قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» 1.
وفي رواية أخرى أنّه «صلى الله عليه وآله» قال: «إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا، حتى يردا عليَّ الحوض» 2.
يعرف هذا الحديث النّبوي الشريف بحديث الثقلين، وهو من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، بل هو متواتر عنه، رواه عنه أكثر من ثلاثين صحابيّاً، وقاله «صلى الله عليه وآله» في مواطن متعدّدة، قال ابن حجر: «ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرةً وردت عن نيف وعشرين صحابياً… وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنّه قاله لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مر، ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة» 3.
والمراد بالعترة فيه هم الأئمة الإثنا عشر من أهل البيت «عليهم السلام» الذين جعلهم النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» من بعده قادة للأمّة وهداة لها والقائمين مقامه في إدارة شؤونها الدينيّة والدّنيوية إلى يوم القيامة واحداً تلو الآخر، أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وآخرهم الإمام المهدي المنتظر «عليه السلام»، فعن الإمام السبط الشهيد الحسين «عليه السلام» قال: «سئل أمير المؤمنين «عليه السلام» عن معنى قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إنّي مخلف فيكم كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين، تاسعهم مهديّهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتّى يردوا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» حوضه» 4.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» أنّه قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إنّي تركت فيكم الثقلين، كتاب الله وأهل بيتي» ثم قال الإمام الصادق «عليه السلام»: «فنحن أهل بيته» 5.
دلالات حديث الثقلين
ويتضمّن حديث الثقلين مجموعة من الدّلالات أذكر منها:
1- وجوب التّمسك بالقرآن والعترة
وذلك لأنّ النبي «صلى الله عليه وآله» جعل التّمسك بهما عاصماً من الضلالة، ومن كان التّمسك به مانعاً من الضلالة فالتّمسك به واجب.
والتّمسك بالقرآن الكريم هو اتباعه، والاهتداء به، بالائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، وأخذ معارف الشريعة وأحكامها وتعاليمها منه، والتّمسك بأهل البيت «عليهم السلام» إطاعتهم، ولزوم تلقّي تعاليم الدّين الحنيف منهم، والعمل بأوامرهم ونواهيهم، والاقتداء إلى الله سبحانه وتعالى بهم 6.
2- انحصار النّجاة في التمسك بالكتاب والعترة
لقوله «صلى الله عليه وآله»: «لن تضلّوا» فلو كان ترك التّمسك بهما أو التمسك بغيرهما عاصماً للمسلم من الضلالة، للزم أن يذكره النبي «صلى الله عليه وآله» لكنّه حصر النّجاة من الضلال بالأخذ بهما دون غيرهما، فلا نجاة لأحد من الأمّة إلاّ بالتّمسك بالكتاب العزيز والعترة، ولا بدّ من التمسك بهما معاً، فلا يمكن بأي وجه من الوجوه الاكتفاء بأحدهما والاستغناء عن الآخر، فهما معاً يشكلان الحصانة المانعة من الضلال، وذلك لأنّ القرآن الكريم هو مصدر التشريع الإلهي، والحاوي لقوانين الشريعة وأحكامها وتعاليمها ومعارفها، وأهل البيت «عليهم السلام» هم المبيّن لتشريعات وقوانين وأحكام وتعاليم ومعارف القرآن، وهم القائمون على تنفيذها وتطبيقها، تماماً كما كان النبي «صلى الله عليه وآله» يقوم بذلك في حياته، فجميع وظائف النبي «صلى الله عليه وآله» انتقلت إليهم باستثناء وظيفة تلقي الوحي وتبليغه للنّاس، وذلك لأن النبي لم يرحل عن الدنيا إلاّ بعد أن أكتمل ما أراد الله سبحانه وتعالى أن ينزله من تشريعات دين الإسلام، وهم المعين الصافي والمصدر المضمون المصون لأخذ سنة النبي «صلى الله عليه وآله»، حيث يمتنع وقوعهم في السهو والخطأ والنسيان والتعمّد في نقلها بخلاف ما تلقّوها عنه «صلى الله عليه وآله» وذلك لمكان عصمتهم «عليهم السلام» كما سيأتي، فالقرآن الكريم وأهل البيت يشكلان وحدة واحدة في هداية المسلمين إلى ما هو خير وسعادة لهم في الدّنيا والآخرة.
