مع تجدد الاهتمام بفكرة التسامح في المجال الإنساني العام، أخذت هذه الفكرة تتعرض إلى نوع من الشك والنقد والمساءلة، وصل عند البعض إلى حد المطالبة بالتوقف عن استعمال هذه الفكرة، وإخراجها من المجال التداولي، واستبدالها بتسميات أخرى، تحل مكانها، وتنهض بوظيفتها، وتكون أكثر تجليا وتخلقا منها، وأكثر تمثلا لحقلها الدلالي.
ومثل هذه المطالبات والدعوات كنت قد سمعتها في أكثر من مناسبة، وخاصة في المناسبات التي لها صلة بحوار الأديان، وصدرت في الغالب من رجال دين مسيحيين عربا وأوروبيين، الذين كانت لهم تعليقات تحددت حول هذه التسمية، وفي وجهة نظرهم أن كلمة التسامح تعبر عن حالة من التعالي والترفع، وحالة من التفاضل الذاتي غير المنطوق، وتتضمن استنقاصا بالطرف الآخر، وتعني عند البعض بقاء الانتقاد والتعيير بالخطأ.
وكبديل عن هذه الكلمة، هناك من يفضل ويقدم عليها كلمات أخرى، مثل كلمة العفو بوصفها كلمة أخف من كلمة التسامح، ولا تشير إلى تلك الإيحاءات، وتلك الدلالات الموصوفة بالمعيبة، وهناك من يفضل ويقدم عليها كلمة الاحترام التي تساوي بين الأطراف المختلفة ولا تفاضل بينهم، وتفي بالحاجة، وتقوم مقام التسامح، إلى جانب من يفضل كلمة القبول بالآخر باعتبار أن التسامح لا يعني القبول بالآخر، ولا يفصح بهذا القبول والتقبل، ولعل هناك من يفضل كلمات وتسميات أخرى.
ويتصل بهذا الموقف ويتناغم معه، الخطوة المفاجئة التي أقدمت عليها مجلة التسامح الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان، بتغيير اسم المجلة بعد سنوات عدة، من التسامح إلى التفاهم، في خطوة تدل على حالة من المراجعة والشك، أفضت إلى التخلي عن تسمية التسامح، وتفضيل تسمية التفاهم.
وعند النظر في هذا الموقف، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولا: بالعودة إلى المقولة المنطقية المتسالم عليها عند أهل المنطق، والتي تفيد أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، بالاستناد على هذه المقولة، يمكن القول أن هناك التباسا حصل في طريقة تصور فكرة التسامح، أنتجت حكما غير من صورة الموقف نحو هذه الفكرة.
ولرفع هذا الالتباس، وتصحيح التصور تجاه فكرة التسامح، نحتاج إلى إجراء ما يصطلح عليه في أصول الفقه بتنقيح المناط، لمعرفة حقيقة العلة الموجبة للتسامح، العلة التي تلازم التسامح وتدور معه وجودا وبقاء، وتكون علامة وبرهانا عليه، وكاشفة عن طبيعة المورد والأصل الذي يجري فيه العمل بفكرة التسامح.
بمعنى أن التسامح له مورد وأصل يستند عليه، ويتحدد به، ويكوّن مناطا له، وعند النظر والتحقيق في هذا المورد والأصل، نجد أنه يتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي:
العنصر الأول: إن الخطأ يصدر من جميع البشر باعتراف البشر أنفسهم، والإنسان بطبعه وطبيعته خطاء، ويعرف بالإنسان الخطاء، والخطأ صدر ويصدر من الإنسان بغض النظر عن دينه وثقافته، لغته ولسانه، عرقه وقوميته، وليس هناك إنسان في عالم البشر يعصم نفسه عن الخطأ، وهذا ما ينبغي التسليم به، والتكيف معه.
العنصر الثاني: إن الاختلاف بين البشر هي أعظم حقيقة في عالم البشر، وهي من الحقائق الحسية والفعلية والمتجلية في كل آن، وفي كل مكان وزمان، وبين جميع الناس بغض النظر عن دياناتهم وثقافاتهم، لغاتهم وألسنتهم، عرقياتهم وقومياتهم، فالله سبحانه خلق البشر مختلفين، وأراد لهم أن يكونوا مختلفين، والاختلاف الحاصل بين البشر لا خشية منه ولا ارتياب، وهذا ما ينبغي التسليم به، والتكيف معه.
