . .
4 ـ أما المرة الثالثة ، فلم تكن امتداداً لما سبقها ، بل كانت نتيجة اتفاق جديد بين العبد الصالح وبين موسى « عليه السلام » ، حيث توافقا على الإلتزام بمضمون قوله تعالى : ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ 3 ، حيث قد أصبح بإمكان موسى « عليه السلام » أن يعترض على العبد الصالح إن شاء ، فتكون المفارقة بينهما ، وبإمكانه أن يسكت ويستمر معه .
فاختار موسى الإنفصال ، لا عن نسيان للوعد ، بل عن معرفة به ، والتفات إليه . .
فالمراد بالنسيان في الآية : الترك والإهمال ، ولو ظهر بصورة العمل الذي يصفه الناس ـ عادة ـ بأنه نسيان ، ولم يكن في واقعه وحقيقته كذلك ، وهذا العمل هو وضع هذا الوعد جانبا ، والمبادرة لإنجاز التكليف الشرعي الحاضر ، الذي هو الأهم .
فالتعبير بالنسيان لا يراد به الإخبار عن حدوثه ، بل الإخبار عن العمل الذي يراه الناس كذلك ، وإن لم يكن في واقعه كذلك .
5 ـ ولعل نجاح موسى « عليه السلام » الباهر في هذا الإمتحان هو الذي أظهر أهليته لمقام النبوة والرسالة ، وعرّفنا على سر اصطفاء الله له من بين سائر قومه ليكون نبياً من أولي العزم .
6 ـ كما أنه لا ربط لهذه الآية بموضوع علم الأنبياء والأئمة ، وإنما هي ترتبط بموضوع تنجز التكليف في ما يرتبط بالمعذرية أمام الله سبحانه ، لكي يكون العمل عن حجة ظاهرة لكي لا يصبح ذريعة للجبارين والظالمين .
﴿ … وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ :
المثال الثاني : قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ 4 .
فإن هذه الآية صريحة في نسبة النسيان لنبي الله آدم « عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام » . .
غير أننا نقول :
روي عن (أحدهما) الإمام الصادق أو الإمام الباقر « عليهما السلام » قوله عن آدم « عليه السلام » : « إنه لم ينس ، وكيف ينسى وهو يذكره ، ويقول له إبليس : ﴿ … مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ 5 » 6 .
وذلك يفيد : أن المراد بالنسيان في قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ 4 ـ إن كانت الآية تتحدَّث عما جرى بين آدم وإبليس ـ هو أنه قد عمل عمل الناسي ، بأن ترك الأمر وانصرف عنه ، كما يترك الناسي الأمر الذي يطلب منه .
والرواية المتقدمة : المصرِّحة بأن آدم « عليه السلام » لم ينس نهي الله عن الشجرة ، يمكن أن تكون ناظرة إلى ما قلناه . . ولكن روي أيضاً عن الإمام الصادق « عليه السلام » ما يدلُّ على أن نسيان العهد في هذه الآية لا يرتبط بالنهي عن الشجرة ، بل هو يرتبط فيما أخذ عليه في الميثاق . . والقول فيها لا يختلف عن القول في سابقتها . . ولهذا البحث مجال آخر .
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله . . 7 .
- 1. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 71، الصفحة: 301.
- 2. a. b. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 73، الصفحة: 301.
- 3. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 76، الصفحة: 302.
- 4. a. b. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 115، الصفحة: 320.
- 5. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 20، الصفحة: 152.
- 6. تفسير العياشي ج 2 ص 9 و 10 وبحار الأنوار ج 11 ص 187 عنه ، وتفسير البرهان ج 2 ص 6 وتفسير نور الثقلين ج 2 ص 14 وج 3 ص 402 والتفسير الأصفى ج 2 ص 772 والتفسير الصافي ج 3 ص 323 وتفسير الميزان ج 1 ص 145 وج 14 ص 227 .
- 7. ميزان الحق . . ( شبهات . . وردود ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، 1431 هـ . ـ 2010 م ، الجزء الرابع ، السؤال رقم (146) .