3- عصمة العترة
وذلك لأنّ النبي «صلى الله عليه وآله» أوجب في حديث الثقلين التّمسك بهم مع الكتاب كما مر، ومن يحتمل معصيته وخطؤه وسهوه واشتباهه يستحيل أن يأمر الله تعالى ونبيّه بالتّمسك به، فلو لم يكونوا معصومين لجاز أن يكون المتمسك بهم ضالاً، وبما أنّ الأمر النبوي بالتسمك بهم مطلق بدون قيد أو شرط، دلّ ذلك على هداية من تمسك بهم مطلقاً، ومن كان التمسك به هداية دائماً، فهو معصوم.
هذا، مضافاً إلى أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد صرّح في حديث الثقلين بعدم افتراقهم عن القرآن الكريم، في قوله: «ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض»، وتجويز المعاصي والأخطاء والاشتباه عليهم يعني تجويز افتراقهم عن القرآن.
وهناك أدلّة أخرى عديدة على عصمة العترة الطاهرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك» 7.
وفيه دلالة على عصمة أهل البيت «عليهم السلام» وذلك لأنّ التخلّف عنهم حال الخطأ لا يعد هلاكاً، والنبي «صلى الله عليه وآله» صرّح فيه بأنّ النجاة في اتباعهم، والهلاك في التخلّف عنهم، فثبت أنّهم لا يخطئون، فإذاً هم معصومون.
وقوله «صلى الله عليه وآله»: «النّجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس» 8.
فلو كان أهل البيت «عليهم السلام» جائزاً في حقّهم الخطأ، لجازت مخالفتهم في حال خطئهم، ولا يعد مخالفهم في هذه الحالة من حزب إبليس، والنبي «صلى الله عليه وآله» اعتبر مخالفهم مطلقاً من حزب إبليس، فدلّ ذلك على أنّ المعنيين في هذا الحديث وهم الأئمة من أهل البيت «عليهم السلام» لا يخطئون، ومن لا يخطئ مطلقاً فهو معصوم.
4-أنّ عترة النبي أعلم الناس بعده
ويدل حديث الثقلين على أنّ الأئمة عترة النبي «صلى الله عليه وآله» أعلم الناس بعده، حيث جعلهم عِدْلَ القرآن، وأنهم لا يفترقون عنه ولا يضلون لا هم ولا المتمسك بهم، وذلك يفيد أنّ عندهم من العصمة والتسديد الرباني والعلوم ما ليس عند غيرهم، فهم أعلم بالكتاب والسنة من غيرهم، وهم السابقون بالخيرات المشار إليهم في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ 9 ، قال الإمام الباقر «عليه السلام» في بيان مصداق السابق بالخيرات في الآية المذكورة: «السابق بالخيرات الإمام، فهي في ولد علي وفاطمة» 10.
والنّصوص الشريفة الدالة على كونهم أعلم الأمّة كثيرة، فالأئمة من أهل البيت «عليهم السلام» ورثوا علم رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأعطوا فهمه، فعنه «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويدخل جنّة ربي عدن غرسها بيده، فليتوّل علي بن أبي طالب «عليه السلام» والأوصياء من بعده، فإنّهم لحمي ودمي أعطاهم الله فهمي وعلمي» 11.
5- أنّ الأئمة على الأمّة هم عترة النبي
ويدل حديث الثقلين أيضاً على إمامة العترة «عليهم السلام» لأنّ من وجب التمسك به لضمان الهداية والعصمة من الضلالة كان معصوماً، ولا بد أن يكون عالماً بالشريعة تمام العلم في معارفها وأحكامها وسائر تعاليمها وتوجيهاتها كعلم النبي «صلى الله عليه وآله» بها وحسب الواقع، وهذا بلا شك هو المستحق لمنصب الإمامة وخلافة الرسول «صلى الله عليه وآله» وليس من يفتقد هذه الصفات، وثبت بدلالة هذا الحديث الشريف وغيره أنّ الأئمة عترة النبي معصومون، وأنّهم أعلم النّاس بعد النبي «صلى الله عليه وآله».
وأمّا أنّه يجب أن يكون عالماً بمعارف الشريعة الغراء وأحكامها وتعاليمها كعلم النبي «صلى الله عليه وآله» بها فواضح، لأنّه لو لم يكن كذلك لما أمكنه القيام بوظيفة تبليغ الشريعة وبيان معارفها وأحكامها وتعاليمها إلى النّاس، ففاقد الشيء لا يعطيه، والمفروض أنّه خليفة النبي والقائم بوظائفه من بعده، فلازمه أن يكون مثله في ذلك.