العنصر الثالث: ما دام الخطأ يصدر من جميع البشر، وما دام الاختلاف حادث في عالم البشر، أمام هاتين الوضعيتين هناك حاجة لحالة من الاستباق والتوجيه لطريقة التعاطي مع الخطأ والاختلاف، حتى لا يتحول الخطأ إلى خصومة ونزاع، والاختلاف إلى قطيعة وتباعد، وهذه الحالة الإستباقية والتوجيهية نعني بها فكرة التسامح.
وعلى هذا الأساس، فالحاجة إلى التسامح باعتبار أن الخطأ يصدر من الجميع، فلا بد من الجميع أن يستبق هذه الحالة بفكرة التسامح لتوجيه هذه الحالة، وللرضا بها، وللتكيف معها، وحتى لا يتحول الخطأ إلى خصومة ونزاع، ولأجل مواجهة الخطأ بالتسامح، وهذه هي أمضى
وأجدى طريقة لمواجهة الخطأ، لكونه يصدر من الجميع، بمعنى أن الخطأ لا يواجه بالخطأ، وإنما يواجه بالتسامح، بوصفه موقفا أخلاقيا وإنسانيا نبيلا ومؤثرا، وليس موقفا مترفعا ومتعاليا.
كما أن الحاجة إلى التسامح، باعتبار أن الاختلاف حاصل بين البشر، فلا بد من الجميع أن يستبق هذه الحالة بفكرة التسامح، لإدارة وتوجيه حالة الاختلاف، ولكسب الرضا بهذه الحالة، والتكيف معها، وحتى لا يتحول الاختلاف إلى قطيعة وتباعد، ولأجل إحاطة الاختلاف بمناخ من التسامح، فمع الاختلاف نحن بحاجة إلى التسامح.
ثانيا: إن التسميات المفضلة والمقترحة بديلا عن تسمية التسامح، ليس بإمكانها أن تقوم مقام التسامح، وتحل مكانها، وتنهض بوظيفتها، مع أنها تسميات حسنة في ذاتها، ونحتاج إليها كما نحتاج إلى التسامح، فتسمية العفو ناظرة إلى الخطأ وليس ناظرة إلى الاختلاف، والاختلاف لا يقود بالضرورة إلى الخطأ.
وتسمية الاحترام ناظرة إلى التعامل الحسن وليس ناظرة إلى الخطأ والاختلاف، وتسمية القبول ناظرة إلى علاقة الذات بالآخر، وليس ناظرة كذلك إلى الخطأ والاختلاف، وتسمية التفاهم ناظرة إلى العلاقة مع الأخر، وليس ناظرة أيضا إلى الخطأ والاختلاف.
وبإمكان هذه التسميات وغيرها أن تلتقي مع تسمية التسامح، وتكون معاضدة ومتكاملة معها، لكن ليس بإمكانها أن تحل مكانها.
ثالثا: إن كلمة التسامح هي من الكلمات التي تتصل بالتراث الديني الإسلامي، وبالخبرة الإسلامية، وتنتمي إلى القاموس اللغوي والمفاهيمي لهذا التراث، فهي من الكلمات التي استعملت وصفا للشريعة الإسلامية حين وصفت بالشريعة السمحة، أخذا كما يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، من الحديث (بعثت بالحنيفية السمحة)، فقد صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في هذا المعنى.
ولهذا اعتبر الشيخ ابن عاشور، أن التسامح من خصائص دين الإسلام، وهو من أشهر مميزاته، وأنه من النعم التي أنعم بها على أضداده وأعدائه، وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقررة بقوله تعالى﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ 1.
ويتصل بهذا الموقف ويعاضده، استعمال كلمة التسامح، وترجيح هذه الكلمة في وصف رجل الدين الذي يقال له صاحب السماحة، وحين تتوجه إليه الإشارة يقال له سماحة الشيخ، في دلالة على أن التسامح هي من أقرب الصفات إلى رجل الدين، وفي دلالة أيضا على أن رجل الدين ينبغي أن تكون له شخصية مشعة بالتسامح.