وأمّا أنّه يلزم أن يكون معصوماً، فلأنّه لو لم يكن كذلك فلربما يقتحم الذنب والمعصية فيبيّن معارف الشريعة وأحكامها أو يفسر آيات الكتاب المجيد على غير واقعها ووجهها الصحيح، أو يخطأ في ذلك أو ينسى شيئاً منها أو من بيانها ومعناها أو يدخل عليه السهو في ذلك، وكل ذلك مخالف للهدف الذي نصب الإمام وجعل من أجله، وهو هداية النّاس، فمن لم يكن معصوماً فلا يؤمن عليه من أن يأخذ بالآخرين إلى طريق الغواية والضلال.
6- أنّ إمامة العترة مستمرة إلى يوم القيامة
كما ويدل حديث الثقلين على أنّ الزمان لا يخلو من واحد من العترة الطاهرة، ممن يجب التمسك بهم 12، ويؤيد ذلك حديث الإثني عشر، المروي عن النبي «صلى الله عليه وآله» والذي يصرّح فيه بأنّ عدد الأئمة على الأمّة من بعد وفاته إلى يوم القيامة هم إثنا عشر إماماً، قال ابن حجر الهيتمي: «وعن ابن مسعود بسند حسن أنّه سئل كم يملك هذه الأمّة من خليفة، فقال: سألنا عنها رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال: إثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» 13.
في معجم أبي يعلى أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: «يكون لهذه الأمة إثنا عشر قيّماً» 14.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «دخلت مع أبي على النبي «صلى الله عليه وآله» فسمعته يقول: إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، قال: فقلت لأبي ما قال؟ قال: «كلهم من قريش» 15.
فهذه النصوص تدل على أنّ خلفاء النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» على أمّته من بعد وفاته وإلى قيام الساعة هم إثنا عشر، فدلالة هذا الحديث هي نفس دلالة حديث الثقلين، فما دامت هذه الأمة موجودة فإنّه لا بد من وجود واحد من الأئمة من عترة النبي «صلى الله عليه وآله» في كل زمان من وجودها يكون هو إمام الأمة وخليفة النبي «صلى الله عليه وآله» عليها.
7- أنّ العترة أفضل الخلق بعد النبي:
ودلالة هذا الحديث على أفضليّة الأئمة من عترة النبي «صلى الله عليه وآله» على غيرهم من بقيّة الأمّة جليّة واضحة لمن تدبّره وفهم معناه، فيكفي في دلالته على أفضليّهم أنّه يدل على عصمتهم، ولا شكّ أنّ المعصوم أفضل من غيره، وأنّه يدل على لزوم التمسك بهم، ومن كان أهلاً لأن يتمسك به، ويكون عاصماً لمن تمسّك به من الضلال فهو أفضل ممن ليس كذلك16.
- 1. المعرفة والتاريخ 1/536.
- 2. مسند أحمد بن حنبل 18/114، برقم: 11560.
- 3. الصواعق المحرقة 2/440.
- 4. معاني الأخبار، صفحة 90.
- 5. بصائر الدرجات، صفحة 434.
- 6. قال التفتازاني: «ألا ترى أنّه «صلى الله عليه وآله» قرنهم بكتاب الله في كون التّمسك بهما منقذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم والهداية فكذا العترة» «شرح المقاصد 2/221».
- 7. المستدرك على الصحيحين 2/476، 3/163، وقال الحاكم النيسابوري: «صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه».
- 8. المستدرك على الصحيحين 3/162، وقال عنه الحاكم النيسابوري: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
- 9. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 32، الصفحة: 438.
- 10. بصائر الدرجات، صفحة 65.
- 11. الكافي 1/209.
- 12. قال ابن حجر: «وفي أحاديث التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض». «الصواعق المحرقة 2/422».
- 13. الصواعق المحرقة 1/54.
- 14. معجم أبي يعلى، صفحة 79.
- 15. صحيح مسلم 3/1452، برقم: 1821.
- 16. المصدر كتاب “دروس من وحي الإسلام” للشيخ حسن عبد الله العجمي، نقلا عن الموقع الرسمي لسماحته حفظه الله.