رابعا: باتت كلمة التسامح في عالمنا اليوم، تتصل بخبرات إنسانية خلاقة ونبيلة ومؤثرة، نحن بأمس الحاجة إليها، نحن كبشر نعيش معا في هذا الكوكب، وكأمم ومجتمعات تتصل فيما بينها، وتتقاسم مساحة هذه الأرض الممتدة على مدى البصر، والتفريط بفكرة التسامح هو تفريط بهذه الخبرات التي حملت عنوان التسامح، واتخذت منه منطلقا وأساسا ووجهة.
ومن هذه الخبرات، ما يتصل بخبرات بناء ونهضة دول، مثل سنغافورا، التي تعد من الدول الناجحة في تحقيق التقدم، ولكون هذه الدولة الصغيرة الواقعة في جنوب شرق آسيا، تتكون من مجموعات بشرية متنوعة، تنتمي لأصول عرقية ولغوية ودينية وثقافية مختلفة، صينية وهندية وملاوي وعربية، ومن أجل تحقيق التعايش والأمن والسلام بين هذه المجموعات البشرية، كان لا بد من الالتزام بفكرة التسامح، الفكرة التي أصبحت أحد المبادئ الأساسية التي قامت وتأسست عليها هذه الدولة عند استقلالها سنة 1965م، إلى جانب ثلاثة مبادئ أخرى هي: العدالة والكفاءة والتعليم.
ومن هذه الخبرات أيضا، الخبرة التي تبلورت من خلال المبادرة التي أقدمت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بجعل سنة 1995م سنة الأمم المتحدة للتسامح بناء على طلب من منظمة اليونسكو، التي أصدرت بدورها إعلانا بهذه المناسبة في السادس عشر من نوفمبر 1995م، أطلق عليه (إعلان مبادئ بشأن التسامح)، ودعا لأن يكون اليوم الذي صدر فيه هذا الإعلان يوما عالميا للتسامح، وهذا ما جرى التوافق عليه، وبدأ العمل به ابتداء من سنة 1996م، فقد أصبح العالم يحتفي في كل سنة باليوم العالمي للتسامح المصادف في السادس عشر من شهر نوفمبر، وذلك من خلال القيام بأنشطة ومبادرات تتخذ من التسامح صبغة لها ووجهة.
ومن هذه الخبرات كذلك، الإعلان عن مؤسسات وهيئات دولية وإقليمية ووطنية تعنى بفكرة التسامح، وتتعنون بهذه الفكرة، وتستلهم منها فلسفتها وحكمتها، ومن هذه المؤسسات والهيئات، المجلس الأوروبي للتسامح والمصالحة، وهو منظمة غير حكومية عقدت الاجتماع الأول لها في باريس في 7 أكتوبر 2008م، وتأسست لغرض رصد ومراقبة التسامح في أوروبا، وإعداد توصيات عملية للحكومات الأوروبية والمنظمات الحكومية الدولية بشأن مكافحة الكراهية وظاهرة التمييز العنصري، ويتكون هذا المجلس من قادة سياسيين، وعلماء بارزين حائزين على جائزة نوبل، ومن أفراد اكتسبوا اعترافا عالميا لإنجازاتهم البارزة في المجال الإنساني وتعزيز التسامح.
ومن هذه المؤسسات أيضا، الشبكة العربية للتسامح الذي أعلن عن تأسيسها سنة 2008م، والتي تنطلق بحسب بيانها الأول من ضرورة مواجهة مظاهر الللاتسامح، ونشر ثقافة وقيم ومفاهيم التسامح، ومناهضة كافة أشكال ومظاهر العنف والتعصب في البلدان العربية، إلى جانب مؤسسات وهيئات أخرى إقليمية ووطنية.
هذه بعض الخبرات الإنسانية التي تتصل بفكرة التسامح، وتتأطر بها، وهناك خبرات أخرى على مستوى الندوات والمؤتمرات والحلقات الدراسية العربية والإسلامية والدولية، بالإضافة إلى خبرات في ميادين أخرى.
لهذه الحقائق والمعطيات وغيرها، ينبغي أن نتمسك بفكرة التسامح2.
- 1. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 107، الصفحة: 331.
- 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الحوار (الرياض)، مجلة فكرية ثقافية فصلية، العدد 12، نوفمبر 2013م.